بتاريخ ٢٧ / ٠١ / ١٤٤٥ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )

بسم الله رب الغلام

القرآن الكريم حافل بالقصص التي انتصر فيها المسلمون على الكفار: كقصة قوم نوح، قوم هود، قوم لوط، وغيرها الكثير. أما قصتنا اليوم فهي من الفرائد

التي جاءت تعكس الصورة، فليس دائماً الانتصار الدنيوي في صفّك. قصتنا اليوم جاءت بغير تفصيل، لا نعلم زمانها ولا نعلم اسم قومها أو عددهم، ولا النبي الذي أرسل لهم!

لأن كل ذاك لم يكن مهمّاً .. فهي لكل زمان ومكان تعاد فيه قصصاً تشابههم، وعلى قلوبنا التسليم بما أسلمت به قلوبهم .. 

قصتنا هي قصة غلام الأخدود .. هذه القصة ليست من وحي الخيال، بل هي قصة ثابتة أخبر بها النبي عليه الصلاة والسلام، وسنسردها بدايةً من خلال الحديث المعروف: 

حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

” كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ، قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ

غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ، إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ، فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ

ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ

إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ

مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ، حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ

أَفْضَلُ مِنِّي، قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ

لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ، إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ

دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟

قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَجِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقَالَ:

إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ

فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ

ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ:

اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمِ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ:

اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ، فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمِ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ:

مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللهُ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟

قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا

فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ

فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟

قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا

فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: يَا أُمَّهْ اصْبِرِي ‌فَإِنَّكِ ‌عَلَى ‌الْحَقِّ.

أخرجه مسلم في صحيحه


هذا الحديث المعروف عن قصة غلام الأخدود لنامعه وقفات.

وهذه الوقفات لا زالت تتجدد عامًا بعد عام.

الوقفة الأولى: أدوارالحياة تُختزل في قصة.

راهب طاعن في السن يدعو غلاماً إلى دين التوحيد كما هي دعوة عيسى ابن مريم، يعيش منعزلاً يدعو الله سراً ويؤمن به ويخاف أن يعلم أمره الناس. تلك هي بداية المشهد.

أما عن نهايته؛ فغلام صغير يُقتل ليؤمن آلاف الناس على يده بتدبير الله لأمره وتيسيره حتى تكون النهاية كما أراد الله في كل فصول حياته.. 


الوقفةالثانية: الحق أبلج والباطل لجلج.

إشغال الناس بما لم يخلقوا له وتضليلهم من أمور الشعوذة، الخرافات، الأساطير …، ظلمة تجعلهم يستشعرون أنهم يعيشون بين قوى

خفية من جن وشياطين ومَرَدَة، كيف يعرف الإنسان صحة طريقه؟ كيف يعرف من يتبع؟ الطريق واضح كوضوح الشمس كتاب الله وسنه نبيه

عليه أفضل الصلاة والتسليم، طوال القصة لم يقل الغلام مفهوماً عظيماً، لم يبالغ بالسرد حينما أجاب عن ربه، كل ما في الأمر (ربي الله).


الوقفةالثالثة: لاتعرّض عقلك وقلبك للكفر.

حينما طلب الساحر تعليم إنسان لم يطلب طاعناً في السن لا يقوى على العلم، أو شاباً له رأيه ومعتقداته

ومبادئه التي شب عليها، بل طلب طفلاً يشكّل فكره ويتقن سحره ويمهد له طريقاً ينتهي بكونه كاهناً فيتشرب السحر شُرباً.. 

لا تعرّض نفسك لمواطن الكفر والشرك والسحر ليقينك بإيمانك المستقر في قلبك وبحجة الاطلاع للخلاص من أمر يهمك

فيحيد بك الطريق فلا عودة أو عودة مضللة، دورات الجذب والطاقة المنتشرة وأشباهها من استجلاب للرزق والسعادة

هي أشهر طرقهم لتعليمك سحر الكاهن ليتشربه عقلك وقلبك فتكون ذاك الغلام، ومن يدري لعله ليس هناك راهب ينقذك علمه.

لا تجعل قلوب أبنائك وعقولهم أرضاً خصبة لغرس معتقداتهم التي تبث في كل ما هو حولهم لنزع دينهم وعقولهم فهذا هدفهم.. 


