بتاريخ ٢٣ / ٣ / ١٤٤٢ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )

للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- كرامة عند ربه، لا تقف عند حدود الدنيا، بل تستمر إلى الدار الآخرة، وهي كرامة عظيمة

تسع كل من على وجه الأرض من الإنس والجن، برَّهم وفاجرهم وأسودهم وأبيضهم وعربيهم وأعجميهم؛ فلذلك يفزعون إليه يوم القيامة.

فهذه إحدى كرامات النبي -صلى الله عليه وسلم- “المقام المحمود”، وهو موقف يأتي في منتصف أهوال يوم القيامة.

يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الموقف يومئذ فيقول:  ( يَجْمَعُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ في صَعِيدٍ واحِدٍ، فيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، ويَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، وتَدْنُو الشَّمْسُ

فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ والْكَرْبِ ما لا يُطِيقُونَ، وما لا يَحْتَمِلُونَ)، رواه مسلم ينفذهم البصر: أي أنهم على أرض مسطحة مستوية، ليس شجر ولا جبل، فالكل

يستطيع النظر إليهم، يسمعهم الداعي: فلو أن أي أحد تكلم في ذلك الموقف لسمع من شدة الصمت بسبب هول الموقف، ولا يؤذن لأحد منهم بالحديث. مدة هذا الموقف

خمسون ألف سنة، وعقولنا البشرية لا تستطيع تخيل هذا الوقوف لهذا الوقت، هم في هذا الموقف كالمصلوبين، لا يمنعهم عن الموت

إلا أن الله لم يكتبه عليهم، نتحدث هنا عن بلايين البشر، منذ آدم-عليه السلام- إلى قيام الساعة، كلهم في مكان واحد متزاحمون، لا يملك أحدهم

من الأرض غير موطئ قدميه، مثل ما نرى الناس في الحج بل أعظم، يكون الناس يومها في تراص وصمت مهيب، لا يؤذن لهم بالحراك ولا الكلام، وتدنو الشمس

من الخلائق، فتدنو إليهم إلى مقدار ميل كما جاء في الحديث، سواء كان ميل الكحل، أو ميل المسافة فكلاهما شر على الناس، فيغرق الناس بالعرق

حسب أعمالهم، وكل هذه من أهوال يوم القيامة التي ذكرناها سابقا. 

يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الشَّمسُ مِن رؤوسِهم فيشتَدُّ عليهم حَرُّها ويشُقُّ عليهم دُنوُّها منهم فينطلِقونَ مِن الجزَعِ والضَّجَرِ ممَّا هم فيه)، رواه ابن حبان، وصححه الأرناؤوط.

فيبدأ الناس في أقل الروايات بعد أربعين سنة بالضجر والملل، فها هم خرجوا من قبورهم، ووقفوا في أماكنهم في صمت تام لكل هذه السنين، فيتهامسون بينهم

وبين بعضهم، ويقوم المؤمنون حين تزف لهم الجنة، حيث تجتمع الروايات مرة في وصف المؤمنين، فلما رأوا الجنة أزلفت لهم ولاح نعيمها

تشتاق نفوسهم لها، فيفزعون إلى آدم، فهو أول الخلق وأول الأنبياء، ففي الرواية: (فيفزعُ النَّاسُ ثلاثَ فزعاتٍ ، فَيأتونَ آدمَ)، رواه الترمذي، وصححه.

واجتمعت الروايات الأخرى، يفزعون ثلاث فزعات، قال القرطبي (في فتح الباري):

ذلك حين يجيء بجهنّم، فإذا زفرت فزع الناس حينئذٍ وجثو على ركبهم، (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ)

(الشعراء:90-91)

فتساق جهنم بحلقاتها ويؤتى بها يجرها سبعون ألف ملك، فلّما تزفر ويسمع صوتها: (تغيّظًا وزفيرا)

(الفرقان:12)

لأنها نار تأكل بعضها، يسمعها الناس الذين يعرفون أنها مآلهم، فيجثون على ركبهم، ويدركون أن ما أمامهم جنة ونار، فها هي الجنة تلوح للمؤمنين

وها هي النار تدنو من الكافرين، لا دار ثالثة في المنتصف، فيبدأ الناس بالتحرك، حتى الكفار يتمنون لو أن القضاء يبدأ، حتى ينتهوا مما هم فيه، لا يدرون

ماذا ينتظرهم في النار ولكن بظنهم أن أي شيء قد يكون أهون من هذا العذاب، فيجتمع على الناس هول وكرب الموقف ودنو الشمس، ويشتد الحر حين يؤتى بجهنم، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن نفسه في تلك اللحظة: ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر)

رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.

