بتاريخ ٢٦/ ١٢/ ١٤٤٥ هـ
لسماع المحاضرة صوتًا
( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )
رحلة التوبة
رحلة التوبة، رحلة العمر ووظيفته، طريق الجنة الذي ننشده، وطريق العبد الذي أحبه خالقه، طريق النجاة لا حرمنا الله جميعاً أن نسلكه.
صحابية من قبيلة جهينة تخطو خطواتها المتثاقلة نحو رسول الله ﷺ، يسكن قلبها ذنبٌ كبيرٌ أثقل كاهلها، واعتصرها ألماً،
فلم تقوى غير البوح به، والانتقال من حوار النفس والستر، إلى فضيحة أمام نبي الأمة ﷺ وصحبه الكرام وذويها، إلى حدٍّ يُقام عليها،
غير آبهة به، وهي تعلم علم اليقين أن جزاءها الرَّجم حتى الموت، فلم تأبه بغير رضا الله، ولم تهتم بخراب دنياها في سبيل صلاح آخرتها.
تقر الصحابية بذنبها للرسول ﷺ كما ورد في الحديث الشريف: (أَنَّ امْرأَةً مِنْ جُهينةَ أَتَت رَسُولَ الله ﷺ وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَا،
فقَالَتْ: يَا رسول الله أَصَبْتُ حَدّاً فأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبِيُّ الله ﷺ وَليَّهَا فَقَالَ: أَحْسِنْ إِليْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي فَفَعَلَ فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ،
فَشُدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُها، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فرُجِمتْ، ثُمَّ صلَّى عَلَيْهَا. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ،
قَالَ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْن سبْعِينَ مِنْ أَهْلِ المدِينَةِ لوسعتهُمْ وَهَلْ وَجَدْتَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنفْسهَا للَّهِ؟) ”أخرجه مسلم في صحيحه“
كان بإمكانها التوبة على انفراد على سجادتها، وفي بيتها، والستر على نفسها عن فضيحة وسمعة ستتلاشى بمجرد اعترافها،
لكنها النفس إذا استعظمت الجرأة على حدود الله، والجسد إذا قيده الذنب وأثقله، فلا يرضى بغير رضى الله، ولا يقبل بغير حكمه.
هذه الصحابية تجود بروحها للجواد ثمناً لرضاه عليها، وهي التي تعلم أن الرَّجم مصيرها، وأن ما ستعانيه من الآلآم حتى الموت لا يعد شيئاً مقابل الآلآم التي سكنت قلبها وأرهقت فؤادها،
علمت الصحابية أن هناك تنوراً يسعر للزناة يوم لقياه فخافت وُلُوجَه، وعلمت أن الروح لخالقها، وأن الروح أمانة، فاستعظمت تسليم الأمانة وقد شابها شيء من النقص والقصور.
كيف هو حب الله وقد سكن قلب العبد؟! يستعظم ما عظم خالقه مستوحشاً في البعد عنه، وكيف هو حالنا وحال قلوبنا وقد تعايشت نفوسنا مع الذنب،
واستصغرت كبيرها بل ألفته؟! لماذا قبلنا أن تكون نفوسنا كنفوس إخوة يوسف: {ٱقۡتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطۡرَحُوهُ أَرۡضٗا يَخۡلُ لَكُمۡ وَجۡهُ أَبِيكُمۡ وَتَكُونُواْ مِنۢ بَعۡدِهِۦ قَوۡمٗا صَٰلِحِينَ} سورة يوسف:9 ،
نتعايش مع الذنب، ونقرر وقتاً للتوبة وطريقتها، وكأننا نضمن القبول استخفافاً بالله -عزَّ في عُلاه- واجتراءً على حدوده، دون صدق، ودون ندم،
ودون إقلاع عما مضى، أهو تَجرُّؤٌ على حدوده؟ أم جهلٌ بها؟ أم أننا يأسنا من أنفسنا وكأن الشيطان قد نال منا!؟،
ولكن أين نحن من ذاك الرجل الذي أخبر به رسول الله ﷺ فقال: (أنَّ رجُلًا أذنَب ذنبًا فقال: أيْ ربِّ أذنَبْتُ ذنبًا -أو قال : عمِلْتُ عمَلًا- فاغفِرْ لي فقال تبارَك وتعالى: عبدي عمِل ذنبًا فعلِم أنَّ له ربًّا يغفِرُ الذَّنبَ ويأخُذُ به قد غفَرْتُ لعبدي) ”صحيح ابن حبّان“
وأين نحن من قوله -عزَّ في عُلاه- مخاطباً عبده الذي تلطخ بالذنب وأقرَّ به، مستغفراً نادماً،
مُقِّراً وعازماً على عدم العودة : (لو أن ذنوبك بلغت عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي) ”أخرجه الترمذي في سننه وقال الألباني صحيح“
ذنوبك التي استعظمتها ليست عند الله بشيء، يغفرها ما دُمتَ مستغفراً نادماً، ومقلعاً عن ذنبك، وليس هذا بميدان التجرؤ والتسهيل للذنب والمعصية،
لكنه تيئيساً للشيطان الذي يحرقه العبد الصادق بدوام استغفاره.
