بتاريخ ٢١ / ٣ / ١٤٤٤ هـ
لسماع المحاضرة صوتًا
( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )
حينما يسمعُ الإنسان سِيرًا لأناس عظماء كالصحابة والسلف الصالح عليه أن يتوقف قليلًا ويسأل نفسه: ما الذي يحول بيننا وبين الوصول لتلك
المراتب العليّة في تربية النفس والتغلب على الهوى؟ مالذي يحول دوننا ودون ذلك ونحن بشر مثلنا مثلهم؟ ليسوا أنبياء ولا معصومين ولا أصحاب كرامات، بل بشر عاديون!
جميعهم أخذوا قرارات مهمة في حياتهم وتغيّروا تغيُّراً كبيراً فما الذي جعلهم بهذه القوّة؟ وما الذي جعلهم يستطيعون التغلّب على أنفسهم بينما نحن لا نستطيع؟
ما الذي يجعلنا نمضي سنوات في الطريق إلى الله ونتوب من كثير من الذنوب، ثم فجأة نجد ما يقيّدنا من دون أن نشعر، فإذا به يجرّنا ويعيدنا خطوات إلى الوراء؟
إنه صنم الهوى، وهذا الهوى هو المفسد الأعظم للقلب، ولا يحول دون الأبرار ودون المنازل العليّة إلا هذا الهوى ، ولهذا لم يجعل الله عز وجل للجنَّة طريقًا إلا مخالفة الهوى قال الله -عز وجل-:
﴿وَأَمّا مَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوى* فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوى﴾
(النازعات:40-41)
وهذه المخالفة هي نوع من أنواع الجهاد، فنسمّيه جهاد الهوى.
ما هو الهوى؟
هو ما يحبه الإنسان ويشتهيه، والأصل أن يكون هوى الإنسان إما في الخير أو الشر.
وهناك هوى وشهوات جعلها الله في الإنسان وفطره عليها كي يعيش، كشهوة المأكل والمشرب والملبس والنكاح.
ولكن ما المذموم؟
حينما يتجاوز الحلال إلى الحرام ويبحث الإنسان عن أبواب الحرام لتلبية داعي الهوى. فالهوى بالشرّ
هو الذي يأتي دائمًا بالشريعة مذمومًا فلا يذكر الهوى في الكتاب والسنّة إلّا وذكر مذمومًا.
كيف يعرض الهوى على صاحبه؟
الطريقة الأولى:
أن يغالب العقل، فيقول لك أنت ما زلت شاب صغير، وسيغفر لك الله الزلل!
والحق أن الإنسان مجرد أن يبلغ فهو في دائرة التكليف وداخل في المحاسبة، ولذلك كون الإنسان في مرحلة الشباب
ليس عذر له أن يتبع هواه ما دام عقله معه، وهذا العقل هو المانع له من اتباع الهوى وارتكاب الحرام.
الطريقة الثانية:
أن يأتيك الهوى متمايلًا متلونًا في صورة ما تحب من الحلال، كأن تدخل في علاقة
ويكون هدفها الأخير هو الزواج، فتتحجج بهذا وتقول أنها ليست بعلاقة محرمة.
لذلك من المهم أن يعرف الإنسان من أين يأتيه الهوى. قال ابن القيم-رحمه الله-:
“الهوى صنم ولكل عبد صنم في قلبه وإنما بُعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكسر الأصنام وعبادة الله
وليس مراد الله كسر الأصنام المجسّدة وترك أصنام القلب بلا تكسير”.
فلابد أن يرجع كل منا إلى نفسه ويسألها
ما هو الصنم لديه الذي يحتاج إلى تكسير؟ ما هو الهوى الذي يأسره وبسببه قراراته الكبرى متوقفة!
ما هي الأسباب التي تجعلنا غير قادرين على مقاومة الهوى؟
أخطاء تربوية منذ الصغر:
فكلما أراد الطفل شيئًا يُنفَّذ له، وكلما اشتهى أمرًا أُتي له به، وهذا من أكبر الأسباب التي تجعله
لا يستطيع مغالبة وضبط الهوى. فهذه الأفعال كلها تربي على قلة الصبر، وتزيد من الرغبة في اتباع الشهوة.
فقد جاء رجل إلى الإمام أحمد-رحمه الله- بابن له عمره ٣سنوات وقال له: جئتك بابني لترّبيه وتعلمه. فقال له:
الإمام أحمد: قد فات زمان التربية! فقال أبوه؟ وكيف ذلك؟ قال: أليس كلما بكى أرضعته وكلما اشتهى شيئًا أعطيته فقد أفسدته.
لذلك هذا الأمر تبدأ جذوره منذ التربية في الصغر، فنجد الصحابيات –رضوان الله عليهم- كن يربين أطفالهن حتى على النوافل
وليس الفرائض فحسب، بينما كثير من الأمهات الآن تتساهل في إيقاظ ابنها ذو 8 سنوات لصلاة الفجر، بحجة أنه صغير.
