إلى من أرهقه الذنب

بتاريخ ٦ / ٧ / ١٤٤٣ هـ

---

لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )

بيننـا وبين الذنوب شأنٌ عجيب وأمرٌ محيِّر؛ فهي تُرهقنـا وتتعبنا لكننـا -مع ذلك- نعود لها بعد تركها بشكلٍ مختلف وصورةٍ جديدة

وكأنه لا فكاك لنا عنها ولا لها عنَّا، وبتذكرنـا أن “الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية” ندرك خطورة ذنوبنا أكثر، إذ لم تعد ذنبًا فقط إنما لها أثرٌ

على أسمى وأنفع علاقةٍ عندنا وهي علاقتنـا بالله -عز وجل-

السؤال هنا هو: ماذا يمكنني أن أفعل حتى أحدَّ من أثرها علي؟

خلق الإنسان مفتتنًا نسيًا

عن النبي ﷺ أنه قال: “ما من مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بين الفينة”

إذًا فارتكابنا للذنب ومعاودتنا إياه من حينٍ لآخر شيءٌ من طبيعتنا وجبلتنا التي جبلنا الله عليها، فنجد فينا ميلًا للشهوات، وندمًا بعدها بمقدار

ما وقر في القلب من الإيمان، لكن ما هو المطلوب منا إزاء هذه المعلومة؟ أن نستسلم إذًا ونترك أنفسنا للذنوب تفسدُ فيها وتبعدها عن ربها؟

أو لنقل ماذا فعلوا من أذنبوا قبلنا؟ وإلى أي شيءٍ وجههم الرسول ﷺ؟

في أحد الأحاديث تحدث النبي ﷺ عن رجلٍ يذنب الذنب ثم يقول:

يارب أذنبت ذنبًا فاغفر لي. فيغفر الله -عز وجل- له، ثم يعود الرجل مرةً أخرى فيذنب ذنبًا فيعود إلى ربه تائبًا

فيغفر الله -عزوجل- له ولا يطرده، ثم يذنب الرجل مرةً أخرى ذنبًا آخر فلا ييأس من نفسه ولا يقنط بل يعود إلى ربه تائبًا نادمًا ويقول:

يارب إني ضعيف تُجاه هذا الذنب وإني لا أستطيع الانفكاك عنه. فماذا يقول الله عزوجل في نهاية هذا الحديث؟ 

قال الله عز وجل في عليائه :”علم عبدي أن له ربًا يؤاخذ بالذنب ويغفره قد غفرت لعبدي فليفعل ما يشاء”

ويقول النبي ﷺ: “لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون ثمَّ يستغفرون فيغفر لهم”

فالمسألة ليست أن تتحول إلى ملاكٍ لا يخطئ ولا يمكن أن نكون، لكن المطلوب منا إدراك من نحن ونُبصر التصور الحقيقي

عن أنفسنا وعن الذنوب التي نقع بها من حينٍ لآخر.

خلق الإنسان ضعيفًا

يقول الله عز وجل: {خُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً}

[النساء: 28]

ضعيفًا لأنك لن تستطيع أن تكون أقوى مما خلقك الله عليه. وهذه الفكرة شبهها أحدهم

بأن تكون لديك طاولة لها حمل معين فلو حملتها فوق ذلك الحمل لانكسرت. إذًا فالإنسان قوي إلى حدٍّ معين

وما فوق ذلك هو إنسان ضعيف كما وصفه خالقه؛ لذا فقد منعنا الله عزوجل من الاقتراب عند نقاط الشهوات التي لن نستطيع مقاومتها

وسنضعف أمامها. وعندما نفهم فقه الذنب سنعرف أن هنالك نقاط ضعف خلقها الله عزوجل فينا اختبارًا لنا

وجعل بيننا وبين مواطن الذنوب ألف ألف خطوة ممنوعة لتجنب الوقوع فيها.

فتركيبتنا هذه التي تدفعنا للشهوات وإدمان الذنوب، كان معها في آنٍ واحدٍ نوع ٌمن المقاومة ولذةٍ محسوسةٍ

حين ننتصرُ نحن على أنفسنا وعلى هذا الذنب. فنحنُ لسنـا مطالبين بالملائكية ولا فقط أن نترك الذنوب بعد وقوعنا فيها لكننـا مطالبين ابتداءً بمجاهدة الذنب.