الوقفة الرابعة: وجّه طاقاتك وطاقات من حولك إلى النفع المتعدّي. 

حينما طلب الساحر من الملك إنساناً يعلّمه طلب غلاماً ذكياً ليسهل عليه تعليمه وليتأكد من إتقانه، لم يطلب شخصاً عادياً

وإنما ذكياً، فكم من الذكاءات والطاقات نحملها ولا نعلم؟ كم يتقن صغارنا ما نعجز عن مجاراته فإذا بنا وبهم ننشغل في الحياة ونهدر طاقاتنا فيما لا ينفعنا؟

ما هي موهبتك؟ كيف وظفّتها لخدمة غيرك ولخدمة دينك؟ من يتقن الحفظ من صغارك وماذا حفظ؟ والكاتب منهم ماذا كتب؟ ضمور طاقاتهم وطاقاتك ستسأل عنه فبادر به وقدّمه وكن متعدد النفع ولتبدأ اليوم قبل غد.. 


الوقفةالخامسة: إذاأرادالله أمراً هيّأ أسبابه.

لم يكن وجود الراهب في طريق الغلام عبثاً وصدفة بل هو طريق مرسوم هيأ الله له الأسباب، لم يغيّر الغلام الطريق لأن الله

كتبه عليه وكتب فيه الراهب والساحر. أم موسى حينما ألقت طفلاً رضيعاً للتو خرج من أحشائها في بحر، أي عقل يصدق أن ذاك الرضيع

سينجو بل ويعيش حياة كريمة في قصر ملك طاغية ويكبر تحت عينه ورعايته؟ من يصدق أن إطفاء شوق قلب أم موسى سيكون بتغيّر طعم الحليب في فم ذاك الصغير

فلا يقبل سواها؟ أي تدبير تعجز عنه عقولنا التي تفكر في طريقٍ واحد وباب واحد وهو سبحانه من يهيء الأسباب ويفتح الأبواب ليكون لك ما أراد هو لا ما أردت أنت، املأ قلبك باليقين بالله

وآمن أن لك رب حكيم يدبر أمرك كله وادعوه أن يريك حكمته في كل أمر لك كما كان يسأل الغلام الراهب، في كل مرة يزوره ماذا تعبد؟ ويكرر سؤاله علّه يجد إجابة تشفي روحه وعقله المتعطش وإذا بالإجابة:

أعبد الله، وهي صيغة التوحيد الخالص الذي لم يكن موجود في القرية وقت إجابته.. 


الوقفة السادسة: الابتلاء تربية. 

 كان الغلام تلميذاً عند ساحر وراهب في الوقت ذاته يتتلمذ على يد كلاهما فينهل من ذاك سحره وشعوذته وقدرته على إحياء الموتى

وشفاء المريض بتغيير خواص المواد الفيزيائية، وينهل من الآخر أن الله هو الشافي المعافي المحيي المميت، وبينما هو على هذا الحال يوماً تلو الآخر

إذا بالساحر يستبطىء الغلام لتأخره في طلب السحر فينهال عليه ضرباً لتأديبه، وإذا بالغلام يشكو أمره للراهب ليجد له مخرجاً ،، لم يكن ذاك الضرب شراً كما هو

في ظاهره ولكنه ابتلاء الله له لتهيئة الأسباب وإعداد الغلام لأمر عظيم لن يستطيع دونه الثبات والعزيمة ،، يعلم عز وجل أن أرواحنا لن تتوازن حينما تعيش في ترف

ودعة ولكنه ذاك التأرجح بين السرّاء والضرّاء وما بين الابتلاء والتمكين.. 

الناس كلهم في عافية وكلهم يحبون الله عز وجل، وكلهم مؤمنين به، فإذا نزل البلاء تمايزوا.

