بتاريخ ٠٥ / ٠٢ / ١٤٤٥ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )

المقدمة:

            سُوَر القران مليئة بالقصص و المعجزات، ومنها قصة النبي موسى -عليه السلام- مع سحرة فرعون، ومشهد القصة الحاسم

حينما رمى العصا وتحولت هذه العصا إلى حية تسعى حتى قال تعالى :

﴿أُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ﴾

(الأعراف:120-122)

من موقف واحد فقط! فما الذي حصل في أقل من خمس دقائق؟  وهم الذين يناقشون فرعون في أجورهم، أي كم الأجر الذي

سيعطيهم إياه إذا غلبوا موسى -عليه السلام-، كانوا أناساً ذوي تفكير مادي بحت، فمالذي حصل بعد مشهد واحد؟

الجواب عن هذا كله تجده عندما تبحث في أقوال العلماء عن هذا الموقف، قالوا:

لقد قام في قلوب هؤلاء قائم من معرفة الله الذي تصاغرت عنده كل صولات الباطل في لحظة واحدة.

من أين يأتي الإيمان وما هو أصل الإيمان؟ بدايةً الدين الإسلامي يتكون من أمرين: عقيدة وشريعة. فأما العقيدة

هي ما انعقد عليه القلب، وأما الشريعة فهي مجموعة العبادات والمعاملات التي جاءت الأحكام والأوامر والنواهي

التي جاءت لتسند هذه العقيدة. وما أُرسل الرسل بأجمعهم إلا من أجل هذه الحقيقة التي هي حقيقة التوحيد ألا إله إلا الله، ولذلك قال الله -عزوجل-:

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾

(الأنبياء:25).

العقيدة والشريعة:

نسمع هذه الأيام عن الدين الإبراهيمي، وعن وحدة الأديان وتقاربها، ووحدة الوجود، فهل هناك طريق آخر غير الإسلام؟

وهل من الممكن لو سافرنا مرة ورأينا يهوداً أو نصارى أو راهبات، أن نقول لا بأس، هم يعبدون الله على طريقتهم

ونحن نعبد الله على طريقتنا؟ هل من الممكن أن يكون هناك طريق آخر صحيح؟  يقول الله -عز وجل-:

(إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ) 

سورة آل عمران ١٩ نقطة انتهى.

ويقول الله عز وجل مؤكدًا هذه الحقيقة

﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾

(آل عمران:85).

إذاً لن يقبل الله عز وجل إلا طريقاً واحداً، وهو الإسلام.

لا يمكن أن تعبد الله عز وجل إلا كما يريد الله وكما يأمر، فلا يوجد طريق يوصل إلى الله إلا بأوامره

ونواهيه هو جل جلاله، والله -عز وجل- يوم بعث نبينا ﷺ قال النبي: ”بُعِثْتُ أنا والسَّاعَةَ كَهاتَيْنِ“، إذًا نحن نعيش في آخر الزمان، ولما بعث الله النبي ﷺ

بالإسلام كان هو الدين الخاتم والأخير فجعله الله -عز وجل- صالحاً لكل زمان ومكان، فلا يمكن لأحد أن يتحجج

ويقول لا يمكن أن نطبق كل هذه الأحكام في هذا الزمن. إذاً هذا الدين الذي أخبر عنه النبي ﷺ هو الذي يتألف من هذين الركنين:

العقيدة والشريعة، وجمعت هذه في قول الله -عز وجل-:

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾

(النحل:90).

إذًا الله لا يأمر فقط بالتوحيد ولا يأمر فقط بالعبادات، بل يأمر بها جميعا بما

عقد في قلبك، ومعاملاتك مع الناس، وفي عبادتك التي بينك وبين الله عز وجل.

الشريعة لها أركان، هي الأركان المعروفة حينما قال النبي ﷺ:

”بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ شَهادةِ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والحجِّ، وصَومِ رمضانَ“.