القضية ليست بعدم العودة إلى الذنب أبداً، لا ليست هي بذاك، وإلا لصافحت العبدَ الملائكة، القضية قضية خالق عظيم، عَلِم ضعف حال خلقه،
وقلة حيلتهم، وطبيعة خلقتهم، فأمرهم بالرجوع والتوبة في كل مرة، وبعد كل ذنب، والقرب بَعد كل بُعد، ووعدهم بالقبول، وفرح بهم وبتوبتهم،
وتبشبش -عزَّ في عُلاه- لهم، وهو الغني العظيم الكريم، الذي لا يحتاج توبة عبده، ولكنه أحبه فخاف عليه ناره.
إن طريق العودة بعد كل ذنب ليس بطريق سهل، فهذا صحابيٌ آخر شاربٌ للخمر، معتدياً على حد عظيم من حدود الله، مقرٌ بذنبه،
في كل مرة يأتي بها للنبي ﷺ بعد شربه لكؤوس الخمر يطلب حد الله عليه، وهو يعلم ألمه، ولكن يريد تكفيراً لذنبه، فيأمر رسول الله ﷺ بإقامة الحد عليه في كل مرة،
فيذوق هذا الصحابي مرارة الجلد، ويعلن توبته مراراً، ولكنها النفس البشرية التي تضعف لشيطانها وتستسلم له، فيعود لذنبه، فيشرب مرة ثانية، وثالثة، ورابعة،
ويقام الحد في كل مرة بعد إتيانه، فيوبخه أحد الصحابة بقوله: أخزاك الله، ما أكثر ما يؤتى بك! فيرد ﷺ : (لا تَقُولوا هَكَذَا؛ لا تُعِينُوا عليه الشَّيْطَانَ) ”صحيح البخاري“، علم رسول الرحمة المهداة ما يعتري الإنسان من ضعف، فوجَّه صحابته لمعالجته.
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان له صديقٌ حسن السيرة، حسن الخلق، سافر إلى الشام فتغير حاله إلى أن شرب الخمر،
ومضى على ذلك سنين، وعمر -رضي الله عنه- في المدينة، وصاحبه في الشام، فجاء يوماً فإذا بأحدهم قادمٌ من الشام، فيفرح عمر -رضي الله عنه- بلقياه ليسأل عن صاحبه،
فتأتي الإجابة : ذاك أخو الشيطان، مازال يقترف الكبائر حتى وقع في شرب الخمر، فيحزن عمر -رضي الله عنه- لصاحبه، ويأسى لحاله،
فينادي بكتاب فيكتب له: ”من عمر بن الخطاب إلى فلان، السلام عليك، فإني أحمد الله إليك {غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِيدِ ٱلۡعِقَابِ ذِي ٱلطَّوۡلِۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ إِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} سورة غافر:3،
والسلام“، وينهي عمر رسالته، ويطلب ممن التفوا حوله بأن يدعوا لصاحبه، وترسل الرسالة إلى الشام،
فيقرؤها صديقه: {غَافِرِ ٱلذَّنۢبِ} وعدني بالمغفرة، {وَقَابِلِ ٱلتَّوۡبِ شَدِيدِ ٱلۡعِقَابِ} قد حذرني عقابه، {ذِي ٱلطَّوۡلِۖ} والطول الخير الكثير، {لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ إِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ}،
فلم يزل يرددها على نفسه، ثم بكى، ثم نزع فأحسن النزع، فما زال يكررها حتى بكى في لحظته، ثم تاب وحسنت توبته،
فلما بلغ الخبر عمر -رضي الله عنه- قال: ”هكذا فاصنعوا، أخاً لكم زل زلة فسددوه، ووفقوه، وادعوا الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا عوناً للشيطان عليه“،
هذا فعل عمر -رضي الله عنه- بصاحبه، فماذا صنعت لصاحبك؟ وكيف كان صدق أخوتك حين زلت قدمه؟ قم ليلك تدعوا وتلهج بالدعاء له ليعود إلى طريقه فينجوا وتنجوا به.
جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: (أرأيتَ مَن عمل الذنوبَ كلَّها ولم يتركْ منها شيئًا وهو في ذلك لم يترك حاجةً ولا داجةً إلا أتاها ، فهل لذلك من توبةٍ ؟
قال : فهل أسلمتَ ؟ قال : أما أنا فأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ ، وأنك رسولُ اللهِ قال : تفعل الخيراتِ ، وتترك السيئاتِ ،
فيجعلهنَّ اللهُ لك خيراتٍ كلِّهنَّ قال وغَدَراتي وفَجَراتي ؟ قال : نعم قال : اللهُ أكبرُ ، فما زال يُكبِّرُ حتى تَوارَى) ”صححه الألباني“
خلق الله عباده بنفخة من روح سماوية، مهما انغمست في الملذات الدنيوية باحثة عن السعادة والراحة لن تجدها، فلا تسكن تلك الروح وتهدأ بغير الرجوع إلى خالقها،
ولنا في قصة قاتل المئة نفس أسوة، ذاك العبد الذي أزهق تسع وتسعون نفساً بيده، تاقت نفسه إلى التوبة،
كما ورد في الحديث الشريف: (إنَ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى راهِبٍ،
فأتاهُ فقالَ: إنَّه قَتَلَ تِسْعَةً وتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: لا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ به مِئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عن أعْلَمِ أهْلِ الأرْضِ فَدُلَّ علَى رَجُلٍ عالِمٍ،
فقالَ: إنَّه قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهلْ له مِن تَوْبَةٍ؟ فقالَ: نَعَمْ، ومَن يَحُولُ بيْنَهُ وبيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إلى أرْضِ كَذا وكَذا، فإنَّ بها أُناسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فاعْبُدِ اللَّهَ معهُمْ،
ولا تَرْجِعْ إلى أرْضِكَ، فإنَّها أرْضُ سَوْءٍ، فانْطَلَقَ حتَّى إذا نَصَفَ الطَّرِيقَ أتاهُ المَوْتُ، فاخْتَصَمَتْ فيه مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ ومَلائِكَةُ العَذابِ،
فقالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جاءَ تائِبًا مُقْبِلًا بقَلْبِهِ إلى اللهِ، وقالَتْ مَلائِكَةُ العَذابِ: إنَّه لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فأتاهُمْ مَلَكٌ في صُورَةِ آدَمِيٍّ،
فَجَعَلُوهُ بيْنَهُمْ، فقالَ: قِيسُوا ما بيْنَ الأرْضَيْنِ، فَإِلَى أيَّتِهِما كانَ أدْنَى فَهو له، فَقاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أدْنَى إلى الأرْضِ الَّتي أرادَ،
فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ. قالَ قَتادَةُ: فقالَ الحَسَنُ ذُكِرَ لَنا، أنَّه لَمَّا أتاهُ المَوْتُ نَأَى بصَدْرِهِ.) ”صحيح مسلم“
ينظر الله إلى عبده من فوق سبع سماوات، يحاد في أرضه، وينتهك حرامه وحدوده لحاجة بشرية، وهو من خلقه، ويعلم ضعفه،
ويعلم مايعتري تلك النفس من قلق ووحشة، فينتشلها مما استقذرت نفسها عليه، ويصطفيها، فيكتب لها طاعة توفق إليها؛ لأنه أحب تلك النفس،
وأحب ذاك العبد، فحبب إليه العودة ليدعوه ويرجوه، فينقذها من شر أحاط بها، ويستجيب لها،
ويبدل سيئاتها حسنات:{إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللهُ سَيِّــَٔاتِهِمۡ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} سورة الفرقان:70،
لا ذلك فحسب، بل يجعل ذاك العبد في مرتبة التائبين الذين يحبهم الله: {إِنَّ ٱللهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ} سورة البقرة:222.