مجاهدة الذنب تعني ألا تقترب منه أصلًا، وأن تمارس هذه المجاهدة في كل مرة تتعرض فيها للذنب لئلا تقع فيه، ثم إذا ما وقعت فأنت مطالب

بأن تقفز من هذا الذنب وتتوب مباشرة وألا تستلم له مهما أرهقك. هنالك تتضح عبوديتك وهنالك يكون ابتلائك من الله عز وجل.

---

المرحلة الأولى: علاقتنا مع الذنب.

لكل واحدٍ منا ذنبٌ ابتليَّ به، ويختلف ذنبنا عن ذنبِ غيـرنا، وهذا الذنب هو نقطة الضعف..

هو الإدمان الذي لا تستطيع أن تتركه، وكلما حاولنا تركه نشعر بذات الأعراض الانسحابية التي يشعر

بها مدمنو المخدرات. فعندما تحاول مقاومته تشعر بأن جسدك كله داعيك للقيام به. وهذا الشعور معلومٌ عند الله عز وجل

وهو امتحانك الخاص الذي وضعهُ في طريقك وفصله على قدرِ تحملك، لم يكلفك بشيء لا تطيقه لأنه أعلم العالمين

بضعفك واحتياجك، إذًا مقاومتك له هي ضمن قوتك وقدرتك بعد توفيق الله لك، ضع ذنبك هذا أمام عينيك؛ لأن غايتك اليوم أن تستأصله وتتخلص منه. 

---

كيف يمكن أن أترك هذا الذنب ولا أحد يعلم عنه الا الله؟

أولًا إعلم أنه لن ينتشلك أحدٌ من هذا الذنب إلا الله، وستستطيع أن تتخلص منه بنفسك إذا حرصت على ثلاثة أمور:

١- إجعل هذا الذنب أمام عينك، واعلم أنكما لستما بأصدقاء وأنه عدوك اللدود، فلا تتعايش معه.

---

٢- جاهد هذا الذنب ولا تستسلم له.

---

3- لا تنسَ أبدًا شعور الابتلاء والامتحان في نشوة استعار الذنب.

 ذكر نفسك في لحظة الذنب أنك في قاعة امتحان، إما أن تنجح أو تفشل. وأن الله قدِ ابتلاك بهذا الذنب شخصياً

وأعطاك هذا الضعف تجاهه. عندما تعلم أنك الآن في لحظة ابتلاء؛ يتبدل شعورك، وتشعر بالرغبة الشديدة

بمجاوزة الفشل الذي تدركه بعد انقضاء لذة الذنب، وأنك تريد قول لا لهذا الذنب. في لحظة الابتلاء سنعرف حجمنا أمام الله

ولأي قدر نحن محتاجين له كي يصلح نفوسنا وأحوالنا، لأنه لا نفع للمقاومة دون توفيقٍ منه.

---

المرحلة الثانية: ادرس ذنبك ولماذا يجب تجنُبَه؟

اقرأ في الدروس الكثيرة التي أُلقيت عن شؤم الذنب مثل: (قبل أن تعصي الله تذكر).

وتذكر الأسباب الخمسة والعشرون التي تحدث عنها ابن القيم في (لماذا يجب أن تترك هذا الذنب).

بالإضافة إلى كتاب: الجواب الكافي لمن سأل عن السؤال الدافي وهي من أجمل الكتب في تقرير قضية التعامل مع الذنب

وكيف تتركه وأبدع ابن القيم في أكثر من ٣٠٠ صفحة أجاب فيها عن سائل كان يسأله: ما يقول العلماء الكرام في مذنب له ذنب يعتاده

وذنب لم يستطع أن يقاومه؟ فلم يترك شاردة ولا واردة في قضية الاستسلام للذنوب إلا وكتبها. 

عندما تعلم أن ابتلاؤك من عند الله ستبدأ بتطوير نفسك بالتعرف على:

لماذا يجب أن نترك هذه الذنوب؟، واستكثر الاستماع عن الذنب الخاص بك بالتحديد.

وحاول أن تغير مدخلاتك الماضية فراقب ما يدخل عبر حواسك والذي يكون العامل المؤثر في خطوات

ما قبل الوقوع في الذنب، ولن يقتصر شعورك على كونه محرمًا فقط. بل سيتعدى للكره والمجافاة، اسمع للمرة الثانية والثالثة والرابعة

عن ذنب الغيبة والنظر الحرام وتأثيرهما على سواد القلب وسواد الوجه سواءً في قبرك أو حتى في يوم العرض على الله عزوجل.