(ابن تيمية)


الوقفة السابعة: شاور إذا اختلطت الأمور

الغلام حين ابتلي لم يستجب لصوت نفسه الذي يردد ترك الراهب والنجاة من الألم وعدم سلك الطريق له، صوت النفس يشوبه

صوت شيطان يسكنه يردّنا عن كل عمل بدأنا به، يجعلنا نتقاعس عن إكماله، يجعلنا كالغنمة القاصية تلك الفريسة السهلة

على الذئب التهامها، لا تختلي بنفسك كن قوياً بإخوانك واشدد بهم عضدك وشاركهم في أمرك، وإن كنت يوماً المستشار أو المستشير فاعلم يقيناً أن تفريجك على مسلم كربة

من كرب الدنيا تفريجاً لك في كربة من كرب يوم القيامة، فلا تكتفي بالاستماع بل ابذل لتجد حلولًا وليس حلاً..

شاوَر الغلام الراهب بأمره فكانت مشورته أن يذكر للساحر أن أهله منعوه عنه وهم سبب تأخيره، وإن سأله أهله أن يذكر لهم أن الساحر منعه عنهم وهو سبب تأخيره، فبذلك يجد وقتاً للراهب.. 


الوقفةالثامنة: سؤال الله الهداية

لا تتشابه الطرق حين تسأل الله الهداية ولنرى كيف ذاك.. تمر بالمدينة دابة تسد الطريق ويصعب العبور، فيرى ذاك الغلام الذي تعلم السحر

والتوحيد في الوقت ذاته أنها الفرصة المناسبة لسؤال الله هدايته ومعرفة الطريق الصحيح، فيدعو الله بأمر التوحيد المستقر في قلبه ويبدأ

حديثه بكلمة اللهم الدالّة على لجوءه فيكون دعاؤه: اللهم إن كان أمر الراهب إليك أحب من الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس.

حين سأل ذاك الغلام سؤاله لم يكن هدفه الوحيد أن يمضي الناس بل يريد المدد من الله ليدله على الطريق الصحيح، فتلك الحيرة

التي تملأ نفسه بين خالقٍ لم يره ترتاح له نفسه وتوافق فطرته ويجد فيه نور الحق فيطلب منه إيماناً بغيب لا يراه، وبين ذاك الذي يصنع المعجزات أمامه

وتراه عينه، تلك الحيرة التي دعى بها مُزقت حينما رمى حجر صغيراً بيده على تلك الدابة فماتت.. 


الوقفة التاسعة: رب المستحيل يفعل ما يشاء

خالق هذا الكون بأكمله بنواميسه وقوانينه من أمره بين الكاف والنون قادر سبحانه على تغيير خواصه

بخلاف طبيعته، تلك النار المحرقة تصبح برداً وسلاماً على إبراهيم عليه السلام، تلك الشمس التي تدور

في فلك وتوقيت محدد يوقفها الله ليوشع عليه السلام ليدخل المدينة، ما هو مستحيل أن يصدقه عقلك

هو عليه هيّن، فلتستقر هذه الحقيقة في قلبك بأنك صاحب القوة وافرد جناحك على هذه الدنيا واسند ظهرك لأن قوتك لا من بشر بل من رب البشر، وهذا هو حال السلف

الذين استقرت هذه الحقيقة في قلوبهم فحاربوا الدنيا بأكملها بما حملوه من قوة ويقين يسكنهم أن رب المستحيل يفعل مايشاء ..


الوقفة العاشرة: تجرد من الحسد وسوء الطوية

حينما قُتلت الدابة سأل الناس بعضهم عن القاتل فإذا بالإجابة أنه الغلام، فعلم الناس من أمر الغلام

وذاع صيته أن لديه علماً لم يعرفه سواه، فإذا به يشفي المرضى ويبرئ الأكمة والأبرص، وبينما الأمور على هذا الحال يسلك الغلام طريقه إلى الراهب

ليخبره بأمر الدابة وما حصل، فإذا بالراهب يقول: أي بني إنك اليوم أفضل مني وإنك ستُبتلى، فإن ابتليت فلا تدلهم عليّ.. 

لم يخفي الراهب عن الغلام موهبته وذكاءه، لم يملأ الحسد قلبه أن سبقه تلميذه، لم يتذكر طول سنين إيمانه وصغر سن غلامه

وأن والله وهبه المعجزات، بل تجرد من ذاك كله فلم يتركه أيضاً لغرور نفسه، وذكر له أنه سيُبتلى، فكان ذاك الراهب أشبه بورقة ابن نوفل حينما قال للرسول ﷺ

ليتني كنت فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، فقال النبي ﷺ-: أوَمخرجي هم؟ قال له لم يأتِ أحد بمثل ما أوتيت به إلا عودي.. وهذا نهج كل من كان على الحق بأن يُعادَى ممن حوله..


