قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا

بتاريخ ١٨ / ٨ / ١٤٤٣ هـ

---

لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )

نزل جبريل -عليه السلام- على النبي ﷺ بالآيات الأولى الخمس من سورة المزمل، وكان التنزيـل

بدايةً لتغيير الأمة، فتغيرت حياةُ النبي ابتداءً؛ فلم يعد ﷺ محمد الأمين الصادق فقط بل أصبح رسولُ الله. فدعنـا هنا نتوقف عند عمليـة

نزول القرآن على النبي ﷺ وكيف قام هذا القرآن بكلِّ هذا التغيير؟ ولماذا يُربط شهرُ رمضان أيضًا بتغيير عاداتنا وأنفسنـا فيه؟

وبأن نُصلِح من خلاله اعوجاج أنفسنا ونزيل صدأ القلوب عنها؟

فلنـراجع في البدايـة تلك التفاصيل المؤثرة، ونضع تركيزنـا ونصب أعيننـا على عاداتنا الكبرى.

إن الحديث عن قيام الليل ليس بحديثٍ جانبي، ولا بحديثٍ ثانوي، بل البداية من هنا، بدايتك

أن يكون لك نصيبٌ من الليل، فلا تُخرِج نفسك من القائمة. ولا تظن أن الكلام الذي سنقوله اليوم لا يعنيك. 

بل كلنـا أحوج ما نكون إلى هذا القيام من أي أحدٍ آخر، نحتاجه لأن نفوسنا لا زالت مترددة، وهذا التردد يُداوَى بقيام الليل.

يقول عبد الله بن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-أن أول ما يُنقص في العبادة في أمة محمد ﷺ التهجد بالليل

ورفع الصوت فيها بالقراءة. إذن حينما ننوي إحياء سنة قيام الليل فلا يقتصر إحياؤنا لها على شهرِ رمضان فقط بل سنتدارس فضلها لاستدامتها في رمضـان وما بعد رمضان.

قال النبي ﷺ حاكيًا عن الأجر الذي يكون لمن أقام الليل: “صلاةُ الرجلِ تَطوُّعًا حيث لا يَراهُ الناسُ تَعدِلُ صلاتَهُ على أعْيُنِ الناسِ خمسًا وعِشرينَ”

المصدر:صحيح الجامع
واختصَّ الفضل بالصلاة التطوعية التي لا يراها الناس

وهي صلاة الليل على الأكثر؛ لأن أكثر الصلوات النهارية -يشهدها بعض الناس.
 فهي -على الأكثر- الصلاة الوحيدة التي يستطيع أن يضمن الإنسان أن يصليها لوحده بمعزلٍ عن العيون فلا يراه أحد.

هذه الصلاة الخفيّة تعدل ما كان بالجهر بأكثر من خمسٍ وعشرين درجة يعني في كل مرةٍ تصلي في الليل ترتفعُ معها بالجنةِ خمسًا وعشرين درجة.

حينما قال الله عز وجل لنبيه ﷺ: ” وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا”

الإسراء:٧٩

والمقام المحمود هو الشفاعة الكبرى، حينما يستشفع النبي ﷺ للعالم كله يوم القيامة، في الموطن الذي يقول الأنبياء

للناسِ فيه من آدم -عليه السلام- وقبل وصولهم للنبي ﷺ: “نفسي نفسي اللهمَّ سلِّم سلِّم” حتى يصلون إلى رسول الله ﷺ فيقول:

“أنا لها”، فيذهب إلى الله عز وجل ثم يسجد عند العرش ويحمد الله عز وجل بمحامد لم يعرف بمثلها. 

ووصول النبي ﷺ إلى المقام المحمود أرشده الله عز وجل إليه من خلال قوله تعالى:

“وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا”

الإسراء:٧٩ 

---

ما هو نصيبنا من نزول الله  تعالى في الثلث الأخير من الليل؟ 

قال تعالى:”فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ”

السجدة:١٧

جـزاءٌ عظيمٌ من أكرم الأكرمين وممن بيده ملكوت كل شيء، كـان لمن؟ كان للذين قال عنهم الله تعالى:

” تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ*فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كانوا يَعْمَلُونَ”

السجدة:١٦-١٧

ستقرّ عينك وستسعد في ذلك اليوم لما ترى الأجر العظيم لنصفِ ساعة نومٍ تركتها قبل الفجر أو ساعة طاعةً لله، فإن كان المقام المحمود

هو لنبينا ﷺ فلأُمته من بعده الدرجات العلا جزاءً لهذا القيام.
ليس هذا فقط، بل إن العبادة الوحيدة التي يتنزل الله عز وجل لها هي قيام الليل والدعاء فيه.