يحبه الله ورسوله

جيء برجلٍ يُجلَد بالخمر إلى النبي ﷺ، ولم تكن المرة الأولى ولا الثانية ولا الثالثة

لما جاؤوا به ليجلدوه، رأوا اثنين من الصحابة كثرة ما يؤتى به فيُجلد فقالوا:

ما هذا الإنسان ما أكثر أن يجلد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تسبوا أخاكم ولا تعينوا الشيطان عليه).

لاحظ أولًا أن النبي ﷺ نسب له أخوة الإيمان، أي أن هذا الشخص غير منبوذ، ثانيًا: قوله: (إنه يحب الله ورسوله). 

ثالثًا: ولو أن الحديث وقف إلى هنا كان من الممكن أن نقول أنه يذنب لكنه يحب الله ورسوله. لكن تخيلوا أن هذا مذنب، ويشرب الخمر

ويُجلد مرة وثنتين وثلاث، ومع ذلك وردت تتمة للحديث في روايات أخرى: (ويحبه الله ورسوله).

إذاً لسنا من يقرر من المحبوب عند الله عز وجل ومن هو المُبعد، لأنه كما كان مذنبًا خطاءً

فهو رجّاعٌ أيضًا إلى الله عزوجل، لكن انتبه إلى أن الله عزوجل لم يقل بأنه يحب المذنبين، لأن القضية ليست في أن تعطي لنفسك

فسحةً لارتكاب الذنوب بالتعذر ببشريتك وكونها طبيعةً فيك، قال تعالى: 

{إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلتَّوَّ ٰبِینَ وَیُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِینَ}

[سُورَةُ البَقَرَةِ: ٢٢٢]

ربَّ ذنب أدخل صاحبه الجنة، ورب طاعة أدخلت صاحبها النار، فهذا الذي لم يذنب لكنَّ قلبه امتلأ

بالعجب والرياء سقط عمله كأنه لم يكن، وقد قيل أن هنالك رجل عبد الله ٥٠ سنة وقيل ٥٠٠ سنة

فلما قال الله عزوجل ادخل الجنة برحمتي، قال: بل يا رب أدخل الجنة بعملي، فقيست كل عبادته في كفة

ونعمة البصر لوحدها في كفة، فطاشت نعم الله على عبادته. في المقابل يأتي الرجل الذي لم يعمل خيرًا قط، ويقول لأبنائه

إني لم أفعل خيرًا قط فإذا مت فذروني واحرقوني، فإنه إن قَدِر الله علي فإنه لن يتركني، فلما جمعه الله عزوجل بعد أن أحرقه أولاده

وذروه في الرياح قال له: لم فعلت ذلك؟ قال مخافتك يا رب، فدخل بهذا الخوف الجنة. لاحظوا ما الذي يحب الله أن يراه منا؟

يحب منا أن نعود، وألا نتمرغ بالذنب ونيأس من أنفسنا، وأن نظل رجاعين إلى الله مهما شعرنا ببعدنا عنه.

فمجاهدتك للذنب هو المطلوب منك، والمجاهدة ليست دواءً يستخدم لمرةٍ واحدةٍ ثم يُشفى

الإنسان من ذنبه، بل هي أصلٌ ثابتٌ للعمر كله إلى أن نلقى الله عزوجل ، وكلما جاهدت ذنبًا وتغلبت عليه سيأتيك الشيطان

ويسعر فيك ذنبًا غيره وهكذا هي دائرة الحياة، تدور وتعود لنفس النقطة، لتخرج منها إما غالبًا أو مغلوبًا.

قلبٌ سليم 

المقاطع المحرمة التي نتعرضُ لها بشكلٍ يومي، الموسيقى التي تمر بنا، الكلمات التي تمجها الأذن، سيل الذنوب التي تشهده حواسنـا كل يوم

وفي كل لحظة كعادةٍ تأصلت فينا واعتدنـاها وكأنها في ميزاننا لا شيء!

مع هذا النسف الإيمان اليومي الذي نتعرض له من حسابات كثيرة سيئة، والتي جعلتنا في المقابل نفعلُ

أشياء لم نتخيل أننا قد نفعلها، في خضم هذا الزخم فقدنا نقاء قلوبنا؛ ولذا إبراهيم عليه السلام لم يدعُ

بشيءٍ كدعائه بأن يلقى الله بقلبٍ سليم، لأنه لن ينفع في ذلك اليوم لا مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. 