الوقفة الحاديةعشر: استخدم نعم الله -عزوجل- عليك.

حينما ذاع صيت الغلام بين أهل المدينة بأنه يشفي المريض ويبرىء الأكمة والأبرص، لم يكن الغلام من الفرحين بهذه الشهرة، لم يستعلي بها

على الآخرين، لم يستنزف طاقتهم وأموالهم، بل كان ينسب كل ما كان إلى الله وحده، وكان من أمره إن أتاه مريض يطلب شفاءً يطلب الغلام

منه إيمانًا بالله وحده بقوله :(أنا لا أشفي ولكن إن أنت آمنت بالله دعوته لك)، لم يقل إن أنت آمنت بالله شـفيتك، بل من يشفيك هو الشافي

أما أنا فليس بيدي شيء، لا أملك ضرًا ولا نفعاً. فشاعت كلمته وأمر إيمانه بين الناس وربطت قلوبهم بخالقهم، فكثر أتباعه حتى وصل لبلاط الملك

وجليسه الأعمى فجاء إلى الغلام يحمل هدايا كثيرة ليضعها أمامه قائلاً له: كل هذه الهدايا لك إن أنت شفتيني، فلا يرى الغلام ما جلب الجليس بل يرد بثبات ويقين :

(أنا لا أشفي ولكن إن أنت آمنت بالله دعوته لك يشفيك هو الشافي) فآمن الجليس فدعى الله له فشفاه.. 


الوقفة الثانية عشر: الحق إذا ذاقه القلب وخالطه ثبت 

جاء الجليس للملك مبصراً فإذا به يسأله: من رد بصرك؟ فإذا به يجيب غير آبه بطغيانه وجبروته قائلاً: ربي، قال الملك: أنا؟ رد الجليس: لا، ربي وربك الله. 

أي يقين وأي ثبات يجيب به الجليس؟ أي خوف تجرد منه قلبه وأي إيمانٍ ملأه؟ إنه الحق إذا خالط القلب وثبت فاستصغر

كل ما هو دونه وكأنه بفعلته تلك شابه سَحَرة موسى-عليه السلام حينما رأوا معجزته بانقلاب العصا وأنه ليس كسحرهم بل إعجاز

لأنهم أهل السحر وأعلم به فآمنوا، ملأ الإيمان قلب الجليس وذاق حلاوته فعلم علم اليقين أن القوي الله وأن لا رب له سواه فسكنت نفسه.. 


الوقفة الثالثة عشر: ليسكلها بالترهيب قد تأتي بالترغيب. 

يسخط الملك لإجابة جليسه فأخذ يعذبه يوم تلو الآخر حتى دل على الغلام، فحضر ماثلاً أمام الملك فتذكر الغلام، كيف لا وهو الذي اصطفاه

من بين كثير من الغلمان ليعلمه السحر، فيتلطف الملك بقوله: أي بني قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمة والأبرص وتفعل وتفعل…، يهب الملك الغلام طريقاً للتراجع، فيذكّره بفضله

في تعليمه ويجعله يعود عن إيمانه بنسبة كل ما كان للسحر ولكن هيهات هيهات، يرد الغلام الصغير على الملك بثبات:

إني لا أشفي أحداً وذاك ليس سحراً إنما يشفي الله إن دعوته، وما أن انتهى الغلام من حديثه حتى بدأوا بتعذيبه.. 


الوقفة الرابعة عشر: لايمكّن الإنسان حتى يبتلى (سنة كونية). 

