بتاريخ ٢٢ / ١١ / ١٤٤١ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )



دعوة للعيش مع اسم الله الرَّزاق.. الذي تدعوه إذا ضاقت بك الأحوال وقلَّت عليك الأرزاق.

قال الله -عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)} (الذاريات).

وردت هذه الآية في سورة الذاريات التي تتحدث من أولها حتى آخرها عن رزق الله -عز وجل- وعن الأسباب التي تؤتى بها الأرزاق والأسباب

التي قد تمنع وتحول دونها، فالمحور الأساسي للسورة هو الرزق.

ماذا يعني الرزق؟

الرزق هو عطاءات الله -عز وجل-، وهو العطاء الكثير المستمر، فرزق الله -عز وجل- لا يقف عند لحظة, وكل ما ينفع الإنسان فهو رزق؛ لذلك الرزق

قد يكون دنيويًا وقد يكون أخرويًا وقد يكون ماديًا أو معنويًا.

ومن معاني الرزق أنه العطاء المتجدد، فيتجدد باليوم ويتجدد بالأسبوع ويتجدد بالسنة، فهناك أرزاق

تنزل في ليلة القدر، وهناك أرزاق تنزل في وقت الفجر وأرزاق في المساء.

وقد كتب الله الأرزاق للناس فلن يموت أحدٌ إلا وقد أخذ رزقه كاملًا، قال النبي عليه الصلاة والسلام من حديث أبو أمامة:

“إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي، أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها، فاتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ 

أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ تعالى لا يُنالُ ما عندَه إلّا بِطاعَتِهِ “.

] رواه البزار، قال الألباني: صحيح [

بعد أن فهمنا معنى الرزق، فلنتفكّر في آيات سورة الذاريات

يقول الله -عز وجل-: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (١) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (٢) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (٣) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (٤)} (الذاريات).

الذاريات هي الرياح، والرياح هي التي تأتي وتذر ما يكون إيذانًا بالزرع والبذور والحياة، وتحمل أيضًا السحب التي تحمل المطر وتقسم الرزق بين البلاد والعباد.

يقول الله -عز وجل-: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (١١) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢)} (الذاريات).

هنا بدأت السورة تتحدث عن موانع الرزق وهي:

  • أن يشك الإنسان في رزق الله: فمتى ما بدأ الشك يدخل إليه بأن الله قد لا يرزقه، هذا من موانع الرزق! ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث: ولا يَحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرِّزقِ أن يطلُبَه بمَعصيةِ اللهِ، فإنَّ اللهَ تعالى لا يُنالُ ما عندَه إلّا بِطاعَتِهِ “. ]رواه البزار، قال الألباني: صحيح[
  • أن يكون الإنسان في غفلة من أمره: فلما ينسى الآخرة وتدور الحياة عنده على المزاج والهوى وكأن الدنيا لهو ولعب فقط، فهو في غفلة من رزق الله وعن أمر الله وعن الدار الأخرة.
  • أن يستجلب الإنسان رزقه بمعصية الله: فالله قد يحرم العبد الرزق بذنب يصيبه، فيكون لأحدهم باب رزقٍ مفتوح أمامه فإذا هو يُذنب فيُغلق عليه الباب، فحرمان الرزق هو من عواقب الذنوب.

وبعد أن ذكر الله عز وجل موانع الرزق، ثنّى بعدها بأسباب الرزق، فالكتاب مثاني، لا يذكر الجنة إلا ويذكر النار، ولا يذكر الخير إلا ويذكر الشر.

قال الله -عز وجل-: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِين (١٦)

كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(١٧) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) … وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (٢٢)} (الذاريات)

ومن هنا نستخرج أسباب الرزق:

  • التقوى: فلنتذكر قول الله تعالى: {.. وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ … (٣)) (الطلاق) فالتقوى سبب من أسباب الرزق، بل قيل أن التقوى هي مفتاح الأرزاق.
  • الإحسان: فهناك ارتباط جلي بين الإحسان والتقوى كما قال الله -عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (١٢٨)} (النحل).

وما معنى الإحسان؟ الإحسان هو أن تجوّد العمل، هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

  • قيام الليل: قال النبي عليه الصلاة والسلام: “عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد” ]رواه الترمذي وقال: غريب[.

كل ما ذكر في الحديث أرزاق كُتِبَت لأصحاب قيام الليل، فالإنسان عندما يكون صاحب قيام ليل فلا شك أن الله -عز وجل- يرزقه، ويكون ذلك بأنه يغفر ذنوبه ويكفّر عنه سيئاته فتُفتح له أبواب الرزق.

  • الاستغفار بالأسحار: الاستغفار في وقت السحر قبل صلاة الفجر سبب من أسباب الرزق، قال -عز وجل-: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (١١) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (١٢){ (نوح).
  • في أموالهم حق للسائل والمحروم: الصدقة والإكرام سبب من أسباب الرزق. فالجزاء من جنس العمل، أنفق ينفق الله عليك، تصدق يتصدق الله عليك، أحسن يحسن الله إليك.
  • اليقين : اليقين بأن الله سيرزقنا هو أيضًا سبب من أسباب الرزق، وهو يقابل الشك الذي بدأت فيه السورة في قوله تعالى {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١){ (الذاريات).

خُتمت السورة وهي تجمع كل هذه المعاني في ثلاثة آيات:

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)} (الذاريات).