---

المرحلة الثالثة: ننتشل أنفسنا من الذنوب بعرضها على القرآن

 نزل الإسلام والقرآن على العرب وانتشلهم من الانحطاط والتخلف الذي كانوا فيه.

فحينما نعلم كيف انتشلهم الإسلام سنعلم كيف يمكننا أن ننتشل أنفسنا وكيف نخاطبها بالرغم من هذه الشرور المنتشرة

 جاء في القرآن أن الله عز وجل قال بآيةٍ صريحة، قال تعالى :

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}

{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}

سورة النساء[٢٦-٢٧]

إذًا هنا الفرق الكبير بين الشرع وبين الذين يريدون الشهوات فالله يريد أن يهديك ويريد أن يتوب عليك. لا يريد أن يعذبك

يريد أن يرفعك إلى هذه المنزلة يريدك أن تستعلي على بشريتك الضعيفة وعلى دواعي الشر بداخلك ويستحث ذلك الخير فيك. 

أولًا) الأسئلة العقلية المباشرة 

عندما نرجع إلى القرآن ونرى كيف خاطبت الآيات المجتمع الذي كان أشبه بمستنقع الوحل غارقًا بهذه الذنوب؛ خاطبهم بأسئلة عقلية مباشرة والتي

يمكننا أن نستعين بها في حواراتنا الداخلية حينما نقول: إلى متى؟ ومن أحارب؟

السؤال الذي لم يستطع أحدٌ عاقلٌ أن يغير إجابته الواضحة، فحينما نسأل من الذي خلق السماوات والأرض ومن له ملكها؟

وبالرغم من مرض البشرية لم يتجرأ إنسانٌ أن ينسبها لنفسه.

ومصداق ذلك في قوله تعالى:

{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}

سورة لقمان [٢٥]

وحقيقةٌ أخرى ممتدةٌ إلى قيامِ الساعة وهي أنه لا يمكن للإنسانِ أن يحيي شيئًا من صنعه

ما لم يكن مزودًا بعنصرٍ يزوده بالطاقة، فلا يمكنه أن يُوجِد ما يبث الرُّوح لما يصنع كما خلق الله عز وجل الإنسان. فيسأل الله عز وجل:

{أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ}

سورة النمل [١٧].

حينما يقول الله عز وجل: }آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ{ (سورة النمل-٥٩)

اختَر أيّ الشركاء وأشركهم في عبادتك وطلبك لكن الله يسألك سؤال مباشر:

{ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}

 (سورة النمل-٥٩)

فمن الذي ستلجأ إليه في لحظة الضر حين تصيبك؟

من الذي تعلم يقينًا أنه أقوى من كل قوي وفوق كل ظلم؟ سوى الله عز وجل.

حينما يقول الله عز وجل {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}

سورة إبراهيم [١٠]

فهذه الأسئلة حينما يجيب الإنسان بها روحه ويعلم أن أكثر الخطابات التي نزل بها القرآن

أتت تستحث عقولهم لتفكر، يعي أن عليه أن يُعمَل تفكيره ويتفاعل مع الأسئلة القرآنية. عندما سمع جبير بن مطعم هذه الأسئلة قال:

كاد قلبي أن يطير. كاد قلبه أن ينخلع في مكانه لما جاءته الأسئلة مباشرة، يقول عن نفسه: وذلك أول ما وقع من الإسلام في قلبي. 

يقول الله عز وجل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ}

سورة التكوير[٨]

نزلت الآية في العرب المشركين الذين كانوا يأدون بناتهم خوفًا من العار أو لغيره من الأسباب. فكان السؤال

ليس للظالم فقط، بل لمن ظُلمت بهذا وقُتلت من غير ذنب، فلو علم هؤلاء الذين كانوا يأدون البنات أنه

في يوم القيامة العصيب ستُسأل الموءودة لمَ قتلت وهذا فيه توبيخ للقاتل وليس للمقتول. 

ومن وسائل العلاج أن تسأل نفسك: إلى متى سأبيع الله؟ إلى متى سآثر دنياي على آخرتي؟

إلى متى أنا مع هذا الذنب في حال ملازمة؟ سل نفسك هذه الأسئلة وعرّض نفسك على القرآن لتستشفي به.

من قرأ القرآن طالبًا الهدى هداه الله ومن قرأ القرآن طالبًا للشفاء شفاه الله، لكن العامل المؤثر هو صدق النية في إقبالك على الله.