لم يزل الغلام الصغير يعذب حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب ليرجع عن دينه فأبى، فإذا به يُنشر بالمنشار ليقسم نصفين

أمام جليس الملك والغلام الصغير، ثم أوتي بالجليس ليرجع عن دينه فأبى، فإذا بنهايته كنهاية الراهب ينشر بالمنشار ليشق نصفين، كل ذلك أمام الغلام الصغير

فيؤتى به ليرجع عن دينه، أو يكون من أمره ما كان من أمر الراهب والجليس، فأبى.. لم يرد الملك استثارة الناس بقولهم إن الملك قتل طفلًا صغيراً بالمنشار فأودى به، فما كان منه

إلا أن قال لحرّاسه خذوه إلى الجبل واسألوه أن يرجع عن دينه فإن أبى فاقذفوه من فوقه، فكان ما كان وأخذوا يخوفونه ويحذرونه من الموت ومن مآله إن خالف أمر الملك.. 

الوقفة الخامسة عشر: عندالكرب لا تفزع إلا لله 

غلام صغير يقف فوق جبل يحيط به عصبة من الرجال ليصدوه عن دينه، لا طريق للنجاة، لا مفر ولا خلاص غير صوت الإيمان

في قلبه ليدعو بيقين: اللهم اكفنيهم بما شئت، أربع كلمات يهتز بها الجبل الثابت.. يسقط الجميع.. يعود هو ماشياً للملك رب المستحيل

يفعل ما يشاء وقتما يشاء هو على كل شيء قدير، عندما تفزع إليه يجيب سؤلك ويفرج كربك..

لم يذهب الغلام إلى قرية أخرى لأنه صاحب همة ورسالة، لم يخف من الموت بل خاف أن يفتن قلبه، فيسأله الملك: ما فعل أصحابك؟

قال كفانيهم الله، ثم يأمر به ليؤخذ في سفينة وسط البحر ويسأل عن دينه فإن أبى أن يقذفوه وسط البحر، وكان ذلك ولما أرادوا أن يقذفوه بعد أن أبى، دعا الله بيقين:

اللهم اكفنيهم بما شئت، يسمع الله صوته فتنكفىء السفينة ويغرق الجميع وينجو هو ويعود ماشياً للملك..

علم الغلام أن الحياة ستكون شبه مستحيلة وأنه يريد أن تكون لحياته رسالة لجميع أهل المدينة أن الله واحد وأنه القادر وأنه الشافي، فذهب للملك قائلاً:

اسمع مني، إنك لن تقتلني حتى تفعل ما آمرك به، اجمع الناس في صعيد واحد ثم خذ سهماً من كنانتي ثم خذ قوسي واجعل السهم في كبد القوس ثم قل بسم الله رب الغلام، فإنك إن فعلت ذلك

تقتلني، وبالفعل جمع الناس وفعل ما قال الغلام، ويدخل السهم في صدغه ولكنه لم يمت ثم يضع الغلام يده على صدغه فتفيض روحه بأمر من الله لا بسهم الملك.. 

فاضت روح الغلام وإذا بآلاف الأرواح تؤمن بما آمن به الغلام، كان الإيمان في قلوب ثلاثة وإذا به يملأ القلوب، فما كان من صغيرهم وكبيرهم إلا أن رددوا آمنا

برب الغلام، فيستشيط الملك غضباً ويأمر بأفواه السكك تحفر بها الأخاديد وتضرم بها النيران وكلما مر أحدهم امتُحن في إيمانه يرجع عنه أو يلقى في النار،، فيلقي الجميع روحه في النار دون سؤال، وكأنهم لتوهم وجدوا طريق الحياة، فصوت إيمانهم يعلو بدخول النار ومن ثم صوت صراخهم وآلامهم وجنود الملك يقعدون على النار يرونهم فيقول الله عنهم (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)

(سورة البروج 4-8) .. 

انتهت حكاية أصحاب الأخدود في دنيانا ولكنها لم تنتهِ عند الله فعند الله تجتمع الخصوم، لم يكن النصر حليفاً لهم كما هي نهايات قصص المسلمين

إلا أن نصر الله حق فخسارتهم بعقلنا البشري هي أرواحهم إلا أنها فوز أبدي لمن اختار ما عند الله عز وجل، فليست كل الخسائر خسائر، بعض الخسائر مكاسب، وليست كل الهزائم هزائم، بعض الهزائم انتصارات، اقرأ ما وراء الحكاية وما وراء النهاية فقد تكون خسارتك بداية لشيء أجمل وأفضل، واقتحم نار الباطل واعلم أن ما عند الله خير وأبقى..


تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.