بتاريخ ١٧ / ٠٣ / ١٤٤٥ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )

كما تدين تدان 

الدَيَّان اسم من أسماء الله عزّ وجلّ، وحديثنا اليوم في ظلال هذا الاسم: الدَيَّان.

حينما نتأمل هذا الاسم نجد أنه مشتق من فعل دَانَ، ومعناه ”انقاد وذلّ“، فالذي دانَ له الناس، وانقاد له الناس، ودان له القوم، هو الله الديّان.

ومنه جاء قول الله عز وجل: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة:4)

فماذا تعني مالك يوم الدين هنا؟ 

تعني مالك يوم الحُكم، ومالك يوم الجزاء، ومالك يوم الحساب، وهذه الصيغة هي صيغة مبالغة، تؤكد أنه لن يعمل عامل -كائناً من كان-

بأمرٍ من الأمور إلا والله عز وجل سيقتص منه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشرّ. 

الحساب دقيق جدا والحساب عدل 

لن يبقى أي إنسان يوم القيامة ومظلمته تحشرج في صدره، فإن كان فلان في يوم من الأيام وقف في طريقك، أو بهتك أو ظلمك

سيقتص الله لك منه، فلن يبعث أحد يوم القيامة ومظلمته تحشرج في صدره.

وهذا لا يكون بين الناس فقط، بل حتى البهائم! يُحشرون ويُحْيِيهم الله عز وجل حتى يقتص للشاة

الجَمّاء من القرناء التي نطحتها، ثم يقول الله عز وجل لهم كونوا تراباً، فيكونون ترابا.

يقول الحليمي عن اسم الله عز وجل الدَيَّان: هو المُحاسِب والمُجازِي، ولا يُضيع عملا، ولكنه يجزي بالخير خيراً، وبالشرِّ

شرّاً، وفي هذا المعنى جاءت جملة من أقوال الله عز وجل في كتابه، منها قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)

وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِـٔايَـٰتِنَا وَلِقَآئِ ٱلْـَٔاخِرَةِ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ}

(الروم:15،16)

عندما تقرأ عن مصير أهل الجنة ومصير أهل النار 

اسأل نفسك أين أنا؟ 

من أي فريقٍ أنت؟ وأين سيذهب بك عملك بالوضع الحالي؟ وأين ستكون عندما يقتص الله عز وجل الدَيَّان منك حقوق العباد؟

ولذلك في سورة الزلزلة المهيبة يقول الله -عز وجل-: { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}

(الزلزلة:4)

الأرض تتحدث! ماذا يعني هذا؟!

يعني تتحدث عن ما فعله كل إنسان فوقها، فمن ضمن الشهود يوم القيامة الأرض التي كنا نمشي عليها، الأرض التي

عصيت الله عز وجل فيها، المجلس الذي عصيت الله عز وجل عليه فيه، ولذلك تحدث الأرض أخبارها بما تشهد عليه من أعمال العباد.

وليست الأرض فقط، وإنما قائمة الشهود الطويلة

الجلد والسمع والبصر، يقول الله عز وجل: {حتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـٰرُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}

(فصلت:20)

هل تتخيل الموقف؟ أنك ستسأل جِلدك لماذا تكلّم؟ لماذا قال أنك في الليلة الفلانية فعلت كذا؟

جلدك يتكلم ويخبر عنك! يقول تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ}

(فصلت:21)

تخيل أنك تسأل شعرك لماذا تكلمت؟ لماذا قلت؟ تسأل وجهك! تتكلم جلودهم، كل الجلد يتكلم، يقول سبحانه وتعالى:

{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوٓا۟ أَنطَقَنَا ٱلله ٱلَّذِىٓ أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ

وَلَآ أَبْصَـٰرُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ}

(فصلت:21،22)

ظننّا أنها ستمر وتُنسى، كل الأشياء التي تمر، ظننّا أننا سنعيش طويلاً ثم نتوب، عندما أكبر سأتوب، ولم ندرِ أن الموضوع أقصر من هذا وأفجع!

ثم يقول الله عز وجل: {وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَىٰكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ}

(فصلت:23)

عندما نعرف هذا الاسم ”الدَيَّان“ فنحن بين أن ندعو الله عز وجل به: (دعاء مسألة، أو دعاء عبادة)

وكل اسم من أسماء الله عز وجل، إما ندعوه دعاء مسألة أو دعاء عبادة. 

فما هو دعاء المسألة؟

دعاء المسألة أن تسأل بهذا الاسم، فتقول: يا رحمانُ ارحمني، ويا غفَّار اغفر لي، ويا كريم

أكرمني، ويا وهّاب هب لي، ويا رزّاق ارزقني، فهذا دعاء المسألة. 

إذاً في الدَيَّان متى يعتمد هذا الاسم؟ عندما يظلم الإنسان مظلمة، وحينما يشعر بالجور، وأنه قد ظُلِم، وأنه قد قُهِر، وأن لا شيء في الدنيا

سيعطيه حقه، فهنا ليس له إلا أن يدعو الله باسمه الدَيَّان فيقول: يا دَيَّان اقتص لي، يا دَيَّان خذ لي حقي.

وأما دعاء العبادة:

فهو أن تعيش وأنت مستحضرٌ لاسم الله عز وجل ”الدَيَّان“ أمامك، طوال حياتك، طوال يومك، خلال الأربع وعشرين ساعة، فتعلم أنك ستحاسب

على ما تنظر إليه، وما تسمعه، وما تفعله بيدك، أو تبادر له برجلك، وكل ما يصدر منك خطوة بخطوة.

فعن أبي ذرّ الغفاري -رضي الله عنه- أن رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رأى شاتَينِ تنتطِحانِ، فقال: يا أبا ذرٍّ، هل تدري فيما تنتطِحانِ؟

قلتُ: لا، قال: ولكنّ الله يدري، وسيقضي بينهما“.