---

ثانيًا) استحثاثك في عدم الاستسلام للذنب

تعامُل القرآن مع شرب الخمر. 

حينما نتحدث عن شرب الخمر عند العرب قبل الإسلام

فنحنُ نذكر مشروبًا عندهم بمقام الماء والعصير، بل وقد كان عبارة عن تجارة مُزدهرة في الجاهلية لها سوق واقتصاد

كامل قائم عليها فكيف عالجها الإسلام وهي بهذا التجذر؟ جاءت الإشارات في البداية تخاطب ما في داخل نفوسهم

فقال الله عز وجل بعدما عدد النعم:

“وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا”

(سورة النحل-٦٧)

هذه هي الإشارة الأولى في التفريق بين أن الخمر ليس من الرزق الطيب وليس من الرزق المبارك. ثم تأتِ إشارة أقوى يقول الله فيها:

“يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ”

سورة البقرة-219

وهذا من إنصاف القرآن ومن عدل الله عز وجل، لم يلغِ الخمر مطلقا لأن فيه منفعة للناس، لكن وضحت الآية

أن إثمها أكبر من المنفعة المتحصلة بغير الخمر. وحتى تلك اللحظة لم ينزل تصريح بالتحريم؛ لذلك كان يدعو

عمر رضي الله عنه ويقول: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، لأن المسلمين في ذلك الوقت

كانوا يشتغلون على تزكية أنفسهم وتربيتها، ويتحسسون من أي شيءٍ يجرح إيمانهم. ثم نزل تحريم شربها مخصصًا

في أوقات الصلوات الخمس وضاق الوقت على شاربي الخمور

فقال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون{

[سورة النساء-43].

ثم نزلت بعدها هذه الآية قال تعالى:

}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{

[سورة المائدة-90].

ما الذين تريدونه وتسعون له؟ الجنة؟ إذًا اجتنبوا هذا الرجس من الشيطان، ووصفها بالرجس

أي أنها شيءٌ مستقذرٌ متروك، وهذا ليس لكونه خبيثٌ بذاته لأنه يُصنع من عنبٍ أو تمرٍ

أو أيًّا ما كان، لكن يتحقق وصف الرجس عليه بعد تحولهِ لمشروبٍ مُسكر يتمكن بعده الشيطان من شاربه

فيبعده ويشغله ويوقعه في كل محرم. ثم قال تعالى:

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ }

[سورة المائدة-91] 

فهل أنتم منتهون عمه؟ سؤالٌ حوى الترغيب والترهيب في آنٍ واحد، فلما سمع عمر رضي الله عنه هذه الآية قال:

انتهينا انتهينا يا رب. ويصدح بعدها المنادي في طرقات المدينة بقوله إخبارًا لهم: ألا إنَّ الخمر قد حُرمت. يقول أنس رضي الله عنه واصفًا المشهد:

فما إن سمعت الناس صوت المنادي حتى مجوا ما في أفواههم، ما رضوا أن يعصوا الله عز وجل ولو بشربة واحدة متبقية.

---

تعامل القران مع الربا 

كان الربا هو اقتصاد الجاهلية وقتها، ومع ذلك جاء الإسلام وحرَّم الربا بثلاثِ إشارات:

قال الله عز وجل في الآية الأولى مخبرًا إياهم عن هذا الربا وموقعه في منظومة الدين كله

قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ }

(سورة الروم-39)

إذًا قد انتكس الميزان الآن مبـاشرة، فالله يقول ما أتيتم من الربا لن يربوا عند الله، وذلك بمقابل الزكاة

التي إن زكيت بها مالك فأعطيتها لمستحقها ضوعفت عند الله أضعافًا كثيرة، فغيَّر القرآن نظرتهم

واختلفـت بعدها موازينـهم وهذا من وظائف القرآن في حياةِ المسلم؛ يغير ويُنظم ويزن الأمور في موازينها.

النهي الثاني

حينما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

[سورة آل عمران-130]

أي: لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة فقط، وكأنه إذا قلَّ منسوب الربا فلا بأس لكونه خارجًا من هذا الشرط..

