وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا

بتاريخ ١١ / ٨ / ١٤٤٣ هـ

---

لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )

وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا

في عمر الأربعين كان رسول الله ﷺ وحيداً في غار حراء، قد حبب إليه الخلاء، فكان يذهب إلى ذلك الغار ويجلس

لأيامٍ متتاليةٍ يتحنّث فيه، وكلمة يتحنّث أي أنه كان يعبد الله من غير وجهة، وبينما هو على ذلك الحال، وفي غضون ثلاث ليالٍ بقيت من رمضان

وعلى أصح الأقوال على قول الجمهور في ليلة ٢٧ من رمضان حصلت الحادثة، وإذ بجبريل عليه السلام ينزل في الغار.

كان هذا اللقاء الأول بين النبي ﷺ وبين جبريل -عليه السلام- وعندما تلا جبريل -عليه السلام-:

” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ*خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ*الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ”

الفلق: ١-٥

كانت تلك اللحظة هي اللحظة التي ابتدأ منها نزول القرآن، وهي اللحظة التي أصبح بعدها

محمد رسول الله ﷺ وحمل معه رسالةً ربانية هي منهج حياة. 

تغيّر النبي ﷺ وتغيرت معه أمة عربية لم تكن تعرف من أمرها شيء سوى أن يأكل القوي حقَّ الضعيف، وتغير بها العالم أجمع..

وعدد الذين غيرتهم هذه الرسالة لا يزال في ازدياد منذ تلك الليلة التي نزلت فيها الخمس آيات الأول.

لم ينزل القرآن ليكون خلفيةً صوتيةً في المناسباتِ ولا لنقرأه في

لحظات حزننا فقط، وإنما نزل ليتغير به الإنسان حتى يستطيع بعدها أن يغير بالقرآن العالم.

كان السلف يسمون شعبان شهر القراء؛ لأنهم يتخففون من أشغالهم ويبدؤون بزيادة أورادهم القرآنية

تمهيدًا لتلك الختمات، هذا التدريب يبدأ من شعبان، وسنتحدث عنه من ثلاث زوايا:

الزاوية الاولى: لماذا القرآن بالذات؟ 

الزاوية الثانية: لماذا القرآن ورمضان؟

الزاوية الثالثة: خطوات عملية في العيش مع القرآن

---

الزاوية الأولى: لماذا القران بالذات؟

١) الرحمة والسكينة

يقول النبي ﷺ:” وَما اجْتَمع قَوْمٌ في بَيْتٍ مِن بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عليهمِ

السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ”

المصدر:صحيح مسلم

قد نراه مشهداً عادياً، أشخاصٌ متحلقون يتدارسون القرآن ويحفظونه، لكنه ليس كذلك، هؤلاء تتغشاهم الرحمة. 

أتدري ما معنى أن تتغشاهم الرحمة؟

أي وكأنهم أمطروا بهذه الرحمة، نثرت عليهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة.. لم؟ لأنهم اجتمعوا على كتاب الله الذي نتحدث عنه اليوم.

---

٢) الإنسان لا يبقى إنساناً إلا لو سلم نفسه للقرآن

 قال تعالى:”الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ الْقُرْآنَ*خَلَقَ الْإِنْسَانَ*عَلَّمَهُ الْبَيَانَ”

الرحمن:١-٤

أتعرف ما معنى هذا الترتيب؟

عندما تقرأ في تفسير هذه الآيات، ستجد أن الإنسان لا يبقى إنساناً إلا لو سلّم نفسه للقرآن.

 إذن ليس هناك أي منة على الإنسان لو لم يقرأ القرآن، ولا نعني هنا القراءة التي تمرر بها عينيك

على الآيات فقط وتهذّها هذّاً، بل نعني القراءة التغييرية التي تغيرك، التي تجعلك وكأنك تخلق من جديد، وهي تبدأ حينما تسلّم نفسك للقرآن ليعمل عمله. 

انظر إلى العالم حينما افتقد القرآن، أيَّ مسلكٍ سلك ولأي حالٍ وصل، مقدار الهبوط

الأخلاقي الذي وصلنا إليه، لأن هنالك خلقٌ كثير لم يعرفوا القرآن ولم يتذوقوا حلاوته، إذًا لا يمكن للإنسان أن يكون إنسانا طبيعياً إلا لو قرأ هذا القرآن.