 وجاء جبريل في حديث عظيم إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- يسأله عن الإيمان، وعن الإسلام، وعن الإحسان، فقال النبي ﷺ جواباً على السؤال العظيم:

ما الإيمان؟: ”الإيمَانُ أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ ومَلَائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، وبِلِقَائِهِ، ورُسُلِهِ وتُؤْمِنَ بالبَعْثِ“، وقد قال الله عز وجل أيضاً في هذا المعنى:

﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾

(البقرة:177).

إذًا هذا السبعة هي حق الإيمان، وهي الشيء الذي أمرنا الله بهه عز وجل، وهي البر

الذي يريده الله عز وجل. واليوم نفرد الحديث عن أول أصل من هذه الأصول وهو الإيمان بالله.


كيف تكون الحياة إذا تحرك الإيمان في القلب ولماذا نحتاجه؟

هل سيختلف المعنى لإنسان تحرك الإيمان بالله في قلبه عن إنسان آخر لا يوجد إيمان حقيقي أو يقين في قلبه؟

كلاهما مسلمان، يعيشان حياة عادية، ومحافظين على الصلاة، ولكن أحدهما تحركت حقائق الإيمان في قلبه ويعيش بها، والآخر بارد القلب

يعيش حياة دنيوية منغمسة لا يوجد في قلبه ما يربطه بالله، لا يحتسب، ولا يشعر بهذه اللذة، ولا يشعر بالخوف من الله، أو حتى بالشوق إليه

سبحانه وتعالى، يعيش حياته بمنتهى القسوة، فهل هناك فرق بينهما أم لا؟

طبعًا هناك فرق.

إذًا هل نحتاج إلى هذا الإيمان؟ الجواب نعم، نحتاجه في أربعة أركان رئيسة:

والأول: لا يسعد العبد بعبادة ربه إلا بالإيمان؛ فنحن نصلي ولكن من تحركت حقائق الإيمان في قلبه

ويصلي شوقًا وحبًا ورجاءً وخوفًا يختلف عن من يصليها نقراً. فمتى ما كان الإيمان بارداً وجافاً تصبح الحياة قاسية ومملة. قال أحد السلف:

”لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف“.

وهذه سعادة يستشعرها الإنسان حقيقةً، ولذلك اللحظات الأول للتائب يشعر فيها أن نفسه طائر محلق، لأن للتوّ تطهر وتنقى.


 الثاني: لا يمكن الصبر على أكدار الدنيا وابتلاءاتها إلا من خلال الإيمان بالله، الدنيا لا تصفى لأحد، لا غني ولا فقير

ولا ملك ولا عبد، وليس الهدف منها أن نعيش سعيدين ومطمئنين، إن شاء الله تعيش حياة سعيدة، ولكن ليس

هذا هو الهدف، فالدنيا مزرعة الآخرة. يقلب الله عز وجل هذه الدنيا، فمرة يفتح عليك

من أنواع الرغد والمال والبنين ما يغرق الإنسان في كرم الله، وتارة قد يضيق على الإنسان

حتى لكأنه يتنفس من خرق إبرة. ولذلك حين طلب أحد الملوك من وزيره أن يصنع ليه خاتم يكتب عليه شيئاً

إذا مر بسرور عرف أنه مؤقت وعابر، وإذا مرر بضيق تذكر كذلك أنه عابر، فانظر ماذا كتب الوزير:، كتب:

”هذا الوقت سيمضي“، هناك أناس يعيشون هذه الدنيا باستحقاق، أنا لا أستحق أن يصنع بي ربي هذا!

أنا أصلي وأتصدق وأصوم! لماذا هذا الشعور بالاستحقاق؟ لأنك لا تعرف حقيقة هذه الدنيا، فالله قد يمنعك الدنيا

ليعطيك الآخرة، ولو رأيت الآخرة ما ندمتِ على شيء من الدنيا، ففي الآخرة يؤتى بأشقى أهل الأرض، ويُغمس غمسة واحدة

في الجنة ثم يُسأل، هل ذقت شقاءً قط؟ قال لا ياربي ما مر بي شقاءً قط.