لكن جاءت الآية الشافية والناهية والقاطعة: التي قال الله فيها:

{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى للَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُون }

[سورة البقرة-275]

وقال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿٢٧٨﴾ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ ﴿٢٧٩﴾ }

[سورة البقرة]

فالقضية ليست عذابًا أخرويًا فقط، بل بمجرد قرارك بممارستك الربا واستعانتك بها في معاملاتك، تكونُ قد فتحت على نفسك

وابلًا من الحرب من الله ورسوله، وسترى أن العالم لن يشفى من هزائمه الماليةِ وسيُحرم الخير طالما أنه استعـان بالربا، فهذا جزاءٌ ثابتٌ لمن خالف أمر الله ورسوله.

---

تعامل القرآن مع الزنا والعلاقات المحرمة

 كي يمنع الله عز وجل الزنا وينتشل هذا المجتمع منه جاءت مجموعة من الأوامر والتشريعات الحاجزة بينك وبين الاقتراب من الزنا، فأثنى الله على المتقين

وخصصَّ ذكر هؤلاء الذين حفظوا أنفسهم من الوقوع بالمحرم.

فقال تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ }

[المؤمنون-5]. 

ونزل الثناء في كل من ترك الحرام، فجاءت قصة يوسف عليه السلام وعفته أمام الموقف المهول

الذي فُتن به وامتحن وهو في عمر الفتوة والشباب أمام امرأة العزيز ليكون نموذجًا يُحتذى به لكلِّ من عرضت أمامه الفتنة، قال تعالى:

{ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ }

[يوسف-23]

فتخيل هذا المجتمع النبوي الذي ينشأ على مثلِ هذه القصص

وقد كان يثبتهم ثبات الأنبياء على العفة ويجعل منه أمرًا مركزيًا لديهم.

وفي المقابل جاءت تشريعات تحمي من الزنا، قال تعالى:

{ وَٱلَّذَانِ يَأْتِيَٰنِهَا مِنكُمْ فَـَٔاذُوهُمَا ۖ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} (النساء-16).

وقال تعالى:}ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِى فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٍۢ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍۢ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ٱللَّه إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْاخِرِ{ 

(النور-2)

من أبرز دواعي الزنا والعلاقات المحرمة هي التبرج؛ لذا نزلت تشريعات كبرى في قضية التبرج.

قال تعالى: { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}

(الأحزاب-33).

أنتِ كمسلمة مؤمنة إيمانًا تامًا بأنك نتعبدين الله بترك تبرج الجاهلية الأولى، قال قتادة:

كنَّ يشددن خمورهن عليهن. فتخرج منها قلائدها والزينة التي كانت تستعرضها، وفي تفسيرٍ آخر: كنَّ يمشين متغنجات متكسرات في الحركات والعبارات. 

ماذا عمن تكشف عن هذه الزينة، ليبدو النحر والشعر وهذا الجمال كله، وترتدي قماشًا ملونًا مزخرفًا تسميه بالعباءة

وفي شكلها جاذبية لافتة أكثر من لو أنها لم تلبسها أصلًا، أما في الغـاية المطلوبة من الرداء الذي أوجبه الله على المرأة

فقد جاء البيان شافيًا فيها، قال تعالى:

{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ}

ۖ [النور-31]

الخُمُر أي الخمار الذي يُضرب على الرأس من فوق إلى أسفل. يحب الله منك نحن الستر وأمركِ به،  فلا ترضي

ولا تتعايشي مع كشفك لوجهك ولا إبدائك لجمالك الذي أحبَّ الله عز وجل أن يُستر ولا يكونُ حلالا

لكلِّ عابرٍ أن يمتع ناظريه به وأن يراه، لا بل يقول الله عز وجل:

{وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ }

[النور-31].

عندما يأتيك الله عز وجل ويسألك بأي حقٍ أبديتِ زينتك؟

ما الإجابـة أو العذر الذي ستجدين بمقابل هذه الآية الصريحة بالنهي.

ثم يقول الله عز وجل:

{ ولا يخضعن بالقول  }

فنهيتِ عن التغنج بالكلام أو المياعة فيه لكونه ينافي غاية العفة.

يقول الله عز وجل: { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}

فإذا نهينـا عن الضرب بالرجل  كيلا يظهر صوت الكعب أو الخلخال

فيبدي هذا الجزء من الزينة، فما بالك بالوجه المكشوف اللافت، وما بالك بتكحيل العين، أو توريد الخد، أو تحمير الشفاه.

