بتاريخ ٢ / ٢ / ١٤٤٤ هـ
لسماع المحاضرة صوتًا
( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )
عَنْ أَبِي ذَرٍّ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَاتَيْنِ تَنْتَطِحَانِ، فَقَالَ: “يَا أَبَا ذَرٍّ هَلْ تَدْرِي فِيمَ تَنْتَطِحَانِ؟ “
قَالَ: لَا. قَالَ: “لَكِنَّ اللهَ يَدْرِي، وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا.” ]
رواه أحمد في مسنده وقال الالباني: صحيح[
“ولكن الله يدري”
هذه الجملة مجرد أن تستشعرها في حياتك تتغير نظرتك للحياة تماماً، ستتغير مواقفك وردود أفعالك لكل موقف تمر به،
“ولكن الله يدري”
تنزل على القلب كالماء البارد على الظمأ وتشعر بالراحة لأن الله يرى ويسمع ويدري بكل الذي يحصل.
“ولكن الله يدري”
هذه الكلمة قام بها سوق الخبايا والخفايا وسبق بها أقوام وخسر فيها آخرون، فبمجرد أن تعيش بهذه الكلمة
تشعر أنك سبقت أقواماً كُثر، وبمجرد أن يغيب هذا المعنى عن حياتك وتعيش في دوائر الحياة المادية، تتأخر كثيراً في حياتك.
ولذلك أحياناً يمضي الإنسان مُسرعاً في حياته، يرتب حياته بجدول يومي منظم، وكل شيء يسير كما يُخطط له، وفجأةً ينقلب كل شيء
رأسًا على عقب. في هذه اللحظات حين لا يفهم الإنسان ما الذي حصل وكيف ولماذا حصل، لا شيء يُطَمئِن قلبه إلا حينما يعلم أن الله يدري، وأن الله له الحكمة البالغة في أول الأمر وآخره.
ولذلك نحن نقرأ أسبوعيًا في سورة الكهف تلك الحوادث التي لم تكن مفهومة لأصحابها، سفينة تُكسَر
وهي مصدر الرزق الوحيد لأهلها، وغلام يُقتَل بين أحضان أبويه وهم لا يعرفون سوى أن هذه جريمة نكراء، وجدار يُبنى في قرية لؤم
لا يستحق أهلها أي شيء من الخير، حوادث قد تكون مؤلمة لكنّ الله يُعَلِّمُنا فيما بعد الحكمة الغائبة التي لا تشاهدها العين.
ولذلك قال السلف: لو انكشف لك ستار الغيب لما تمنيت غير المقدور؛ لو انكشف لك ستار الغيب ورأيت قصة حياتك
كلها لما تمنيت غير المقدور، لأن الذي قدّر ودبر وحكم هو الحكيم العليم وهو أرحم بك من أمك.
فما الحياة دون الله -عز وجل-؟ كيف يمكن للإنسان الذي لا يعرف الله أن يستمر في حياته؟
وما الحياة دون أن تعلم أن الله يراك ويسمعك ويسمع أنين صدرك؟
تمر لحظات وتظن أن الأنين الذي في داخلك لا يسمعه أحد، وأن الألم الذي بداخلك لا يعلمه أحد، وتظن أن آلامك التي تكتمها
في داخلك لا يعرفها أحد، وتظن أيضًا أن تقلبك في الفراش من ألم لا يعلمه إلا أنت، تنسى أن كل ذلك مكشوف عند الله -عز وجل- ومسجل عنده.
حسنًا، ثم ماذا؟
ثم يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ
وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» [رواه البخاري في صحيحه]
جمع الحديث كل الآلام التي ممكن أن تمر بها، آلامك الجسدية المادية والمعنوية. فبكل وخزة ألم يكفر الله
خطاياك ويرفع درجاتك حتى تخرج من بلائك وليس على جسدك خطيئة.
إذًا حينما تعرف أن الله يدري، تصبر على المكروه، فأنت لا تعلم ماذا يخبئ الله لك فيه.
وهذا المكروه الذي ظننت أنه محنة فإذا هو ينقلب إلى منحة.
يقول ابن القيم “لا تركن إلى أربعة” أي لا تركن في هدايتك وصلاحك إلى أربعة:
لا تركن إلى المكان، لا تقُل أنا من أهل مكة أو المدينة، أو أنا من بيت صلاح، فإن آدم لم تنفعه
الجنة عندما كتب الله -عز وجل- عليه أن يُخطئ.
قال تعالى:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ ۖ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ
فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}
(التحريم:١٠)
ولا تركن إلى كثرة العبادة من صيام أو صلاة أو صدقة فإن ابليس كان أعظم العُبَّاد.
ولا تركن إلى كثرة العلم، قال تعالى { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ}
(الأعراف:١٧٥)
ولا تركن إلى صحبة، فإن المنافقين كانوا بصحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومع ذلك لم ينتفعوا به بشيء،
وكانوا في الدرك الأسفل من النار.
إذا لم نركن على هؤلاء فمن نركن عليه؟
نستعين بالله -عز وجل- وبحوله وقوته ونركن على الركن الشديد الذي لا يُضام.
عن رفاعة الزرقي قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ”.
فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا فَقَالَ: “اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، وَلَا مُعْطِيَ
لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ. اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يحول ولا يزول” ]
أخرجه البخاري في الادب المفرد وقال الالباني: صحيح[
انظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدما انتهت غزوة أحد، وهي الغزوة الوحيدة التي
انهزم فيها المسلمون، ولم تكُن هزيمة عادية، بل ذاقوا فيها حلاوة الانتصار، ثم انقلبت الموازين وانهزموا، وقُتِل فيها سبعون
من خيار الصحابة، ومنهم حمزة عم النبي -عليه الصلاة والسلام- وأحب الناس إليه. في هذه المعركة كُسِرَت رباعية النبي -عليه الصلاة والسلام-
وشُجّ رأسه وسال الدم على وجهه ومع ذلك يقول للصحابة صفوا دعوني أثني على ربي!
من الذي يستطيع أن يكون قلبه معلقا في هذه اللحظة؟ لحظة الهزيمة والمصيبة ؟
وهذا ليس ببعيد عن عروة ابن الزبير حينما قُطِعَت رجله فقال بعدما أفاق: “اللهم لك الحمد، لئن كنت قد أخذت فقد أبقيت، وإن كنت قد ابتليت
فلطالما عافيت، فاللهم لك الحمد على ما أخذت وعلى ما عافيت، اللهم إنك تعلم أني ما مشيت بها إلى سوء.”
من يستطيع أن يقول هذه الكلمة بعد ما بليت رجله؟
كيف يثبت الله -عز وجل- نبيه وعباده الصالحين في مثل هذه المواقف؟
لأنهم عرفوا الله -عز وجل- في الرخاء فعرفهم في الشدة.
يقول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ}
(يس: 12)
أتعرف ما معنى ما قدموا وآثارهم؟
أي أن الله يكتب لك جزاء عملك وما ترك من أثر.
كأن تتصدق فيتأثر من معك بصدقتك فيفعل كما فعلت. فالله -عز وجل- لا يكتب لك المبلغ الذي تصدقت به فقط، بل يكتب كل
تلك الآثار التي لم تدخل في دائرة عقلك ولم تكن تعرفها. ومثلها أيضًا في البلاء، فلا يكتب الله -عز وجل- لك أنك عملت
عملية مؤلمة فقط، بل يكتب لك كل ما يترتب عليها، التنميل الذي شعرت به، الصداع، الأرق الذي يساورك، فلا يضيع عند الله -عز وجل- شيء.
فما الحياة دون الله؟ وما الحياة دون أن تعلم يقيناً أن الله يدري وأن الله يراك ويسمعك؟
عرفنا أن صمام الأمان لنعيش في هذه الدنيا وننجو منها هو معرفتنا بالله، بأن الله يدري
ويرى ويسمع، وأن الذي يثبتنا في لحظات الشدائد هو معرفتنا بالله -عز وجل-، فكيف نربي أنفسنا عليها ؟
1– احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده اتجاهك
ما معنى كلمة تجده اتجاهك؟ أي أنه يدلك ويأخذ بيدك ويهديك إلى ما يحب ويرضى. احفظ الله في
سمعك وفي بصرك وفي أقوالك، انتبه لكلمات لسانك، وما تراه عينك، وما تسمعه أذنك، احفظ هذه الجوارح فيحفظك الله -عز وجل-.
ولذلك لا شيء يمكن أن يُثَبِّت الإنسان إلا معرفته بالله -عز وجل-، فالجزاء من جنس العمل.
قال السلف “من راقب الله في خواطره عصمه الله في حركات جوارحه”، فإذا عشت طوال حياتك تراقب نفسك
من أن تقع في الحرام، فإن اشتدت عليك المعصية والشهوة، يعصمك الله -عز وجل- في تلك اللحظة للحظات سابقة كنت تراقب فيها خواطرك،
2– تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة
ما معنى تعرّف؟ وكيف تتعرّف إلى الله -عز وجل-؟
هما طريقان: العلم والعمل.
أما العلم، فزِد في معرفتك بالله -عز وجل-، ولا تبخل على نفسك بساعة في اليوم تقرأ أو تسمع
فيها شيئاً يقربك إلى الله -عز وجل-، سواء في العقيدة، أو التوحيد، أو الفقه أو التفسير.
وأما العمل، فتعرّف إلى الله وأنت بصحتك وشبابك، زد من أعمالك الصالحة التي تفعلها من صيام وصدقة وبر، اترك الحرام
وغير من نفسك لوجه الله، واجعل لك أعمال تدافع عنك وتثبتك في وقت الشدة.
3– اعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك.
هذه الكلمة تقطع على الإنسان كل باب من أبواب اللوم والندم، ما حصل هو مدبر، وما حصل
هو أمر حكمته غائبة عنك الآن، قد تعرفها وقد لا تعرفها إلا يوم القيامة، لكن لحكمة لا يعلمها إلا الله -عز وجل- عشت كل الزوبعة التي مرت عليك في حياتك.
اعلم أن النصر مع الصبر
أي نصر؟ النصر على النفس، والنصر على الهوى والشيطان.
الجنة صبر ساعة، فاصبر على قول لا لمن يدعوك إلى معصية، واصبر على شيطانك، فمهما كان الصبر مراً، فإن عاقبته أحلى.
واعلم أن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً
فكلما يمر بك كرب، اعلم أن الله -عز وجل- جعل مع الكرب فرج، فلا يوجد إنسان يظل مكروباً طوال عمره. فكلما تعسرت الأمور فاعلم أن في طياتها يُسر.
هذه الخمسة خطوات هي وصفة حياتية للإنسان ليقوي علاقته بالله -عز وجل- ويربي نفسه على تلك العلاقة ليكون الله معه في الشدّة.
* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.