---

٣) لأن البعيد عن القرآن هو حيران ضائع

لماذا القرآن بالذات؟

تعال نرى كيف يصف الله عز وجل أولئك البعيدين عن القرآن، في قولهِ تعالى:

“حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى”

الأنعام:٧١

فأول صفات هذا الإنسان أنه حيران، لا يعرف كيف يتخذ قراراتٍ جازمة؛ لأن الصورة ليست واضحةً أمامه، ويقول الله عز وجل عنه أيضاً:

” وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ”

الحج:٣١

“فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ” أي: يكون هذا الشخص فاقد السيطرة على حياته، فتمر على الإنسان لحظات

يشعر بمشاعر متقلبة، ولا يعرف ما به. أتتخيل أن هناك من يعيش طوال حياته وكأنما يخر من السماء؟

طوال الوقت وهو فقط يحاول أن ينقذ نفسه، ولا زال لا يعرف إلى أين تتجه به خطاه.

---

٤) الموعظة والشفاء

قال تعالى:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ”

يونس:٥٧

حتى نعرف لماذا يصبح الإنسان وكأنما خر من السماء تخطفه الطير أو تهوي به الريح، ولم هو حيران في حياته؟

علينا أن نعرف ما الذي ترك وما هي المعاني المفقودة لديه. 

الموعظة: النصح الرقيق، فالقرآن يربّت على قلبك، القرآن يطبطب على روحك، القرآن ينصحك

نصح الرفيق حينما تسلم قلبك له حينما تكون عيناك التي تقرأه بنية أن تهتدي بهداه.

الشفاء: القرآن ليس دواء، القرآن شفاء؛ لأن الدواء من الممكن أن يشفي ومن الممكن ألا يشفي، فهو ليس

إلا مجرد سبب، فالله عز وجل لم يسمّ القرآن دواء وإنما سماه شفاء، وصفه مباشرةً بالنتيجة.

---

الزاوية الثانية: لماذا كان القرآن بالذات مع رمضان؟

١) شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن 

---

٢) يأتِ الصيام والقرآن شفيعان يوم القيامة

 فهم في الدنيا متلاصقان وفي الآخرة يأتيان يشفعان لصاحبهما، لماذا؟

لكي نفهم السر بينهما علينا أن نرجع لقصة الخلق الأولى، أن نعرف حينما خلق الله عز وجل  الإنسان خلقه من طينٍ.

كنا مجرد طين ثم نفخ الله في آدم عليه السلام من روحه، وهذه الروح هي التي أحيت الإنسان، وكما أن الإنسان

لا يحيا جسده إلا بغذاء الجسد، فمن لا يعتني بالروح من الداخل تمرض وتموت ومصداق ذلك أن الله عز وجل سمَّى من ماتت روحه بالميت. 

قال عز وجل:”أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” 

الأنعام:122

فأي إنسان لا يعرف الله فهو إنسان ميت، ولا تسل عن حال

الذين ماتت أرواحهم وما يعانونه من الشقاء و الحزن والاكتئاب. 

---

٣) لتُكسر السلاسل

يقول الله عز وجل: “وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ*وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا

وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ 

الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ”

الأعراف : ١٧٥-١٧٦

تأمل ودقق النظر إلى المثل الذي ضربه الله لنا للذي انسلخ من القرآن، كانت له علاقةٌ

مع القرآن ثم انسلخ من تلك الآيات، لا يريد أن يطبقها، ويريد عوضًا عن ذلك أن يعيش حياته كما يهوى لا كما يريد الله عز وجل منه. 

“لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا”، أي: أن القرآن هو الذي يرفع الإنسان، وأكمل الله عز وجل هذه الآية بقوله:

“وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ”

فكأنما نرى مشهدًا لإنسانٍ يرتفع بالقرآن وهناك سلاسل على أقدامه تشده إلى الأسفل

وهي سلاسل شهوات الدنيا، فهو يريد أن يحلق ويرتفع بالقران لكن هذه السلاسل تربط أقدامه.

وكي يكسر هذه السلاسل كان شهر رمضان الذي تُربط فيه الشياطين، وتفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار وينادي المنادي:

يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر..

كل هذا كسرٌ  لتلك السلاسل لتحلق الروح بالقران، فحينما تقرأ القرآن في رمضان تعي وتحس بأن هذه القراءة قراءةٌ مختلفة.