لكن الله يدري وسيقضي بينهما 

هذه الكلمة مثل البلسم على القلب، عندما تشعر أنه لا أحد سيعرف أو يفهم حجم هذه المظلمة

التي حلّت على قلبك، وتشعر أنك مهما حاولت، ومهما تكلمت فلن يفهم أحد، تذكرّ أن الله يدري!

سيخاصم الصادق الكاذب، ويخاصم المظلوم الظالم، ويخاصم الضعيف المستكبر، فما من إنسان استهزأ بآخر، أو تكلم عليه بكلمة، إلا وسيكونان

خصيمان عند الله عز وجل، عن ابن عباس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلّم-: ”يَجِيءُ المقتولُ بالقاتلِ يومَ القيامةِ ناصِيَتُه

ورأسُه بيدِه وأوداجُه تَشْخَبُ دَمًا، فيقولُ: يا رَبِّ! سَلْ هذا فِيمَ قتلني؟ حتى يُدْنِيَهُ من العرشِ“.

قال الشافعي رحمة الله عليه : “بئس الزاد الى المعاد، العدوان على العباد

أسوأ ما يمكن أن تقابل الله عز وجل فيه يوم القيامة أنك اعتديت على عباده!

لا بالأفعال والكلمات فقط، بل وحتى حركة الشفاه، وزمّتها، وحركة حاجبك، وأي تعبير في وجهك، لابد له من ثمن!

كالكلمة التي قالتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: ”لقدْ قلتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بماءِ البحْرِ لَمَزَجَتْهُ“

الامر الثاني من آثار الايمان بهذا الاسم أن تتسلى به، وتعرف أنه لا يمكن أن يصيبك شيءٌ من القهر أو الحزن أو الهمّ إلا والله عز وجل سيكون نصيرك، ويقتص لك.

الذنوب لا بد لها من قصاص  

إذا لم يتب العبد، ولذا تقول القاعدة: ”التائب من الذنب كمن لا ذنب له“، ولكن لا بُدّ للتوبة من شروط، فنحن نذنب، ونترك، ونظن أن الذنوب

تُنسى، وأنها تتقادم وتسقط مع التقادم، كلّا! يقول تعالى: {أَحْصَىٰهُ اللهُ وَنَسُوهُ}

المجادلة:6 

نحن ننسى، لكنّ الله عزّ وجلّ يحصي، فأي ذنبٍ لا تتوب منه هو مسجل وموجود.

إذاً ما هي شروط التوبة؟

  1. أن يندم أولاً على ما فعل.
  2. أن يعزم ألا يعود إليه.
  3. ألا يعود إليها أبدًا.
  4. لو كان فيها حق من حقوق العباد، كسرقة، أو مظلمة، يجب أن يرجعها.
  5. أن يكون في زمن الإمكان، و زمن الإمكان هو قبل أن تشرق الشمس من مغربها.

هذه الخمسة هي شروط التوبة، ومن تاب من ذنبه فلا ذنب له، ولن يحاسبه الله عز وجل، بل يتكفل الله بترضية حقوق العباد الأخرى.

من السلوى للإنسان ونوع من التسلية باسم الله الدَيَّان أن تعلم أن الله يقتص لك حتى لو لم تَدْعُ على الظالم، فلن يُفلت إنسان بفعلته

دون أن يقتصَّ الله عزّ وجلّ منه، فيسأله فيم فعلت؟ ولماذا فعلت؟ ثم إن الله عز وجل يجازي بينهم، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الله غَـٰفِلًا عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلْأَبْصَـٰرُ} (سورة إبراهيم:42)

فالإنسان إذا كان يتعامل مع الناس باسم الله الدَيَّان، لا يمكن إلا أن يتوخى فيهم العدل والإنصاف.

وهذا هو الأثر الثالث من آثار الإيمان بهذا الاسم

أن تعدل بين الناس، وأن تحكم بينهم بالحق، فلا يمكن أن تظلم لأنك تعلم أنه سيُقتص منك.

و عند الله يجتمع الخصوم 

 وآخر ما نختم فيه من آثار هذا الاسم الديان

أن ترضى بحكم الله عز وجل، الشرعي، والقدري، والجزائي.

  • فأما الشرعي: فأن لا تتجبر على حكم الله عز وجل، فإذا عرفت أن الله قد أوجب أمراً أرخِ له نفسك، ولا تتكبر وتتجبر الله يريد منك شيئاً، فاسمع وأطع، هو سبحانه من يعرف مصلحتك وما هو خير لك، وعندما يحكم بحكم عليك أن تنفذه، ولذلك قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ … } (الأحزاب:36)
  • وأما القدري: فهو موت إنسان عزيز، أو فقد غالٍ، أو مرض يصيبه، أو جائحة في مال، أو نفسٍ، أو ولد -أياً كانت-، فعندما يأتي
  • أمر الله القدري، ويحكم الله عليك بهذا الشيء، فمصيرنا نحن أن نرضى ونسلّم، ونعلم أن الله عز وجل ما حكم بهذا إلا لحكمة، هنا
  • نتدبّر كل أسماء الله عز وجل التي تعلمناها: الحكيم، القابض، الباسط، المعطي، الكريم، الرؤوف، اللطيف،  ونأتي إلى اسم الله ”الدَيَّان“ الذي حكم بين الناس. 

ولذلك من عاش بهذا الاسم لابد أن تختلف حياته، لأنه يعلم أن ما من شيء يتلفظ به، أو كلمة يقولها، أو فعلٌ يفعله، إلا وسيحاسب عليه يوم القيامة، إن خيراً فخير وإن شراً فشرّ.


تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.