بتاريخ ٠٨ / ٠٤ / ١٤٤٥ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )

حينما نرى العدوان على غزة، ونرى حمام الدم الذي لم يتوقف لا ليلاً ولا نهاراً، حينما نرى هذا الاستمرار لمثل هذا البلاء،

وجميعنا متسمرٌ أمام الأحداث والكل يشاهد، ونحاول أن نعود إلى حياتنا الطبيعية، لكن في كل واحد منا

مثل الغصة وفي العين مثل الدمعة. هذه المشاعر تأتينا ونحن في الخارج، ولكن الغريب والمفارقة أن الموجودين في الداخل على

كل الآلام والأحزان؛ قلوبهم أقوى من قلوبنا، ينظرون إلى الأمل وإلى النصرة، ويلوح لهم أجر النصر أكثر منا، فنحن لا نرى

فيما يحصل إلا المجازر والدماء، وهم يرون بذلك أنه بوابة للنصر وبوابة لتحرير المسجد الأقصى.

هذه المفارقة بيننا وبينهم لا يمكن أن تكون إلا لمن تستنير عينه بنور الوحي في قراءة الأحداث.  

لذا دعونا تستنير بنور الوحي في السنة ولنرى ماذا تحدث النبي ﷺ تربية لهذه الأمة في مثل هذه الأحداث، وكيف يجب أن تكون نفسياتنا ومشاعرنا في قراءة هذا المشهد..

عندما نقول يا الله هذه فتنة

ما معنى كلمة فتنة؟ هي إدخال الذهب في النار حتى يستميز ما بين الجيد وما بين الرديء.

وأطلقت كلمة الفتنة لكل شيء من أنواع الابتلاءات والامتحانات التي يميز الله عز وجل فيها عباده، إذن هذه الفتن هي

نار محرقة وموجعة، ولا شك أنها ستكون موجعة، لكن إنما جعلها الله عز وجل حتى يميز منهم الخبيث والطيب، وليعلم الله عز وجل المؤمنين من الصابرين.

ولذلك كان هذا البلاء هو سنة الله عز وجل في عباده، يقول النبي ﷺ عن نفسه:

(لقد أُخِفتُ في اللَّهِ وما يُخافُ أحدٌ. ولقد أوذيتُ في اللَّهِ وما يُؤذى أحدٌ) صحيح الترمذي

كما يخبرنا أيضا النبي ﷺ عن هذه الفتن التي ستصيب الأمة قال: (إنَّهُ لمْ يكنْ نَبِيٌّ قَبلي إِلاَّ كان حَقًّا عليهِ أنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ

على ما يَعْلَمُهُ خيرًا لهُمْ ويُنْذِرَهُمْ ما يَعْلَمُهُ شَرًّا لهُمْ وإِنَّ أُمَّتَكُمْ هذه جُعِلَتْ عَافِيَتُها في أولِها وإِنَّ آخِرَهُمْ يُصِيبُهُمْ بَلاَءٌ وأُمُورٌ

تُنْكِرُونَها ثُمَّ تَجِيءُ فِتَنٌ يُرَقِّقُ بَعْضُها بَعْضًا فيقولُ المؤمنُ هذه مُهْلِكَتِي ثُمَّ تَنْكَشِفُ ثُمَّ تَجِيءُ فِتْنَةٌ فيقولُ المؤمنُ هذه مُهْلِكَتِي ثُمَّ تَنْكَشِفُ..)

لماذا النبي ﷺ يقول لنا هذا الحديث؟ تخويفاً لنا؟ لا. قال: (…فمَنْ سَرَّهُ أنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النارِ ويُدْخَلَ الجنةَ فَلْتُدْرِكْهُ مَوْتَتُهُ وهوَ يُؤْمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ) صحيح ابن ماجة

فالإيمان بالله واليوم الأخر صمام أمان من هذه الابتلاءات التي يمر بها الإنسان. 

سُئِلَ رسولُ اللهِ ﷺ أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟ قال: (الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ

صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ)

-صحيح الترمذي-

فكل ما كان الإنسان صلبًا في دينه كل ما كان البلاء أشد. ولذلك يقال دائمًا أن أشرس المعارك يصطفي الله عز وجل لها أقوى عباده.