ويكون هذا بداية الحديث ( أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ )، (يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ في صَعِيدٍ واحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي

ويَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، وتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ والكَرْبِ ما لا يُطِيقُونَ ولَا يَحْتَمِلُونَ، فيَقولُ النَّاسُ:

ألَا تَرَوْنَ ما قدْ بَلَغَكُمْ، ألَا تَنْظُرُونَ مَن يَشْفَعُ لَكُمْ إلى رَبِّكُمْ؟ فيَقولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ:

علَيْكُم بآدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ عليه السَّلَامُ فيَقولونَ له: أنْتَ أبو البَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بيَدِهِ، ونَفَخَ فِيكَ مِن رُوحِهِ، وأَمَرَ المَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، ألَا تَرَى

إلى ما نَحْنُ فِيهِ، ألَا تَرَى إلى ما قدْ بَلَغَنَا؟ فيَقولُ آدَمُ: إنَّ رَبِّي قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا

لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنَّه قدْ نَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غيرِي، اذْهَبُوا إلى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فيَقولونَ:

يا نُوحُ، إنَّكَ أنْتَ أوَّلُ الرُّسُلِ إلى أهْلِ الأرْضِ، وقدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ؟ فيَقولُ:

إنَّ رَبِّي عزَّ وجلَّ قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنَّه قدْ كَانَتْ لي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا علَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غيرِي، اذْهَبُوا إلى إبْرَاهِيمَ،

فَيَأْتُونَ إبْرَاهِيمَ فيَقولونَ: يا إبْرَاهِيمُ أنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وخَلِيلُهُ مِن أهْلِ الأرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ، فيَقولُ لهمْ :

إنَّ رَبِّي قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنِّي قدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ – فَذَكَرَهُنَّ أبو حَيَّانَ في الحَديثِ –

نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غيرِي، اذْهَبُوا إلى مُوسَى فَيَأْتُونَ، مُوسَى فيَقولونَ: يا مُوسَى أنْتَ رَسولُ اللَّهِ، فَضَّلَكَ اللَّهُ برِسَالَتِهِ وبِكَلَامِهِ علَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ، ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ؟

فيَقولُ: إنَّ رَبِّي قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنِّي قدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إلى غيرِي، اذْهَبُوا إلى عِيسَى

ابْنِ مَرْيَمَ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فيَقولونَ: يا عِيسَى أنْتَ رَسولُ اللَّهِ، وكَلِمَتُهُ ألْقَاهَا إلى مَرْيَمَ ورُوحٌ منه، وكَلَّمْتَ النَّاسَ في المَهْدِ صَبِيًّا، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ ألَا تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ؟

فيَقولُ عِيسَى: إنَّ رَبِّي قدْ غَضِبَ اليومَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ قَطُّ، ولَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، ولَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إلى غيرِي اذْهَبُوا

إلى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فيَقولونَ: يا مُحَمَّدُ أنْتَ رَسولُ اللَّهِ وخَاتِمُ الأنْبِيَاءِ، وقدْ غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إلى رَبِّكَ ألَا تَرَى

إلى ما نَحْنُ فِيهِ، فأنْطَلِقُ فَآتي تَحْتَ العَرْشِ، فأقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عزَّ وجلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِن مَحَامِدِهِ وحُسْنِ الثَّنَاءِ عليه شيئًا، لَمْ يَفْتَحْهُ علَى أحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ:

يا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ سَلْ تُعْطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ فأرْفَعُ رَأْسِي، فأقُولُ: أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي يا رَبِّ، فيُقَالُ:

يا مُحَمَّدُ أدْخِلْ مِن أُمَّتِكَ مَن لا حِسَابَ عليهم مِنَ البَابِ الأيْمَنِ مِن أبْوَابِ الجَنَّةِ، وهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيما سِوَى ذلكَ مِنَ الأبْوَابِ، ثُمَّ قالَ:

والذي نَفْسِي بيَدِهِ، إنَّ ما بيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِن مَصَارِيعِ الجَنَّةِ، كما بيْنَ مَكَّةَ وحِمْيَرَ – أوْ كما بيْنَ مَكَّةَ وبُصْرَى)

رواه البخاري ومسلم.

في ذلك اليوم، يغضب الله عز وجل غضبًا لم يغضب مثله قط، وكرر ذلك كل الأنبياء، ونلاحظ تعدادهم لخطاياهم التي لا تعد شيئا يذكر، فيحكي آدم

عليه السلام ذنبًا تاب الله عليه، ونقرأ توبته في القرآن: (فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)

(البقرة:37)

ومع ذلك في تلك اللحظة خاف الأنبياء من ذنوبهم لأنهم يعرفون مقدار غضب الله عز وجل في تلك اللحظة، فذلك اليوم يوم الحساب، اليوم الذي ينتقم فيه

الله عز وجل من الكفرة ومن الظلمة ومن الطغاة، ومن كل من آذى الله عز وجل وآذى رسوله عليه الصلاة والسلام وآذى عباده، ينتقم الله في ذلك اليوم منه، وكما ذكرنا

في أهوال يوم القيامة، بعد موت الناس أجمع، ينادي الله عز وجل: أنا الملك أين الملوك؟ أين الجبابرة؟ فلا يرد أحد، دلالة على نهاية المُلك إلى الله عز وجل.

بعد آدم ونوح عليهما السلام، يأتي الناس إبراهيم -عليه السلام- إبراهيم الذي صدق الرؤيا، إبراهيم الذي بنى البيت، إبراهيم الذي

ترك هاجر في واد غير ذي زرع، يتذكر إبراهيم -عليه السلام -في تلك اللحظة كذباته، وماهي؟ 

عندما قال للنمرود هذه أختي، وكان يقصد أخته في الإسلام، وعندما قال لقومه إني مريض وإني سقيم وغيره، كذبات إبراهيم عليه السلام

نعدها من صالح أعمالنا، ولكن في ذلك اليوم، وغضب الله عز وجل، يعلم إبراهيم -عليه السلام- أن الميزان ثقيل جدا في مثاقيل الذر، وأنه لا يأمن حتى الأنبياء.