مجالسة أهل الهوى:
فقد يكون الإنسان على خير ولكن ما إن يجتمع مع أهل الهوى ويسمع حديثهم عن الحرام وتزيينه، يُستثار لفعل الحرام وتخف حرمته مع التفكير فيه.
ضعف المعرفة بالله -عز وجل- وبالدار الآخرة:
فنحن لم نخلق مخلدين في هذه الدار، بل الدنيا هي مزرعة الآخرة، وبحسب ما تعمل هنا يكون لك هناك. فإن ضعفت معرفتنا
بالله والدار الآخرة سنعيش في الدنيا وكل همنا هو كيف نمتّع أنفسنا.
متبع الهوى يجهل عاقبة أمره، وما الذي سيحصل له إن اتبع هواه: قال الله -عز وجل-
﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾
(ص:26).
فاتباع الهوى أصل الضلال، فهو ما يصدك عن الانتفاع بالقرآن ويبعدك عن الذكر ويُثقل الصلاة عليك.
التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
هو ما يجعل الكثير يتمادى في اتباع الهوى، والله -عز وجل- وصف هذه الأمة بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وحثها على ذلك فقال:
﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104).
لذلك مهمة كل فرد منا أن يصحح المفاهيم وينقل الخير في دائرة الأهل والأصحاب من باب القيام بحق الدين وحق الله -عز وجل-، لئلا يتمادى المبتدع ببدعته، وصاحب الهوى بهواه.
ما هي أضرار الهوى؟
مخالفة الهوى أسهل من الوقوع فيه
ثم انتشال النفس منه، فإذا وقعت في أمر محرم فإن ذلك يحتاج منك قوة كبيرة للخروج منه، وكان الأيسر هو تركه ابتداءً.
لذلك من الناس من يقع في الحرام ثم يتوب منه، فإذا أتى عليه ما يذكره به، إذا به ينتكس، ولو لم يخضه ابتداءً لكان أهون عليه.
حينما يتبع الإنسان هواه يفسد قلبه فيحول بينه وبين السلامة، ولا ينفع الإنسان يوم القيامة
إلا أن يأتي الله بقلب سليم، فإذا اتبع هواه مرِض قلبه، والقلب المريض لا ينفعه عند الله عز وجل في الآخرة.
يقول ابن القيم: (ولا تتم سلامة القلب حتى يسلم من خمسة أشياء: من شركٍ يناقض التوحيد، وبدعةٍ
تخالف السنة، وشهوةٍ تخالفُ الأمر، وغفلةٍ تناقضُ الذكر، وهوى نفس يناقض التجرد من شهوات الدنيا).
اتباع الهوى يجعل الإنسان ثقيلًا عن الطاعة، ونقصان الطاعات سبب من أسباب
اتباع الهوى، ويترتب على هذا الاستهانة بالذنوب والآثام، لأنه إذا خف عمل الخير فإن النفس تشغل الإنسان بالمعصية.
الهوى يفسد العقل، فالإنسان عندما يتلطخ بالذنوب تقلّ بصيرته، وتذهب عنه الحكمة، فنراه طائشًا ذا قرارات
وأحكام متسرعة. لأنه قيّد عقله حينما اتبع هواه. لذلك قال المعتصم يوماً لبعض أصحابه:
“يا فلان إذا نصر الهوى ذهب الرأي”.
إذا وسع الإنسان على نفسه في الهوى ضاق عليه قبره في الآخرة، ففي كل مرة تتحرك بها نفسك في داعي الهوى
وتكاد رجلك أن تنزلق في الحرام، تذكر أنك كلما وسعت على نفسك دائرة الحرام كلما ضاق عليك القبر، وزدت حسرة يوم القيامة.
من يتبع هواه تضعف عزائمه، فلما ترى عزائمك خائرة، وفي كل مرة تعزم النية على عمل خير لا تفعله، كأن تنوي توقيت المنبه قبل الفجر
بساعة ثم تستيقظ على وقت الصلاة، فلماذا هذه العزائم الخائرة؟ لأنك لما أتبعت نفسك هواها طوال اليوم لا تتوقع أن تكون بطلاً في قيامك في الليل.
إذا كنت طوال عمرك متبعاً للهوى، وتغلبك الشهوات، فاعرف أنك في آخر عمرك سوف تكون ذليلاً لشهواتك! ومن ملك شهوته في شبابه، أعزه الله في حال كهولته.
لا تغتر بشبابك وتنتظر الكبر حتى ترجع إلى ربك، فمن عاش على شيء مات عليه.
أسأل الله أن يجعلنا من متبعي الهدى وألا يجعلنا من متبعي الهوى.
* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.