العبد المؤمن، والعبد المسلم يستعظم ذنبه، ويعلم ضعف بشريته، وأنه ليس بخالي من الذنوب، ويعلم علم اليقين أنه خُلق ليكون مغلاقاً للشر مفتاحاً للخير،
وقّافاً عند كل معصية، وعند كل كلمة ألقاها فآذى بها أخيه، وعند كل ظلم وحق ضاع بينه وبين عبدٍ من عباد الله، وعند كل نصيحة سوء،
أو تسهيل لذنب، وعند ذنوبه جميعاً التي نسيها هو وأحصاها الله، ذاك العبد التائب العائد في كل مرة، والخائف في كل زلة،
هو عبدٌ أحبه الله وتاب عليه بصدق توبته، ودفق الإيمان في قلبه ما أن عاد، شعور عارم يعتري العبد ذاك هو فيض الإيمان ورحمته بقلوب عبيد قيدتهم ذنوبهم
فقلبها الله حسنات: {قُلۡ یَـٰعِبَادِیَ ٱلَّذِینَ أَسۡرَفُوا۟ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُوا۟ مِن رَّحۡمَةِ ٱللهِۚ إِنَّ ٱللهَ یَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِیعًاۚ} سورة الزمر:53.
كان النبي ﷺ يدعوا فيقول: (اللهم اغفر لي ذنبي كله دقة وجله سره وعلانيته) ”أخرجه مسلم في صحيحه“
من علامات حب الله لعبده أن يعكر عليه صفو المعصية التي كان يستلذ بها، فلا يعود يشعر باللذة،
وكأنها استجابة لدعوته حينما دعا: اللهم حبب إليّ الإيمان، وزينه في قلبي، وكرّه إليّ الكفر، والفسوق، والعصيان.
يقول ابن مسعود: لم يكن بيننا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية سوى أربع سنين: {أَلَمۡ یَأۡنِ لِلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ
وَلَا یَكُونُوا۟ كَٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} سورة الحديد: 16،
هؤلاء صحابة عاشوا مع رسول الله ﷺ، واهتدوا بهديه، وهم من خير القرون، وعاتبهم الله! فكيف بنا نحن؟!
وكيف بذنوبنا وقد بلغت عنان السماء؟َ ذنوبٌ استصغرناها كانوا يعدونها من الكبائر، فلا يرضى الله لنا ولهم بغير التوبة والعودة إليه،
فيبشرنا بقوله -عزَّ في عُلاه- : {ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللهَ يُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ} سورة الحديد:17.
هذه الأرض، أو هذه النفس التي ظننتها بوراً، وليست صالحة للغرس، بالرغم من كل محاولات استنهاضها وإنعاشها، لا تيأس،
واعلم أن الله قادرٌ على أن يحييها بوعدٍ منه، لذا ندعوه بالاسم الأعظم الذي لا يرد فيه سائله إن دعاه به، فيحيي في قلبه حب النوافل بعد تركها،
وحب القرآن بعد هجره، بل وحب أهله، وحب حفظه والعمل به، وحب الوقوف بين يديه، ذاك هو الحي القيوم -عزَّ في عُلاه-.
أربع علامات للتوبة الصادقة:
1. المسارعة وعدم التأخير في التوبة، قال الله -سبحانه وتعالى- عنهم : {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ
وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} سورة آل عمران: 35
يخبر الله عن من فعل الفاحشة، وظلم نفسه، ثم عاد تائباً مستغفراً، واضعاً ذنبه نصب عينيه، أنه من المتقين؛
لأن فيه من الميزات التي جعلته تقياً ميزة ذكر الله، وطلب مغفرته، وعدم الإصرار على الذنب، بل استعظامه، وعدم التعايش معه،
ولو تكرر مراراً، قال الله -سبحانه وتعالى- عن ذالك العبد: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} سورة الأعراف: 201
2. الاستعاذة من الشيطان وجعل الأذكار جزءاً من يومك لا يُغفل عنه أو يستهان به، فوظيفة الشيطان إغواؤك وتخذيلك،
فلا تنس عدوك الأول منذ بدء الخليقة، من لا تسعده هدايتك ولا يفرح بتوبتك، بل يغتم لصلاحك، فهو يريدك أن تكون في غفلة دائمة لا تستفيق منها أبداً حتى يدركك الموت،
فتكون ضمن جنوده، وتستيقظ على أسئلة لم تُعِدَّ لها جواباً، وعلى صحف منشورة مدون بها دقائق يومك وثوانيه، أسبوعك وشهرك،
ليلك ونهارك، خمسون ألف سنة أعدَّها الله ليناقش بها عمرك بأكمله، حينها لا وقت للعودة، ولا وقت للتوبة، ولا وقت للعمل والتحسين،
فهلا أيقظت روحك واستنهضتها، كل ما عليك هو الاستعاذة من أضعف خلقه وبدء العمل.