في ذلك الموقف، والكل يعلم غضب الله -عز وجل- واجتماع كل البشر، ورد الأنبياء للناس، يكون المقام الشريف للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتيه الناس، فيقول:

(أنا لها أنا لها)، ويفتح الله عليه من المحامد، وهي من أنواع الثناء  والتحميد، ومن أدب الدعاء أن نبدأه بالثناء والمحامد، فيثني صلى الله عليه وسلم على الله تعالى

وهو ساجد تحت عرشه إلى أن يأذن له الله، يظل ساجدا لمدة لا نعلمها، يذكر ما يفتحه الله عليه من المحامد وقتها إلى أن يقول له الله عز وجل:

يا محمد  ارفع رأسك وسل تعطه، فلا يطلب النبي -صلى الله عليه وسلم- هنا شيئا لنفسه ولا لأبنائه ولا لفاطمة ولا لأهله وعمه أبي طالب ولا للمهاجرين

ولا للأنصار ولا لأبي بكر ولا للصحابه، وإنما أول كلمة تشق من فم النبي عليه الصلاة والسلام حين يرفع رأسه هي:

يا رب أمتي أمتي. فيكون أول انفراج في أرض المحشر، أول فوج من الناس يخرجون منها فيدخلون من الباب الأيمن للجنة، دون حساب ولا  عقاب

يمرون مرورا على الصراط، وبقية الناس لا يزالون في أرض المحشر ثم تتطاير الكتب ويبدأ الحساب، ولكن هؤلاء يدخلون الجنة

بمسار خاص بشفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالباب الأيمن من أبواب الجنة، هو لأمة محمد فقط، حجم دفتيه من مكة في الحجاز إلى حمير في اليمن، يقول صلى الله عليه وسلم: (وليأتِيَنَّ عليها يومٌ وهو كظيظُ)، أي مزدحم. رواه مسلم.

يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «أنا سيد ولد آدم، ولا فخر، وأنا أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة، ولا فخر، وأنا أول شافع، وأول مشفع، ولا فخر، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة، ولا فخر»

رواه ابن ماجه، وصححه الألباني. هذا هو المقام المحمود، الذي وعده الله عز وجل لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، وهو المقام الذي أخره الله عز وجل لنبيه، ولن يكون لنبي من الأنبياء هذا المقام المحمود إلا لمحمد  -صلى الله عليه وسلم-.

يقول الله -عز وجل- في سورة الإسراء: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79]

فقيام الليل علينا إنما هو مستحب، ولكنه على نبينا صلى الله عليه وسلم فرضٌ لينال هذا المقام، فهو زيادةٌ في ثوابه ليبلغ تلك المرتبة.

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم الليل فيقرأ البقرة وآل عمران حتى يصل إلى سورة النساء والمائدة، كان يقوم الليل

بما لا يقل عن ست ساعات كاملة، دائما ما كان يوصف قيامه: ( فقام حتى تفطرت قدماه)، أي تشققت، تخيل معنى تشقق الأقدام لا بسبب المشي بل لمجرد الوقوف!

عندما نقارن ركعاتنا السريعة وقيامنا لليل نجد أننا لا شيء أمام قيام الرسول -صلى الله عليه وسلم-

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}

[الإسراء: 79]

وسئل عنها قال: «هي الشفاعة» رواه الترمذي، وحسّنه. جاء في رواية في النسائي نبّه عليها الحافظ بن حجر قال:

وانتبهوا إلى هذه اللفتة، فقبل أن يبدأ الإذن بالشفاعة ينادي  الله عز وجل محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، فيقول النبي

عليه الصلاة والسلام استجابةً لهذا النداء:

(لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك المهدي من هديت وعبدك بين يديك ولك وإليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك تباركت

وتعاليت سبحان رب البيت» فذلك المقام المحمود الذي قال الله {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} [الإسراء: 79]) 

رواه الحاكم، وصححه.

ونجمع الروايات من أكثر من مصدر لنتخيل وصف المشهد ووصف هذا المقام المحمود، يقول النبي عليه الصلاة والسلام:

( إني لقائم أنتظر أمتي تعبر على الصراط، إذ جاءني عيسى فقال: هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون – أو قال:

يجتمعون إليك – ويدعون الله، أن يفرق بين جمع الأمم، إلى حيث يشاء الله، لغم ما هم فيه فالخلق ملجمون في العرق. فأما المؤمن، فهو عليه كالزكمة، وأما الكافر فيتغشاه الموت)

رواه أحمد، وصححه الألباني.

يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- واقفًا على الصراط؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يعبر ويدخل الجنة دون المرور منه، وكذلك الأنبياء كلهم يومئذ واقفون على الصراط ونداؤهم:

اللهم سلّم سلّم، اللهم سلّم سلّم.  يقول النبي عليه الصلاة والسلاة في رواية الترمذي: (أتانِي آتٍ من عندِ ربِّي فخيَّرنِي بينَ أن يدخلَ نصفُ أمتي الجنةَ

وبينَ الشفاعةِ فاخترتُ الشفاعةَ وهي لِمَن مات لا يُشركُ باللهِ شيئًا) رواه الترمذي، وصححه الألباني، واختار -صلى الله عليه وسلم-

الشفاعة لأنها تسع أكثر من النصف. يقول أبو موسى في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره قال:

فعرس بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتبهت بعض الليل إلى مناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلبه فلم أجده. قال:

فخرجت بارزا أطلبه وإذا رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب ما أطلب. قال: فبينما نحن كذلك إذ اتجه إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

فقلنا: يا رسول الله أنت بأرض حرب؛ ولا نأمن عليك، فلولا إذ بدت لك الحاجة قلت لبعض أصحابك فقام معك. قال:

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني سمعت هزيزا كهزيز الرحى، أو حنينا كحنين النحل، وأتاني آت من ربي عز وجل قال: فخيرني بأن يدخل ثلث أمتي الجنة

وبين الشفاعة لهم، فاخترت لهم شفاعتي وعلمت أنها أوسع لهم، فخيرني بين أن يدخل شطر أمتي الجنة وبين شفاعتي لهم، فاخترت شفاعتي لهم وعلمت أنها أوسع لهم “.

قال: فقالا: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يجعلنا من أهل شفاعتك “. قال: «فدعا لهما» . ثم إنهما نبها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

فجعلوا يأتونه ويقولون: يا رسول الله، ادع الله تعالى أن يجعلنا من أهل شفاعتك فيدعو لهم، قال: فلما أضب عليه القوم وكثروا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إنها لمن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله» رواه أحمد، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. هكذا كانت قلوب الصحابة على

حبيبهم صلى الله عليه وسلم، يتفقدونه ويطمئنون عليه في منتصف الليل، يتأكدون بأنه لم يقرصه شي ولم يأته عدو. ثم لم تكن نفسيات الصحابة أن:

فزت وورائي الطوفان، لا أبدا، كانوا إذا عرفوا من الخير شيئا شاركوه، رغم أنهم في الليل والناس نيام قاموا يوقظون بعضهم

البعض، أن قوموا اسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجعلكم من أهل شفاعته.


شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

فالشفاعتان الأولى والثانية لا تنبغي لأحد إلاّ للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي من أصل خمسة شفاعات:

الأولى:  شفاعته لأهل الموقف، وهي الشفاعة العظمى والمقام المحمود.

جاء في روايات أخرى عن هذه الشفاعة أن الله عزوجل يقول: (يخرج من النار من قال:

لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال:

لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة.)

رواه مسلم.

نلاحظ أنه في كل مرة كانت تأتي لا إله إلا الله ثم يأتي بعدها الخير، فلو كان قلبك محبا للخير ولكن في توحيدك شوائب، أي مشكلة تدخلك

في متاهات الشرك، بكل أنواعه القديمة والمعاصرة، كالبطاقات والأسوار والذبذبات، كل ما قد يجرح توحيدك عليك الانتباه منه، كي لا تخرج من هذه الشفاعة.


الثانية: أن يدخل مجموعة من  الناس الجنة من غير حسابٍ ولا عقاب.

جاء في رواية أنهم سبعون ألف، وجاءت صفاتهم، قال صلى الله عليه وسلم:

(يدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا بغير حساب)، ثم دخل ولم يبين لهم، فأفاض القوم، وقالوا:

نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله، فنحن هم، أو أولادنا الذين ولدوا في الإسلام، فإنا ولدنا في الجاهلية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فخرج، فقال:

(هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون)

فقال عكاشة بن محصن: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: (نعم) فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟ قال: (سبقك بها عكاشة)  

رواه البخاري.

يظهر هنا فرق الخطوات، كيف لواحد أن يسبق الآخر، فالسّباق فاز بأن يكون من السبعين ألف، والآخر بمجرد تأخره حياءً

أو ترددًا أو عثرة، لم يجعله من هؤلاء الذين دعا لهم النبي عليه الصلاة والسلام وإن كان سينال الشفاعة بطريقة أخرى، فهذا السباق والإقدام له

منزلة عند الله عز وجل وعند نبيه -صلى الله عليه وسلم-. نلاحظ كم مرة في هذا الموقف والنبي صلى الله عليه وسلم

يدعوا لأمته بالشفاعة، من أول رفعه من السجود، إلى انتظارهم على الصراط، ثم عندما يطلب من الله عز وجل أن يخرج من النار من 

في قلبه مثقال شعيرة من الإيمان، ثم حبة بُر، ثم مثل الذرة. يقول النبي عليه الصلاة والسلام أيضًا:

«وعدني ربي سبحانه أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا، لا حساب عليهم، ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفا، وثلاث حثيات من حثيات ربي عز وجل»

رواه ابن ماجه وصححه الألباني.

فاضربوا الألف بسبعين ألفًا، ثم بسبعين ألفًا، إنه كرم الله عز وجل، وعظمة منزلة

محمد صلى الله عليه وسلم. ثلاث حثيات قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث آخر:

( فقلت يا رب زدني، قال: فإن لك هكذا فحثا بين يديه وعن يمينه وعن شماله)

رواه ابن الجعد، وحسّنه الألباني.