الأمر الثالث: أن الإيمان بالله الذي نتحدث عنه يجيب عن كثير من التساؤلات المتداولة، والتي نسمعها تطرح كثيراً، وهي ما تسمى بالأسئلة الوجودية، مثل:

لماذا خلقنا الله؟ ولماذا هناك من يعاني في أفريقيا أو في المناطق التي فيها حروب؟

ولماذا وقع الزلزال على هؤلاء المساكين؟ عندما تعرف حقيقة الإيمان بالله، تجد هذه الأسئلة جميعها

تترتب في عقلك. وتعرف لماذا خُلقت، وما الهدف من الخلق، وكيف أن الله -سبحانه وتعالى- قال: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾

(الفرقان:20).


 والرابع: نحتاج هذا الإيمان لأنه يضبط لنا تصرفاتنا وأخلاقنا، تخيلوا هذا الإنسان المؤمن حقيقةً، ويخشى الله ويخافه، عندما تقدم له

رشوة بالملايين، لا يمكن أن يأخذها، فلا يأخذها إلا ضعيف الإيمان. قال النبي ﷺ:

”لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهو مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهو مُؤْمِنٌ“

يرتفع الإيمان في قلبه كأنه غمامة، فلا يمكن أن يفعل هذه الكبيرة وفي داخله هذا الإيمان. ما الذي يجعل الإنسان لا يكذب في لحظة

يعرف أنه لن ينجيه فيها إلا الكذب، ومع ذلك يصدق، ونرى هذا حقيقة في قصة كعب بن مالك في غزوة تبوك، حين كذب

الذي تخلفوا عن المعركة على رسول الله في سبب تخلفهم، فنالوا دعاء النبي ﷺ لهم بالمغفرة، ولكن كعب بن مالك لم يستطع إلا أن يصدق، فقال لرسول الله:

واللَّهِ ما كُنْتُ قَطُّ أقْوَى، ولَا أيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. فقال رسول الله ﷺ: ”أمَّا هذا فقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ“.


الإيمان بالله بداية كل شيء: كل شيء يبدأ من هذه النقطة، والإيمان بالله هو أصل كل العبادات، ولذلك أول ما عرف الله -عز وجل- نفسه لموسى -عليه السلام-

ماذا قال؟ يا موسى إني أنا ربك:

﴿إِنَّنِىٓ أَنَا ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعْبُدْنِى وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكْرِيَ﴾ (طه: 14)

وعندما جاء جبريل -عليه السلام- إلى النبي ﷺ كان أول تعريف له حينما قال له:

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق:1)

فلاحظ كلمة الرب التي تتكرر معنا، وهذا هو التعريف الأول، لم يقل انظر إلى السماوات

وانظر إلى الأرض، بل أول شيء أعرف أني أنا ربك. ولذلك لما سأل النبي ﷺ أُبي بن كعب فقال له:

”يا أبا المُنْذِرِ، أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ. قالَ: يا أبا المُنْذِرِ أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ معكَ أعْظَمُ؟ قالَ: قُلتُ:

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾

(البقرة: 255).

قالَ: فَضَرَبَ في صَدْرِي، وقالَ: واللَّهِ لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنْذِرِ“. لماذا آية الكرسي؟ 

لأن فيها صفة الرب. طيب ما أعظم سورة في القرآن؟ يقول أبو سعيد -رضي الله عنه-:

”كُنْتُ أُصَلِّي، فَدَعانِي النبيُّ ﷺ فَلَمْ أُجِبْهُ، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، قالَ: ألَمْ يَقُلِ اللَّهُ:

اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذا دَعاكُمْ؟، ثُمَّ قالَ: ألا أُعَلِّمُكَ أعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآنِ قَبْلَ أنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ، فأخَذَ بيَدِي، فَلَمَّا أرَدْنا أنْ نَخْرُجَ، قُلتُ:

يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّكَ قُلْتَ: لَأُعَلِّمَنَّكَ أعْظَمَ سُورَةٍ مِنَ القُرْآنِ قالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، هي السَّبْعُ المَثانِي، والقُرْآنُ العَظِيمُ الذي أُوتِيتُهُ.“ .