ونلاحظ هنا أن اسم الله الرزَّاق لم يأتي في القرآن إلا مرة واحدة وهي في هذه السورة، وجاءت الألفاظ الثانية باسم خير الرازقين، اسم الله (الرازق)

وليس (الرزَّاق).

وجاء لفظ (خير الرازقين) في القرآن خمس مرات:

الموضع الأول: في سورة المائدة عندما طلب الحواريون من عيسى عليه السلام أن ينزل عليهم مائدة.

قال -عز وجل-: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤)} (المائدة).


الموضع الثاني: في قول الله -عز وجل-: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨)} (الحج).

لفظ المهاجر لا يُطلق على الذي يهاجر من أرض إلى أرض فقط، فمن هاجر الذنب والمعصية مخلصًا لله وحده يحظى برزقٍ حسن من الله -عز وجل-.


الموضع الثالث: حينما قال الله -عز وجل-: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)} (المؤمنون).


الموضع الرابع: في قول الله -عز وجل-:{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)} (سبأ).


الموضع الخامس: في قوله -عز وجل-: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١){ (الجمعة).

وللرزق سمات لابد للإنسان أن يذكرها، وهي:

أن رزق الله قديم وليس حديث:  قال النبي عليه الصلاة والسلام: “كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة”. ]رواه مسلم[


رزقك يطلبك: قال النبي عليه الصلاة والسلام:” إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله” ]رواه ابن حبان، قال الألباني: صحيح لغيره[. فكما لا يستطيع الإنسان أن يهرب من أجله، فهو لا يستطيع الهروب من رزقه كذلك.


الرزق موجود في السماء: لذلك على المرء ألا يذل نفسه لأحد ولا يساوم على رزق الله وعلى طاعة الله أحد، والأهم من ذلك أن يكون لديه يقين ألا أحد يستطيع أن يمنع رزقًا قد كتبه الله له.


الرزق لا يُنال إلا بطاعة الله: فإذا عرفنا أن الرزق في السماء، فلنعلم أنه لا يمكن أن نجلب الرزق من عند الله إلا بطاعته

فلا يمكن أن نعصيه ونستجلب هذا الرزق، قال الله -عز وجل-: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ (١٣٢)} (طه).


الصلاة والتقوى هي مفاتيح الأرزاق ولذلك ربط الله عز وجل بين الصلاة والرزق.


الرزق المادي هو أحقر الأرزاق: الكثير يلهف خلف الرزق المادي وهو أحقر الأرزاق، فترى البعض همهم الدنيا والسفر والهدايا

وينظرون لما عند غيرهم ويتمنونه وهكذا يعيشون في دوامة الشعور بالنقص وتمنِّي ما لا يملكونه. فالذي لا يعلم من رزق الله إلا المطعم

والمشرب والأمور الدنيوية فهذا من قل علمه. ولا تنسَ أن حسن الخلق، والأمن في الوطن، والصحة في الجسد، وقوت اليوم، ولقاء الأحبة، وعينك حين ترى وأذنك

حين تسمع و نومك الهنيء كلها من الأرزاق العظيمة المنسية.


الرزق لا يُجنى بالكد فقط: ولذلك يظن البعض أنه كلما عمل أكثر زاد رزقه على قدر عمله، بينما الله ينزل الأرزاق بقدر، فيعطي الإنسان على القدر

الذي يناسبه. ولذلك قد يبذل الإنسان السبب ولكن لا يرزقه الله بما يريد.


ولنعلم أن كثرة الرزق لا تدل على محبة الله، فالله يعطي حتى العاصين. كما أن قلة الرزق المادي لا تدل على الإهانة، يكفي في ذلك رسول الله

صلى الله عليه وسلّم وقد كان يمر عليه الشهر والشهرين والثلاثة ولا يوقد في بيوته النار!

إذا أردت أن تسأل الله عز وجل باسمه الرزاق فاسأله أمران أولًا:

  • الأول: اسأل الله أن يرزقك حبه، فقل اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقربنا إلى حبك، لأنه إذا كان يرزقك كل ذلك الرزق وتكفل برزقك فكيف لا يتحرك قلبك بمحبته!
  • الثاني: اسأله أن يجعلك من المتوكلين، لأن الله -عز وجل- تكفل في رزقك فلا تتكل إلا عليه.
  • الثالث: اسأله ألا تخاف قطع الأرزاق، فالله -عز وجل- هو الذي يملك خزائن السماوات والأرض، فعلى الإنسان أن يحذر ممن يساومه في الحرام، قد يكون رئيسًا في العمل أو صديقًا أو حتى زوجاً.

فقانون الأرزاق هو أكل الحلال وتجنب الحرام، قال عبدالله بن عباس:

(ما من مؤمن ولا فاجر إلا وقد كتب الله له رزقه من الحلال، فإن صبر أتاه رزقه من الحلال، وإن جزع فتناول شيء من الحرام أنقصه الله من الرزق الحلال!).

  • الرابع: أن تسأل الله رزق القلوب، وهو الرزق الأعظم والأنفع وهو العلم بالله ومعرفته وسلوك الطريق الموصل إليه.

أسأل الله أن يرزقنا خشيته بالغيب والشهادة، وأن يرزقنا حبه وحب من يحبه وحب كل عمل يقربنا إلى حبه، وأسأل الله ألا يجعل منا شقيًا ولا ضالًا ولا محرومًا.


* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.