سواء عن النبي عليه الصلاة والسلام أو الحكاية عن الله عزوجل. فحث النبي بيديه عن يمينه وعن شماله، أي أنه ليس فقط

سبعون ألفا من سيدخل الجنة، مع كل ألف منهم سبعين ألفا، إنما فوق هذا ثلاث حثيات من حثيات الله عز وجل، سيأخذها قبضات من يمينه وشماله.


الثالثة: أن يفتح باب الجنة لأهلها وهذه أيضا لا تنبغي إلا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم.

 ففي الحديث  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟

فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك” رواه مسلم.

الرابعة: يشفع النبي للمؤمنين في الجنة أن ترفع منازلهم فيها.

          استدل عليها ابن القيم من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة وقوله: اللهم اغفر لأبي سلمة

وارفع درجته في المهديين، فهو قد دخل الجنة ولكن يدعو له الرسول بأن ترتفع درجته فيها. وكذلك عندما استشهد أبو عامر عم أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-،

فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقال النبي:

اللهم اغفر لعبيد أبي عامر اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك، فلما سمع أبو موسى هذا الدعاء قال:

يا رسول الله ولي، أي فاستغفر لي أنا كذلك يا رسول الله، فقال:

اللهم اغفر لعبدالله بن قيس -أبي موسى- ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريما، أي لو دخل الجنة يكون مدخله كريما.


الخامسة: وهي التي ذكرها ابن القيم في قوم استوجبوا النار ألا يدخلوها.


السادسة: خاصة لأصحاب الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

 قال النبي صلى الله عليه وسلم: “شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي”

رواه أبو داود، وصححه الألباني.

للنبي شفاعة مخصوصة لأهل الكبائر من أمته، فمن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، يفعل المعصية لكنه لا يقوم به شركا بالله

ولا لاتخاذه لله ندا من دونه ولا يشرك في حبه ولا خوفه ولا رجائه مع الله أحدا فهؤلاء يدخلون الجنة، كما قال الله عز وجل:

(من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون قد امتحشوا وعادوا حمما، فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل)

رواه البخاري.

فهؤلاء قوم يخرجون من النار وكانوا قد امتحشوا فيها، أي: تفحموا فيها وأصبحوا سوادا، فيدخلون الجنة، ويسمون بالجهنميين، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، أن مرتكب الكبيرة

لا يخلد في النار، وإنما هو تحت المشيئة إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه، وقد يشفع له بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-:

شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، على عكس عقيدة الخوارج والمعتزلة الذين خلدوا صاحب الكبيرة في النار.

الذين يطلّون على النار فينقذون أصحابهم

هذه ستة أنواع من الشفاعات الثلاث الأولى منها خاصة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وحسب.

أما بقية الأنواع فيشترك بها غير النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأنبياء عليهم السلام والملائكة. فالملائكة تشفع للعباد الصالحين، مثلا للعبد الذي

لا يعرفه أحد من الخلق، مقطوع على جزيرة، فهذا لا يعرفه إلا الملائكة التي تدون عمله، فتشفع له، أو لأي عبد آخر يأذن الله للملائكة أن تشفع له فتفعل.

إذا الملائكة تشفع والأنبياء يشفعون، وكذلك إخوة الخير يشفعون، وهنا يأتي دور الرفقة الصالحة، قال الله عز وجل:

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)

(الزخرف:67)

لماذا عدو؟ لأنه يوم القيامة يلعن هؤلاء الكفار بعضهم بعضا:

( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا)

(الأحزاب 67-68)

فيدعون على بعضهم البعض، وفي المقابل يشفع الصالحون لبعضهم، ففي الحديث عندما يمر المؤمنون على السراط

يكتب الله على بعضهم من أهل الإيمان أن يقع في النار، فلا ينجون جميعهم، فعندما يصل الناجون إلى الجنة، يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: 

“ما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق، قد تبين لكم من المؤمن يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا، في إخوانهم” رواه البخاري. معنى ذلك، أن هؤلاء المؤمنين

بعد أن دخلوا الجنة، وعرفوا أنهم من الناجين وانتهت أهوال القيامة، يناشدون الله عز وجل في حق إخوانهم فيقولون يا ربنا هناك إخواننا الذن كانوا معنا

يصومون ويصلون في الدنيا، لا نجدهم بيننا الآن، شفعنا فيهم،الآن انتهت شفاعة الأنبياء والملائكة والشهداء، فيأتون هؤلاء

يسألون الله أن يشفع لإخوانهم، سواء كانوا إخوان دم أو إخوان رفقة، أحدهم جره ذنب أو تقصير أو من ذنوب الخلوات ما جعله الآن في النار، فيأذن الله عز وجل لهم فيقول الله تعالى:

“اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار”

لأن النار تحرق كل شيء، فتبقي على صورهم، فيطلون عليهم في النار، فيعرفونهم فيخرجونهم منها، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-:

فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول:

اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا “

قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرءوا: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها}

[النساء: 40]  رواه البخاري.