كما أخبرنا النبي ﷺ أن: “فتْنَةُ الرَّجُلِ في أهْلِهِ ومَالِهِ ووَلَدِهِ وجَارِهِ،”، فما منا إنسان إلا وسيُفتن، في نفسك في مالك

في حياتك في حتى جيرانك، والحل؟ قال: (تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ والصَّدَقَةُ، والأمْرُ بالمَعروفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ) –صحيح البخاري-

أعمال الخير التي تعملها هي التي توازن لك روحك وتوازن لك قلبك وتوازن لك إيمانك، وكل ما استكثرت

من الخير كل ما تكفّرت لك سيئاتك من الفتن التي قد لا نصبر عليها يومًا.


وهناك عدة مخارج يعلمنا إياها الوحي:

المخرج الأول: التقوى 

 قال الله عز وجل: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (الطلاق – ٢)

كل الطرق مغلقة ولا يوجد إلا مخرج واحد، كل الأبواب أغلقت والعالم كله خذلنا عن بكرة أبيه، {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}

لم يقل من الطريق الذي يظن أنه سيُرزق منه، بل يُفتح له الباب من حيث لا يحتسب.

إذن تقوى الله عز وجل تُغيّر الموازين، والتقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وغضبه حاجزاً ووقاية، هذه التقوى

لا يحتاجها فقط أهل البلاء بل يحتاجها كل إنسان، لذلك من يعبد الله عز وجل في الرخاء يعبده في الشدة، ومن يستجيب لله عز وجل في الرخاء

لا ينساه الله عز وجل في وقت الشدة، لأن في وقت الشدة أصلًا لا تقوم على قدميك إلا بما يتبقى لك من إيمان.


المخرج الثاني: التوكل على الله عز وجل 

قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ

إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ( آل عمران ١٧٣)


المخرج الثالث: التضرع ودعاء الله عزّ وجل

كدعاء يونس عليه السلام، قال الله عز وجل: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ

أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء – ٨٧)

دعاء الكرب يخبرنا بأنه إذا اشتد الكرب نكرر التهليل، لماذا؟ لأن أعظم ما يمكن أن تخرج منه من الألم ومن البلاء

هو أن يرتبط قلبك بتوحيد الله، لذلك لا شيء يربط على القلب ولا شيء ينجي الإنسان من لحظة البلاء مثل الارتباط بالله عز وجل.  


المخرج الرابع: الصبر والصلاة

قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (سورة البقرة – 153)  

الصبر والصلاة هي عنوان الإيمان، لذلك إذا كنت تريد أن تقوي إيمانك انتبه إلى شيئين صلاتك وصبرك.


المخرج الخامس: العمل على محيطك القريب

استيقظ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ليلةً فَزِعًا يقولُ: سبحانَ اللهِ، ماذا أُنْزِلَ الليلةَ من الخزائنِ؟ وماذا أُنْزِلَ من الفتنِ؟

من يُوقِظُ صواحبَ الحجراتِ – يريدُ أزواجَهُ – لكي يُصلِّينَ؟ رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٍ في الآخرةِ. –صحيح البخاري-

ما وجه الربط؟ لماذا أيقظهم رسول الله وأمرهم بالصلاة؟

لأن هناك شيء ما قادم. فأراد ﷺ أن يستدفعوا القادم بصلاحهم هم؛ وهذه عدّة الإيمان.

فلما يقول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (سورة الأنفال – 60) فإن القوة ليست هي قوة السلاح فقط!

بل إن إيمانك أولاً هو عدتك الإيمانية، فيجب أن يكون هاجسك هذه الأيام كيف أصلح نفسي؟ كيف أقوي نفسي؟ كيف أطلب العلم؟

كيف أراجع حفظي؟ كيف أفهم القرآن؟ 


المخرج السادس: تجنّب الفتن

قول النبي ﷺ: إنَّ السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إنَّ السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إنَّ السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، ولَمَن ابتُلِيَ فصَبَر؛ فَوَاهًا. -صحيح أبي داوود-

السعيد قالها الرسول ﷺ ثلاث مرات (السعيد من اجتنب الفتن) لكن من ابتلي فصبر فواهاً.. وانتهى الحديث

لم يقل حتى ما له من أجر، (فواها) كلمة تعني التعجب تعني (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ).