وعندما قال النبي ﷺ:

”احْشُدُوا؛ فإنِّي سَأَقْرَأُ علَيْكُم ثُلُثَ القُرْآنِ، فَحَشَدَ مَن حَشَدَ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقَرَأَ:

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ثُمَّ دَخَلَ، فقالَ بَعْضُنا لِبَعْضٍ: إنِّي أُرَى هذا خَبَرٌ جاءَهُ مِنَ السَّماءِ، فَذاكَ الذي أدْخَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ:

إنِّي قُلتُ لَكُمْ سَأَقْرَأُ علَيْكُم ثُلُثَ القُرْآنِ، ألَا إنَّها تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ“. ما الذي يجمع بين هؤلاء كلها؟ أنها تتحدث عن الله.


الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:

أن نؤمن بوجوده، وأن نؤمن بربوبيته، وأن نؤمن بألوهيته، وأن نؤمن بالأسماء والصفات التي جاءت في القرآن عنه.

١– الأول أن نؤمن بوجوده. هل نحن محتاجون لأن نؤمن بوجود الله أصلا؟ من عهد آدم -عليه السلام- إلى السنين المتأخرة

لم يطرأ على البشرية أحد يقول إن الله غير موجود أو ينكر وجود الله عز وجل، وحتى فرعون حينما جاء

وقال أنا ربكم الأعلى وادعى الربوبية قال الله عز وجل عنه : ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ﴾

(النمل:14).

لماذا؟ لأنهم كانوا يعرفون يقيناً وجود الله وينكرون، ففرعون كان يعرف أنه كذاب، وأنه ليس الرب، ويعرف

أن هذا مجرد جبروت وطغيان، وأن هناك رب فوق السماوات، ولذلك المشركين الذي بُعث فيهم النبي ﷺ

ما كانوا ينكرون وجود الله عز وجل كانوا مؤمنين بالله لكنهم أشركوا معه في عبادته.

ابتلينا في العصور المتأخرة بمن طغى في العلم، إلى أن انكروا وجود الله. قالوا الإنسان يستطيع أن يصنع كل شيء، إذاً الإنسان هو الخالق، والكون

هذا هو الذي خلق نفسه، لكن هذا الكلام مردود على أصحابه، نحن نؤمن بوجود الله -عز وجل- لأن الله فطرنا فطرة سليمة تدلنا على وجوده، وأكرمنا بالعقل

الذي يدلنا علي أن نؤمن بوجوده، وبالحس، فأما الفطرة قال النبي ﷺ:

”ما مِن مَوْلُودٍ إلَّا يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ أوْ يُنَصِّرانِهِ أوْ يُمَجِّسانِهِ“

ويقول الكاتب الانجليزي كولن ويلسون -وهو من الملحدين-:

”الساعة الثانية ليلا، وقد أنهيت كتابة مقال أنكر فيه وجود الله، وحين خلدت إلى النوم لم أستطع

إطفاء الضوء خوفاً مما سيفعله الله تعالى بي“.

نحن لا نتكلم عن إنسان في كهف أو غابة، بل عن إنسان حاول أن يثبت بالدليل عدم وجود إله.

وعندما نأتي لدليل الفطرة، لما تجد المكان مبعثر أو متسخ، مباشرة تقون من دخل المكان، صحيح؟ 

فنحن نستدل بالأثر على المؤثر،وعقولنا لاشعورياً تفكر بهذا، وهو من الفطرة فأي حدث له مسبب، وأي موجود لابد أن هناك من أوجده.