أي أن الله لا يضيع مثقال ذرة من خير، وعندما نقرأ في شروح هذه الأحاديث وتفصيلاتها، نجد أن المؤمنين يأتون أول مرة

فيخرجون الذين يعرفونهم من أقرب الناس لهم، وفي المرة الثانية يخرجون كل من خالطوا في الدنيا، ثم في المرة الثالثة

قد لا يكونون يعرفون هذا العدد من الناس، فيقول لهم: أخرجوا من وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير، فيخرجون كل من عرفوا

أو لمحوا حتى في الدنيا، فلنتخيل أن لقاءنا بشخص واحد لمرة واحدة في الدنيا، إن كان هذا الشخص صالحا قد ينفعنا هذا الموقف في الآخرة في ذاك الموقف، وأسأل الله

أن لا يجعلني وإياكم ووالدينا ومن نحب من هؤلاء، تخيلوا مشاعر الناس في النار، وهم يرون هؤلاء المؤمنين يطلون عليهم ويخرجون

من يعرفونهم من هذا الحريق والعذاب، ففي تلك الساعة يقول الكافرون:

﴿فَمَا لَنَا مِن شَـٰفِعِینَ ۝ وَلَا صَدِیقٍ حَمِیم ۝  فَلَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّة فَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾

(الشعراء:100-102) 

في تلك اللحظة يتحسر الكفار وهم يرون من نفعهم إيمانهم، ومن نفعتهم رفقة الخير التي

كانوا فيها في الدنيا، اولئك الذين كانوا يسخرون منهم، الآن هم من ينقذون أصحابهم من النار. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رجل واحد من هؤلاء الصالحين:

( ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين: ربيعة ومضر) رواه أحمد، وصححه الألباني. ربيعة ومضر قبيلتان

من كبار قبائل العرب، فيخرج الله عز وجل برجل واحد قبيلتين كاملتين، يخرجهم من النار إلى الجنة، ببركة الولد الصالح أو الرجل الصالح الموجود في هذه العائلة، يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-

في الحديث الآخر: «ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي، أكثر من بني تميم» رواه ابن ماجه، وصححه الألباني. وانظروا كم هي قبلية بني تميم

من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، قالوا يا رسول الله سواك؟  قال: سواي سواي، أي ليس أنا بل رجل من أمتي يدخل بشفاعته مثل عدد بني تميم الجنة.


شفاعة الشهداء والأولاد

ومن الذين يشفعون الشهداء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

“للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع

على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه”

رواه الترمذي، وصححه.

فيشفع الشهيد بكرامته لأهله وإن كانوا يستحقون النار فيدخلهم الجنة. وعن أبي حسان قال:

قلت لأبي هريرة أنه قد مات لي ابنان فما أنت محدثي عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: نعم،

«صغارهم دعاميص الجنة يتلقى أحدهم أباه – أو قال أبويه -، فيأخذ بثوبه – أو قال بيده -، كما آخذ أنا

بصنفة ثوبك هذا، فلا يتناهى – أو قال فلا ينتهي – حتى يدخله الله وأباه الجنة»  رواه البخاري. فهذا لكل من مات له من الولد، وقال النبي عليه الصلاة والسلام:

” إن الرجل لترفع درجته في الجنة فيقول: أنى هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك”

رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني.


الشفاعة الأخيرة

ثم إذا انتهت كل هذه الشفاعات وبقي من في النار في النار، وانقطعت أقدام الخلق و انقطعت أعناقهم، وشفع المؤمنون

لكل من يعرفون وانتهت شفاعة الأنبياء والملائكة، تبقى شفاعة واحدة هي شفاعة أرحم الراحمين، يقول الله عز وجل:

(من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون قد امتحشوا وعادوا حمما، فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل)

رواه البخاري.

وهذه شفاعة الله عند نفسه عز وجل، ورحمته التي سبقت غضبه، ومن تمام رحمة الله أن يكرم الشافعين

بأن يشفعوا ويأذن للمشفوع لهم بالشفاعة، فلا يدخل أحد الجنة إلا بإذن الله عز وجل.

هناك من يسمع هذه الأحاديث فيأمن ويقول أنه سيجد من يشفع له، وإن دخل النار فسيخرج منها، وهذا من كرم الله عز وجل وفضله

ومن حسن الظن بالله أن يظن المرء أن الله سيجعل مآله إلى خير، ولكن من يضمن متى؟

ومن لا يجعل نفسه تتحرك شوقا ليكون من الفوج الأول الذين دخلوا من باب الأيمن من الجنة، كيف لا تتوق نفسك إليها؟

ولا تقوم ليلك وتكبد نهارك لتكون من الزمرة الأولى، تلك التي لا تنتظر الشفاعات بل التي تشفع للناس، وإذا لم تكن منهم لم لا تكون مع الذين اجتازوا

الصراط فدخلوا الجنة، لماذا ترضى على نفسك أن تقع من الصراط وتنتظر أحدا ليشفع لك؟

من يضمن لك متى تأتي هذه الشفاعة، وأنت في النار، في العذاب، تخيل نفسك

أن تقرر أن تضع نفسك داخل فرن، ليس نار مجرد هواء ساخن وقضبان ساخنة، تخيل أن تشوي نفسك بيديك، أو ضع يدك وحسب، لا يمكن للمرء

أن يقول سيجرب نار الآخرة ونحن نحترق من نار الدنيا، وهي ليست إلا جزءًا من جهنم، وجهنم أكثر عذابا بتسع وتسعين مرة! 