ينغزنا الشيطان في صلاتنا، يحرمنا لذة الخشوع، فتنقضي الصلاة وأنت لا تعلم ما تلوت بها، ولا تعلم عدد التسبيح والتهليل،
ولا تتذكر دعواتك، وإن كنت عبداً متذللاً أم لا، تخيل أن تمر دنياك كصلاتك، دون تذكر مافيها من التفاصيل، متلطخة بالذنوب دون شعور بالتوبة،
دون الرجوع إليه، ودون استعظام الذنب، كيف ستكون النهايات؟ كيف ستكون الإجابات يوم لقاءه؟ اللهم اجعلنا ممن يسمع القول فيتبع أحسنه.
3. دوام المقاومة وإعلان الولاء لله بمعرفة أن المعركة بينك وبين الشيطان مستدامة في مقاومة الذنب، ومجاهدة التوبة؛
لأنك مخلوق ضعيف، تذنب، فيأتيك الشيطان ليغويك بأن لا مجال للتصحيح والعودة، ولكنك تعلم أن الله -عزَّ في عُلاه- يراك من فوق سبع سماوات وأنت تجاهد نفسك،
تغالبها فتغلبها بصدق يقينك، وعزم توكلك، وهذا ما يحبه الله منك، مراغمتك لذنبك.
4. أن تكون صادقاً نادماً في توبتك، ولنا في توبة وحشي بن حرب أسوة حسنة، وحشي هو ذاك الرجل الذي قتل حبيب النبي ﷺ وعمه حمزة،
ولم يكن قتله قتلاً عادياً، بل وحشياً كما كان طلب هند بن عتبة، التي اشترطت بقر بطنه، وإخراج كبده، وجدع أنفه،
وإحضاره لها ثمناً لحرية ذاك العبد المشرك، فكان لها ماطلبت ، وقُتل عم النبي ﷺ وحبيبه، قُتل الأمل الباقي لذاك اليتيم الذي فقد أبويه وعمه،
ولم يبق له أهلٌ وسندٌ سواه، قُتل قتلةً عزَّ على النبي ﷺ حاله عند رؤيته، وتمر الأيام فتشتاق نفس ذاك العبد إلى الهداية،
ويحب الدخول في الإسلام، فيأتي إلى رسول الله ﷺ معلناً توبته، ماداً يديه مصافحاً، عاد نادماً على ما فات، فيمد رسول الله ﷺ يده الشريفة مصافحاً ومستذكراً حال عمه،
فيقبل توبته، ويعلن إسلامه، ثم يقول له: (إن استطعت ألا تريني وجهك) ”صحيح البخاري“، ويبدأ هنا الابتلاء منذ لحظة إسلامه،
فيكون اختبار صدق توبته في رؤية وجهه الشريف الذي كان يتهافت إليه صحبه، لاحرمنا الله رؤيته، والشرب من يديه الشريفتين،
فيعلم وحشيّ عمق الألم الذي أصاب به قلب النبي ﷺ في أحب الناس إليه، فيتحاشى التصدر له، ويجلس في كل مرة بجانب المجلس،
ويرى حربته التي قتل بها خير خلق الله، فيقسم بأن لا يدعها حتى يقتل بها أخبث خلق الله، فيدخل في حرب الردة، فيتحين لمسيلمة الكذاب،
الذي لم يستطع سيف الله المسلول خالد بن الوليد قتله في ثلاث غارات في معركة عظيمة مات بها الآلاف المسلمين، فلم تستطب نفس وحشي حتى قتل بذات الحربة مسيلمة الكذاب.
صدق وحشي مع الله فصدقه، صدق في توبته واجتاز امتحانه في أحب الخلق، وندم على ما فاته ولم يعد إليه، وهذه شروط التوبة الصادقة المتقبلة.
اللهم اجعلنا من التائبين الصادقين المتقبلين، واجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.
* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.