يخبرنا النبي ﷺ عن الله عز وجل أنه ينزل في جوف الليل الآخر في ثلث الليل الآخر.

هل من داعٍ فأعطيه؟ 

هل من تائبٍ فأتوب عليه؟

 هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ 

ينزل الله في كل ليلة.. حينهـا أين تكون؟

أين اخترت أن تكون أو كيف قررت قضاء الوقت الذي ينزل الله عز وجل فيه مرغبًا عباده بالأوبة والرجوع

سائلًا إياهم عمَّن يودُّ لو يتوب فيتوب عليه، أو عن المستغفر ليغفر له، ألسنـا كثيرًا نشكو سطوة الذنوب علينا وتأخرنا في تركها؟

ألسنا نحاول ساعين جاهدين أن نكون ممن أحبهم الله أو غفر لهم أو أنجاهم من النار؟ أنت يا من أذنبت وأكثرت أو أصررت، هذا هو وقت فتح الباب لك، هذا الوقت

الذي أنت بحاجةٍ إلى تفريغ نفسك فيه سائلًا الله -عز وجل- أن يوفقك للتوبة.

وهل من سائلٍ فأعطيه؟ ما أرقك؟

ما هي مطالبك وأمانيك التي انتظرتها طويلًا دون أن تصل إليها أو تقرب هي منك؟

أنت كذلك بحاجةٍ لهذا الوقت! 

هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر؟ هل وهل.. تخيل مرور هذه الأسئلة الربانية من الله تعالى لعباده في الثلث الآخر، وتذكر أين نكون وقتها؟ 

من منـا لا يتمنى دخول الجنة من غير حساب ولا سابقِ عذاب؟ وحينما نقول من غير حساب ولا عذاب، لا بد أن نعرف

ما الذي ينتظرنـا من الحساب؛ لنستشعر لذة النجاة منه ودخول الجنة بعدها، قال الله تعالى على لسانِ المجرمين يوم القيامة:

“وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا”

الكهف:٤٩

إذن فستكون مشاهد حياتنا كاملةً مكتوبةً موثقةً في صفحات كتاب لا ينقص منها شيء، كما قال تعالى:

” اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا”

الإسراء:١٤

فهو كتاب يحوي صفحات فيها سجلات، لكن الآية التي وردت بعدها تعطي بُعد آخر قال الله عز وجل فيها:

“وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا” الكهف:٤٩ ووجد كلٌّ منا ما عمله حاضرٌ وكأنما يراه بالصوت والصورة، قال تعالى:”وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا”

الكهف:٤٩

---

كيف أُدخل قيام الليل في جدولي اليومي؟

الخطوة الأولى:

أتم كل عمل وانشغال في النهار وفرِّغ الليل للعبادة والمناجاة ولذة الاختلاء مع الله عز وجل، انظر لهذا الوقت بنظرة المشفق على نفسه

المحتاج لإصلاح، فقيام الليل هو رئة ثالثة تخنقك الدنيا بدونهـا، في كل لحظة ضعف وانهيار وشعورك بحاجةٍ للتنفس، أخرج نفسك من هذا الشعور بقيام الليل.

---

الخطوة الثانية:

سلِ الله عز وجل التوفيق لهذه الطاعة فلا يمكن أن نخطو خطوةً دون استعانةٍ وتوكلٍ، قد نظنُّ أن القرار يكفي وحده، لكن كم من قراراتٍ

بدأت بخطواتٍ مجهزة لكن صُرِف الإنسان عن قراره دون أن يدرك، وقد تكبِّل الخطوات ذنوبٌ لم تُمحَ، فاصدق وتوكل على الله

ثمَّ قدِّم بين يدي الطاعة طاعةًٌ قبلها حتى توفق لها، كالذكر والاستغفار والسنن التي تسبق قيام الله.

---

الخطوة الثالثة:

عليك بالمجاهدة، قال تعالى: “تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ”

السجدة:١٦ 

قيل: أنهم نازعوا أنفسهم وجاهدوا أنفسهم؛ ليقوموا الليل، فهذه المنازعة ومخالفة الهوى هي مما يحب الله أن يراه منك، ومن المواطن التي

يضحك الله فيها للعبد هي هذا الموطن حينما يباهي الله بعبده الملائكة.

 وجاهد في ألا تنام إلا على طهارة، فنومك على طهارة وأذكار النوم التي تستعين فيها بالله تُقرِّب الملائكة

وتبعد الشياطين الذين يؤخرون قيام العبد عن هذا الموضع، وتحفظك من الوسوسة والهم ومساوئ التصرف

التي يُفضي إليها الهم الحاصل بعد الوسوسة، فيُعان القلب على صفاءه ونقاءه وقوته في الطاعات بعدها.

---

* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.