قال الصحابة: يارسول الله وإن كانت لكافية، أي لو كانت نار جهنم كنار الدنيا لكانت كافية، فكيف يكون عذاب نار الآخرة

وهي أشد حرا وعذابا، وكيف يكون ألم أهل النار، فلا يظن إنسان أن الموضع سهل وبسيط، وأن ننتظر الشفاعة، ويؤخر التوبة، فكيف

إذا أخر الله شفاعته كما أخر توبته؟ أخرت توبتك عشرة سنين، هل تستطيع عشر سنوات في النار؟

هل تستطيع عشرة أشهر؟ عشرة أيام؟ عشر ساعات؟ يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ)

(آل عمران:91) 

يشفع الله عزوجل لهؤلاء، فيقول الله عزوجل: “بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقواما قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له:

ماء الحياة، فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبة في حميل السيل”

رواه البخاري.

 عن عائشة رضي الله عنها قالت: «فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه

وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول:

«اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك»

رواه مسلم.

كل شي تخافه تهرب منه إلا الله عز وجل، إذا خفته هربت إليه، لذلك يبقى الأمل بشفاعة الله عز وجل، ويبقى ركنك الأول

هو الله تعالى فهناك أناس لم يشفع لهم نبي ولا أهل خير ولا رفعت لهم أعمال صالحة فلا عرفتهم الملائكة، هؤلاء يخرجهم الله عز وجل

بلا إله إلا الله الموجودة في قلوبهم، نهرب من الله إليه، قال النبي عليه الصلاة والسلام:

«ليتمجدن الله يوم القيامة على أناس ما عملوا من خير قط، فيخرجهم من النار بعدما احترقوا، فيدخلهم الجنة برحمته، بعد شفاعة من يشفع» رواه أحمد، وحسنه الأرناؤوط.

فاناس ما ظنوا أنهم قد يخرجون من النار يخرجهم الله عز وجل منها.

هناك يوم القيامة من لا يشفع، ولا يكونون من المؤمنين الذين يشفعون لإخوانهم، هذا عبدالملك بن مروان، بعث إلى أم الدرداء بأنجاد من عنده، فلما أن

كان ذات ليلة، قام عبد الملك من الليل، فدعا خادمه، فكأنه أبطأ عليه، فلعنه، فلما أصبح قالت له أم الدرداء:

سمعتك الليلة، لعنت خادمك حين دعوته، فقالت: سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء، يوم القيامة» رواه مسلم

أي لا يكونون شفعاء، فهؤلاء اللعانين الذين يكثرون من اللعن يمنعون من ثلاثة أشياء، لا تقبل شهادتهم في الدنيا بفسقهم، أي لا يقبل القضاة شهادتهم، ولا يرزقون الشهادة

في سبيل الله فيحرمونها بسبب كثرة لعنهم، وأنهم أيضاً لايشفعون ولا يستشفعون للآخرين، فلو نجوا ودخلوا الجنة لا يشفعون لغيرهم ولا يكون لهم خير لغيرهم، وهذا ما جاء في شرح النووي.


أسباب الشفاعة

نختم بخمسة أسباب لمن يبحث عن هذه الشفاعة ولمن يريد أن يكون من أهل الشفاعة

وأن لا يكون من الناس الذين خسروا وليس لهم نصيب من ذلك مطلقًا.

1- ما تكرر في كل الروايات وهو لا إله إلا الله، وهي الإخلاص والتوحيد

عدم الشرك بالله وأن تحفظ نفسك من الشرك الأكبر والخفي، فلا ترى إلا الله في عملك ولا ترائي به أحدا، واحمِ توحيدك

من أنواع الشرك القديم والمعاصر، والأصناف والمجسمات الصغيرة، والطاقة والأحجار،وانتبه على لا إله إلا الله، فهي ضمانك الوحيد يوم القيامة، واحذر من الهوى، كي لا تكون كمن قال الله تعالى فيه:

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ)

(الجاثية:23)

وتذكر سؤال أبي هريرة رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من قال لا إله إلا الله، خالصا من قلبه، أو نفسه»

رواه البخاري.

أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل أحب النبي عليه الصلاة والسلام حباً جمًا ودفع حياته ثمنا للنبي، ومع ذلك يغلي دماغه

يوم القيامة لأنه لم يقل لا إله إلا الله، وهو عمه أبو طالب، عمه الذي دافع عنه وأحبه حباً شديدا وخاصم الأرض كلها

من أجل خاطر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومات في الشعب، محاصرًا في ذلك المكان، ومع ذلك لم ينفعه حبه للنبي إلا بأنه في ضحضاء من النار، أي ليس

في وسط النار على جوانبها، تحت قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، هذا أهون أهل النار عذاباً، وهذا ببركة دفاعه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-

فإذا كان كل حبه لرسول الله لم ينفعه فلا يأتِ إنسان ويظن أن حبه للنبي سيكون هو منقذه فقط يوم القيامة، إذا لم يجتمع مع هذا الحب عمل

واتباع لسنته -صلى الله عليه وسلم-، كما تقوم به الصوفية من البدع والشرك بالله بنبيه

فيستغيثون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- دون الله عز وجل، ويظنون أن الرسول يعلم الغيب، وما يقومون به كالموالد والتبرك بالقبور وبقبر الرسول -صلى الله عليه وسلم-

وهو مما نهى عنه بنفسه، وقال: (لا تتخذوا قبري عيداً)

رواه أبو داود وصححه الألباني.