في الحديث لما تعجب الصحابة وضحكوا من غيرة سعد قال لهم الرسول ﷺ:

“أتعجبون من غيرة سعد؟ لله أغير من سعد”

إن كنتِ ترين غيرة المحرم أمام ناظريك، فاستشعري غيرة الله عز وجل على

ما حرم ونهى وأنتِ تبارزينه بالذنب في كل مرة.

---

كيف يزكو القلب من علائق الذنوب ؟

علق الله عز وجل الفلاح بالتزكية فقال تعالى في سورة عبس: { لعله يزكى} يزكى أي: يُسلم ويُطبِّق تعاليم وشرائع الدين.

اقرأ الآيات التي وصفت مجيء ذلك الرجل إلى الرسول ﷺ

قال الله عز وجل:

{ وأما من جاءك يسعى وهو يخشى}

قال العلماء: اجتمعت في هذه الآية ثلاثُ صفات دالة على صدقه في إرادة التزكية، فلو صدقنـا في سعينا لترك الذنب لا بدَّ من تحقق هذه الثلاث فينا

وأما من جاءك  يبحث عنك يريدك وهو أثناء ذلك يسعى، يسابق أنفاسه خوفًا من أن تُقبض الروح وهو لم يتزكى بعد

ثمَّ إذا جاءك أثبت بحثه عن الهدى بأفعاله وسعيه

وكل ذلك وهو يخشى.. يخشى الله عز وجل ويخافه ويرجو ما عنده 

فإذا اجتمعت هذه الثلاث في إنسانٍ ما فقد صدق. 

يقول الله عز وجل:

}ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم ونعلم الصابرين{

أخبرنا بأنه سيبلونا بهذه الدنيا ويختبرنا بها، وبالذنوب التي تُعرض لنا

في كل حالاتنا سواءً أكنا بالسراء أو الضراء فنحن متعبدون لله في كل ظروفنـا وتقلبات حالنـا.

السؤال الذي يجب أن تسأله نفسك في كل مرة وأمام كل فتنـة وكل ذنب ينجسك، ما الذي أعددته للجنة؟

وبأي قلبٍ أنت اليوم؟ وهل هذا حالك الذي ترضى أن تقابل الله عز وجل -خالقك المُتفضل عليك والمسدل ستره- به؟

فإذا كانت أعمالك ستوزن في ذات الميزان وذات اليوم الذي ستوزن فيه أعمال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة الكرام -رضي الله عنهم أجمعين-

إذًا ماذا عملت ليثقل ميزانك كما ثقلت موازينهم؟ وهل جاهدت وصابرت مثلما جاهدوا وصبروا وصابروا؟ 

---

واجبنا هذا الأسبوع والذي سنتواصى عليه: 

أولًا: ادع الله أن يبصرك في نفسك، قل: اللهم يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك.

---

ثانيًا: ادعُ الله بالهدى والسداد في إصلاح نفسك. 

أن يسددنا الله في تزكيتنا لأنفسنا لنعرف أين مكامن الخطأ وما الذي سنصلح؟  

---

ثالثًا: ضع لنفسك قائمة إصلاح بالأشياء التي تحتاج أن تغيرها عدد فيها من 3 إلى 5 أمور

---

رابعًا: استمر وجوِّد. استمر في تزكية نفسك. واضرب سهم في كل باب من أبواب الخير وتذكر أن النبي ﷺ

كان يصوم ويصلي ويتصدق ويكون مع أهله ويكون في حاجتهم وفي خدمتهم وكان يأتِ في حاجة المرأة الضعيفة، فاطرق أبواب الخير كلها لأنك لا تدري أيها ستنجيك وتثقل موازينك.

---

ختامًا: كن صادقًا مع نفسك ولا يدخل عليك شعبان وأنت قائمٌ على نفس الذنب. اصدق في نيتك وأحسن الاستعداد.

وعند الله عز وجل قد تبلغ بنيتك ما لا تبلغ بالعمل وإن صدقت في ذلك كله سترى من الله عفوًا وقبولًا وتوفيقًا لهذا الخير.

لكل من أرهقه الذنب ولكل من أتعبه نقول: لا تستسلم ولا تيأس ولا تتعايش مع ذنبك أوتظن أن هذا الذنب

أمرٌ طبيعي في مسير حياتك اليومية. خذ موقفًا معاديًا منه وارفع نفسك عن دنسه.

هذا وأسأل الله أن يغفر لي ولكم وأن يجنبنا الذنوب والخطايا ما ظهر منها وما بطن، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت

أستغفرك وأتوب إليك. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المرسلين. 

---

* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.