وذلك الأعرابي البسيط قال البعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير، ما هو الأثر؟

مواطن الأقدام. وأما العقل فهو أيضاً يدل على وجود الله تكملة كلام الأعرابي لما قال: “البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج

وأرض ذات فجاج وبحر ذات أمواج ألا يدل على القدير العزيز العليم؟“

ولذلك عندما مر الرازي -وهو من علماء المسلمين- الذين دخلوا في علم الكلام والفلسفة والإلحاد، ثم تاب في آخر عمره، في عز شهرته-

على قرية نيسابور، فطلت عجوز وقالت: من هذا الذي اجتمع عليه الناس؟ قالوا: الرازي. قالت: وما يكون الرازي؟ قالوا: الرازي الذي ألف ألف دليل على وجود الله، قالت: وهل يحتاج الله إلى ألف دليل لوجوده؟ ثم قالت: “والله لو لم يقم بقلبه ألف شك لما أتى بألف دليل“.

كيف لنا أن ننكر وجود الله؟ دلالة العقل أن الله عز وجل موجود، فالكون هذا لا يمكن أن يحدث صدفة!

ولذلك الله -عز وجل- كان يحرك عقولهم فيقول: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ (الطور:35).

جبير بن مطعم وكان مشرك حينها سمع النبي ﷺ يقرأ هذه الآيات:

﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ﴾

(الطور:35-37)

يقول جبير بن مطعم فكاد قلبي ينخلع من مكانه. تخيل أنك تسمع

هذه الأسئلة لأول مرة، والأسئلة ربانية، وفي رواية كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي.

ودلالة الشرع إن وجود الله ليس محصوراً على المسلمين، بل حتى اليهود والنصارى يؤمنون بوجود إله.

وأما دلالة الحس ففي الكون كله أدلة على وجود الله عز وجل، وبعيداً عن كل هذه الأدلة الكونية

في خلقه وفي الجمال وفي التفصيل هناك دلالة الحس فيك أنت في أن الله أجاب دعائك، في أن الله كان معك

في لحظة ضر أو في لحظة سراء أو في لطف الله بك. والشيء الثاني أيضاً في دلالة الحس

لو تفكرت في معجزات الأنبياء، نحن الآن نقول أن الله موجود، وعيسى -عليه السلام- الذي تؤمن به كل البشرية، من الذي خلقه من غير أب؟

الله عز وجل!

وموسى -عليه السلام- والذي تؤمن كل البشرية بحادثته في فلق البحر، وأنه انفلق نصفين، من الذي فلق البحر لموسى -عليه السلام-؟

أهو بنفسه ضرب العصى أم أن الله أمر البحر أن ينفلق؟ الله أمر البحر. إذن هذه المعجزات التي نعرفها للأنبياء لم تكن من لدن الأنبياء بل هي من عند الله عز وجل.


٢-الثاني هو أن تؤمن بربوبية الله عز وجل. ما هي ربوبية الله؟ ما معنى كلمة ربوبية؟

أن الله رب، وماذا يعني ذلك؟ قال: هو الذي يقوم على عباده

فيصرف شؤونهم، ويقوم على شؤونهم، الرب من كلمة التربية، والقيام بالإصلاح، فلاحظوا من الذي يتفرد بالخلق والملك والتدبير والرزق؟

هو الله عز وجل.

فالربوبية هي توحيد الله بأفعال الله. لو أتينا إلى هذه النقطة سنجد أن البشرية كلها

لم تنكر أن الله هو مالك الملك، وأن الله هو الخالق، وأن الله هو الرازق، وأنه لا يوجد

متصرف في هذا الكون إلا الله عز وجل، ولذلك إلى يومنا هذا هل يمكن لإنسان أن يوقف الموت عنه لحظة؟

فالكل يسلم أن مالك الملك هو الله عز وجل، وخالق الخلق والمتصرف فيهم هم الله عز وجل، ولذلك لا يمكن لإنسان

أن يرد المرض مثلا عن نفسه، ولذلك قال الله عز وجل محركاً الإيمان في قلوب عبادة:

﴿ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۚ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ﴾

(فاطر:13).