المخرج السابع: أن تترك المكان الذي عصيت الله عز وجل فيه.


المخرج الثامن: الاعتصام بكتاب الله وسنته

قال النبي ﷺ: (أوصيكم بتقوى اللهِ والسمعِ والطاعةِ وإن عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي

وسنةِ الخلفاءِ المهديّين الراشدين تمسّكوا بها، وعَضّوا عليها بالنواجذِ، وإياكم ومحدثاتِ الأمورِ فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ)

–صحيح أبي داوود-

 هذا يعني أننا نحتاج أن نتعلم، لأنه لما تأتي الفتن، من سيثبت؟ وهل سيستمر معك إيمانك ثابتاً للنهاية؟

لن يثبُت إلا الذي يثبته الله عز وجل، ولا يثبّت إلا من حاط إيمانه بعلم صحيح، ولذلك قال الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ} (سورة محمد – 19)

لم يقل له (قل!) قال: (فاعلم) يعني تعلم أن لا إله إلا الله.


المخرج التاسع: فضل العبادة في الهرج

قال النبي ﷺ (العِبادةُ في الهرَجِ كالهِجرةِ إليَّ). –صحيح الترمذي-

المخرج العاشر والأخير: قول النبي ﷺ: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء)

مرت علينا أزمنة كان الإسلام فيها من الشرق إلى الغرب، من الصين إلى الأندلس، وكلها تصدح بالتكبير ولا إله إلا الله، ثم يعود الإسلام

غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء، طوبى لأولئك المتمسكين بدين الله عز وجل.

منظر من مناظر هذه الغربة ما أخبر عنه النبي ﷺ حينما قال: (يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ، كما تَدَاعَى

الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، قيل: يا رسولَ اللهِ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟ قال لا، ولكنكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم، ويُنْزَعُ الرُّعْبُ

من قلوبِ عَدُوِّكم؛ لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ) –صحيح الجامع-

نحن لا نحتاج إلى الكثرة، نحن نحتاج إلى أعداد قليلة من هذه الكثرة ينصر الله عز وجل بها أمته، وهذه هي البشارة الأخيرة

التي أختم بها وهي قول النبي ﷺ: (لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ) –صحيح مسلم- قالوا:

يا رسول الله أين هم؟ قال: (هم في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس).

ذُكر في روايات أنها في بيت المقدس وذُكر أن الحديث عام، إذن هناك طائفة ستبقى على هذا الدين لا يضرها من خذلها

ولا من خالفها، وهذه الطائفة التي ستبقى إلى قيام الساعة هي من أعظم الأمة أجورا لأنهم هم الذين يقيمون دين الله عز وجل.

أنا وأنت أين موقعنا من الإعراب؟

هل نحن خارج هذه الطائفة؟ وإلا سنحاول قدر المستطاع أن نكون من ضمن هذه الطائفة؟ أن نبقى على أمر الله ونبقى

على دين الله عز وجل ونتمسك بدين الله عز وجل كما يريد الله عز وجل لا كما نريد نحن.

 هذه الطائفة ستظل قائمة على أمر الله عز وجل، ولذلك أمة محمد لن تنصر بالكثرة، فالكثرة ليست مهمة، المهم

هي الأعداد المؤثرة، أنت شخصيًا ماذا ستقوم به؟ وكيف تغيّر من نفسك ومن حولك؟ وما هو الشيء الذي علمتنا إياه الأحداث؟

ماهي قراراتنا التي ستبنى عليها؟ لا نجعل مما حدث مجرد مشاعر حماسية قليلاً ما تنطفئ.. لا! بهذا لن نكون فهمنا الدرس بشكل صحيح.

 ولذلك يقول الله عز وجل: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة (الأنعام – 43.)


تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.