---

الزاوية الثالثة: خطوات عملية في العيش مع القرآن

التي سنأخذها من قول الله عز وجل: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى”

البقرة:١٨٥ 

فلو قرأنا القرآن بشكلٍ فإن النتيجة ليست فقط الهدى وإنما بيناتٌ من الهدى، فيعطيك تلك البينات

التي ترى فيها الصورة بشكلٍ واضح ونظرٍ أبلج، مشكلتنا أننا لا نرى الصورة بشكلٍ صحيح. 

 ماذا يجب أن نفعل؟

1) فرّغ نفسك للقرآن:

ولا نعني هنا التفريغ الوقتي وإنما التفريغ النفسي وهذه مجاهدةٌ عظيمة أن تفرغ نفسك نفسياً فلا تنشغل بأي شيء سوى القرآن. 

---

٢) اجعل لك ختمة تفسير قبل دخول رمضان: بعدها ستجد أن تعاملك مع القرآن اختلف، هذا التحضير المعلوماتي مهم جدًا. 

طريقة مقترحة للتركيز أثناء قراءة القرآن:

١-حدد لك مدة مخصصة للقرآن، من الفجر وحتى الشروق مثلًا، لكن احرص أن تحدد مدة تلزمها ولا تتخلى عنها في يومك.

٢-ضع بجانبك ورقة وقلم، ثم ركز وأنت تقرأ عند كل آية، واكتب على الورقة أي كلمة لم تفهمها

وأي سؤال خطر في بالك وأنت تقرأ ولا تبحث عنه مباشرة، فقط سجِّل.

ما الفائدة من هذه الورقة؟  أنك عندما تنتهِ من الجزء ستنتبه إلى الذي سجلته، فلو لم تسجل شيئاً أعد القراءة

لأنه من المحال أن يمر عليك جزء كامل دون أي سؤال أو خاطر أو إحساس.

هكذا ستكون لك ختمة متأنية بجانب ختمتك الأخرى، فمثلاً في كل يوم يكون هنالك جزءٌ واحد مخصصٌ لختمة الأسئلة والوقفات

التي تريد تسجيلها وفهمها، ثم بعد الكتابة، ارجع إلى التفاسير وتأملها لتدخل رمضان بروح مختلفة.

كان لدى السلف ختمة أسبوعية، وهذه هي قراءتهم العادية

وليست قراءتهم في رمضان، ولديهم ختمة سنوية للتدبر، يعيشون فيها مع كلام الله عز وجل.

وكما فرغت نفسك أثناء قراءة القرآن، فرغ نفسك أيضًا لقيام الليل لتكرر الآيات، فجزء من تفريغك النفسي

أن تقرأ القرآن في قيامك الليل، الآن هو الوقت المناسب لتعيد علاقتك بأي سورة من سور القرآن التي تحب وتراجع حفظها

لأن من أجمل الأشياء التي ممكن أن تحصل لك في حياتك هي قيامك الليل بسورة من حفظك.

 قال النبي ﷺ: “من قامَ بعشرِ آياتٍ لم يُكتب منَ الغافلينَ ومن قامَ بمائةِ آيةٍ كتبَ منَ القانتينَ ومن قامَ بألفِ آيةٍ كتبَ منَ المقنطرينَ”

المصدر:صحيح الألباني

ويقول الله عز وجل:”إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا”

المزمل:٦

أي: يعني مواطئة للقلب.

---

توصيات لاغتنام شهر شعبان ورمضان:

1) موقع “إنه القرآن “مساق “تدبر القرآن”  فيه ثلاث محاضرات، ثم يعطونك نموذج تطبيقي لكيفية تدبر القرآن. 

https://cutt.us/wW0X9

---

٢) قراءة كتاب”مفاتيح تدبر القرآن والنجاح في الحياة” للدكتور خالد اللاحم. 

https://cutt.us/46lne

---

٣) اقرأ أو اسمع عن حال السلف مع القرآن. 

---

٤) اقرأ في أسباب النزول: والمهم أن تكون الأحاديث صحيحة، فهذه الأسباب تجعلك تكرر الآية أكثر مرة بعدما تعرف سبب نزولها.

لأن الهدف أن نغير وأن نتغير بالقرآن، لذا يجب أن نغير مدخلاتنا معه، لا تعتمد فقط على معلوماتك القديمة، بل تصفح التفاسير المتعددة

ونوِّع بينها لأنه جزمًا سيكون هناك شيء جديد يغير من علاقتك مع كتاب الله عز وجل في كل مرةٍ تقرأ.

---

* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.