قال الله عز وجل في آيات أخرى مخاطباً النبي -عليه الصلاة والسلام-:

﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)

قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾

(المؤمنون:84-89).

إذا عرفت أن الله هو الواحد الأحد المتصرف في عبادة بالخلق والرزق والملك والتدبير، إذاً من أي قوة تخاف!

وأي شيء قد يحزنك في حياتك؟ 


٣-الثالث من الإيمان بالله أن تؤمن بألوهيته. وهي أن تفرد الله بالعبادة، كلمة (لا إله إلا الله الإله)، ما معنى كلمة الإله؟

قال من أله الفصيل، والفصيل هو ابن الناقة، ومتى يأله؟ حينما يفطم عن حليب أمه، أي عندما

يربطونه في مكان ما، ويتركون أمه ترعى في أماكن الرعي، فهذا الفصيل -ابن الناقة- ينوح شوقاً إلى أمه، فيقول العرب

أله الفصيل ألهاً، أي اشتاق. فهل تخيلتم أن هذه الكلمة هي معنى كلمة الإله؟ فعندما يقال الإله الذي تألهه القلوب، وتشتاق له، وتحن إليه، قال تعالى:

﴿وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ﴾

(البقرة: 163).

نؤمن بألوهية الله عز وجل في قوله:

﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾

(الفرقان:3)

فلا يوجد إنسان يمكن أن يدفع عن نفسه الضر ولا يجلب لها النفع، ولا ينفع غيره إذا مات، ولذلك لا يمكن أن يتخذ

مع الله عز وجل شريك أو إله في أعماله، فلا يرجى إلا الله عز وجل، ولا يخاف إلا الله عز وجل.

وهذا الشيء يجعل الإنسان يعيش قوياً، واضح الملامح، يعرف أنه لا يساوم على ما يريده الله عز وجل، وإذا كان الله يريد

هذا الشيء انتهى، ولا يقبل أن يتنازل لا في شكي ولا في دين لأجل أحد. فعندما نقول لا إله إلا الله فنحن لا نعبد ولا نتوجه بالرجاء والحب والخوف إلا لله عز وجل.


٤– الأمر الرابع هو أن نؤمن بأسماء الله وصفاته. لا نقلب صفحة من صفحات القرآن إلا ونجد اسماً من أسماء الله أو صفة من صفاته:

الحكيم العليم العزيز القدير السميع البصير القريب المجيب. يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-:

”إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إلَّا واحِدًا، مَن أحْصاها دَخَلَ الجَنَّةَ“

قيل من أحصاها أي حفظها، وقيل من أحصاها أي فهمها، وقيل من أحصاها من دعا الله بها محققاً مرادها.

فعندما نقول أن الله هو القابض والباسط، فماذا يقبض؟ وماذا يبسط؟ هل فكرت ما هي الأشياء الكبيرة التي يقبضها الله عز وجل

وماذا قد يقبض عنك فيكون رحمة لك؟ وماذا يبسط الله لك؟ إذا أسماء الله فيها جمال، وفيها جلال، وفيها تعظيم. ولكن كيف نعبد الله؟

وكيف نحبه ونشتاق له؟ إذا عرفنا أسمائه وصفاته.  ولذلك هذه الأسماء نؤمن فيها كما يريد الله عز وجل من غير تحريف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف، وعندما نقول إن الله عز وجل يسمعنا أو يبصرنا فلا نتساءل كيف يسمع؟ وهل هو مثل سمعنا؟ لا ! هذا كله غير وارد:

﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾

(الشورى:11).

وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾

(البقرة:222).

فمن صفات الله أنه يحب التوابين، هذه صفة. فأنا عندما أعرفها فيجب أن أعمل بمقتضى هذا الاسم، إن الله يحب

مني التوبة، وليست التوبة مرة واحدة في العمر، لا! الله يحب مني التوبة دائماً وأبداً. فعندما يقول كعب بن مالك:

”إنَّ مِن تَوْبَتي أنْ لا أُحَدِّثَ إلَّا صِدْقًا ما بَقِيتُ“، ويقول هذا الكلام للتابعين بعدها بأكثر من عشرين سنة

من الحادثة التي حصلت في غزوة تبوك. فكانوا يعيشون على هذا ويعملون بمقتضى هذه الأسماء.

وعندما نقول إن الله يحب التوابين فنعمل بمقتضى هذا الاسم، هذا اسم واحد فقط، وصفة

واحدة من هذه الصفات أن الله يحب التوابين، وعندما نعرف أن الله يحب المتطهرين الذين

لا يطهرون الأجساد فقط بل يطهرون قلوبهم من سوء الظن ومن سوء الخبايا ومن الحسد ومن غيره. كيف يكون هذا الشيء هاجس عندك؟

أن لا أنام إلا وأنا سليم القلب. فمن يعبد الله عز وجل بأسمائه وصفاته تصبح الدنيا مختلفة. ويصبح هذا الإنسان

يعبد الله ويراه حاضراً في كل شيء، الله الحكيم. كيف يثبت القلب؟ وكيف يطمئن القلب؟

وكيف يعيش مطمئن البال؟ عندما يعرف أنه يعبد رباً حكيماً. ومتى يصل الإنسان هذه الطمأنينة؟ حينما يتيقن ويؤمن بالله حقيقة.

خاتمة:

            متى ما عرف الإنسان ربه حق المعرفة تحقق التوحيد في قلبه فلا يتعلق هذا القلب ولا يرجو ولا يخاف

ولا يخشى أحد إلا الله. ومتى ما قام هذا الشعور في قلبك اثبت كما ثبت سحرة فرعون أمام فرعون.

ثم إنه متى ما عرف العبد ربه حق المعرفة، كملت له محبة الله عز وجل وعظمته بمقتضى أسمائه، وأصبح للعبادة

طعم مختلف، تلبسين حجابك وغطاك وأنت مستمتعة بهذا الشعور. وتقولين يا ربي أنت ترى، وتعلمين أن الله يراك، ويا رب

هي لك وفي ذاتك وفي سبيلك، وتمشين وأنت مأجورة في كل خطوة تمشينها.

            ومتى ما عرف الإنسان ربه حق المعرفة حقق مراد الله عز وجل باتباع أمره واجتناب نهيه، ومتى ما قام في القلب

الإيمان بالله ومعرفته وحققها بالإيمان بتوحيده بربوبيته وألوهيته، وتعرف عليه بأسمائه وصفاته، وجد نفسه

قوياً في اتباع الأوامر واجتناب النواهي، فلا يرتكب المعاصي والله يراه، ويستحي أن يعصيه ويطلب منه الرزق

وتدبير الأمر، ولا وهو يستشعر إحاطة الله به، وعنايته، ورحمته، ولذلك قالوا عن محمد بن سوقة:

” لا يحسن أن يعصي الله“، لا يستطيع! هل تتخيل هذه الصفة فيك؟ أي لو طلبوا منه أن يعصي فلا يعرف كيف يعصي.

هذا الإنسان الذي يكون مقام الله عز وجل في قلبه شاهداً وحاضراً.

لا يذهب لمكان فيه منكر أو معصية، ولا يتحمل أن يرى من يعصي الله، فيكون هذا الإيمان في القلب

هو الضابط لك في تصرفاتك وفي أخلاقك. أسأل الله أن يعرفنا به وأن يرزقنا من العلم ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.