2- القرآن الكريم

         ذكرنا شفاعة القرآن كثيرا، سواء سورة البقرة وآل عمران أو غيرهمها، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث:

«القرآن شافع مشفع وماحل مصدق من جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار»

رواه ابن أبي شيبة، وصححه الألباني.

ما حل مصدق أي: يسعى لمن قرأه، فمن بركة القرآن أن كل ما نصاحبه في الدنيا سنفارقه بمجرد اللحظة التي نموت فيها، إلا القرآن

والعمل الصالح، ماحل مصدق أي يسعى في عبده، يسعى لمن قرأه، يسعى في الحوائج ويركض فيها ويشتد فيها كأنه إنسان، فيشفع له.


3- التهجد بالقرآن في الليل والصيام

فغير حفظك للقرآن وقرائته، من أسباب الشفاعة قيام الليل بالقرآن، لذلك عندما يطول الليل، فهذه غنيمة، اجعل لك نصيبا من الليل

تترنم فيه بالقرآن، وتتهجد به، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام:

أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه”، قال: “فيشفعان”

رواه أحمد، وصححه الألباني.


4- طلب الوسيلة بعد الأذان

المفترض أن توقف كل كلام الدنيا وقت الأذان، وتردد مع المؤذن، ثم تقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ” حين يسمع النداء:

“اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة” 

رواه البخاري.

فإذا كنت تريد سببا تنال به الشفاعة، فهذا سبب بسيط جداً وسهل، أرخِ أذنك مع الأذان كل مره وردد الدعاء.


5- أهل المدينة

وهذه مخصوصة لأهل هذا البلد، فهنيئا لهم ذلك واللهم اجعلنا منهم، وهم الذين يسكنون المدينة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:

«المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على

لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا، أو شهيدا يوم القيامة» 

رواه مسلم.

فأهل المدينة الذين يسكنون فيها لهم شفاعة خاصة يشفع النبي لهم لأنهم من سكانها، جاء في تفسير الروايات معناها أنها زيادة

في درجاتهم أو تخفيف لحسابهم أو إكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة الخاصة لهم.

كل هذه الشفاعات وهذا الخير لم يذكر فيها شفاعة حبيب لحبيبه أيا كان ذلك الحبيب، سواءً كان زوجًا أو أمًا أو أبًا، أياً كان هؤلاء

فلم تذكر فيهم هذه الشفاعات، وإنما جاءت في الإخوان الصالحين،الذين ترافقوا على الخير في الدنيا، فيوم القيامة

إنما يهرب الناس من بعضهم، لأنهم يتذكرون من كان يأمرهم بالسوء، ويشجعهم على الشر، ولا يدخل في الشفاعات المشركون، كما قال الله تعالى عنهم:

(إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)

(الزمر:7) .

وهؤلاء الذين ينادون يوم القيامة:

﴿فَمَا لَنَا مِن شَـٰفِعِینَ ۝ وَلَا صَدِیقٍ حَمِیم ۝  فَلَوۡ أَنَّ لَنَا كَرَّة فَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾

(الشعراء:100-102)

هؤلاء يشفع لهم النبي -عليه الصلاة والسلام- ولكنهم يحرمون منها، هؤلاء قال الله عز وجل عنهم:

(لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ)

(الأنعام:51)

وقال عز وجل كذلك: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)

(المدثر:48)

وإذا كان الله عزوجل يقول أنه لا تنفعهم شفاعة الشافعين، فلا شيء في الدنيا يستحق أن يحرمنا من هذه الشفاعة، وأن نتنافس

لنكون من أهل الشفاعات الأولى، وتكون أنت من يشفع لإخوانه، ولا تنتظر أن يشفع لك، أسال الله أن يجعلني وإياكم ووالدينا

ومن نحب من أهل شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام وأن يشفعه فينا وأسال الله عزوجل أن يجعلنا من الذين يدخلون الجنة

من غير حساب ولا عقاب وأن يدخلهم من الباب الأيمن من الجنة.

هذا والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .


* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.

15 تعليقات
  1. דירה דיסקרטית בנס ציונה says:

    That is when the regular therapeutic massage classes andd other non-standard therapies work
    wonders to stress-free and healing the body of even probably the most
    nagging and chronic aches and pains plaguing for a number of years.
    It helpps in relieving the muscular paiun and aches.
    Many adherents declare that itt alsso helps in stress-freethe body
    and relieving stress, leaving the person to feel mentally and bodily
    relaxed. Thirdly, an individual dealing with
    thyroid drawback could also have grey shade hairs. Thhe suitable use of the
    Body & Emotion Code is one of the vital accepted ways that may restore
    the wholeness of a person by introducing it to the optimistic energies.
    The use of the Body and Emotion Code and correct message utilizing essential oils or luyxurious homemade face
    cream whereas undergoing such a therapy inn Idaho might bee extraordinarily helpful.
    These important oils can be easily boiught ffrom certified therapeutic therapeutic massage blends suppliers.

    Feel free to suf to my website; דירה דיסקרטית בנס ציונה

  2. zoritoler imol says:

    Nice post. I learn something more challenging on different blogs everyday. It will always be stimulating to read content from other writers and practice a little something from their store. I’d prefer to use some with the content on my blog whether you don’t mind. Natually I’ll give you a link on your web blog. Thanks for sharing.

التعليقات مغلقة