بتاريخ ٧ / ٣ / ١٤٤١ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة خاصة بالنساء فقط)


الملخص:

بسم الله الرحمن الرحيم.. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفُسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. أما بعد،

قيراطان.. كل قيراط مثل أحد!

صلّى عبدالله بن عمر على جنازة ثم انصرف من المسجد إلى بيته بعد تأديته الصلاة فجاءه رجل وقال له: يا عبدالله بن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ  يَقُولُ: «مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا، وَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ رَجَعَ، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُحُدٍ»؟ ويُقصد من هذا الحديث أن من يصلي على جنازة ثم يتبعها-من الرجال- حتى تدفن أي حتى يحضِر الدفن، فجزاؤهُ أجر من الله مقدار قيراطان يعني مثل جبل أحد مرتين.

 كانت تلك المرة الأولى التي يسمع فيها ابن عمر ذلك الحديث في حياته، فأرسل خباب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حتى يسألها عن صحة قول أبي هريرة ثم يرجع إليه بجوابها، وما كان هذا إلا  لتعجب ابن عمر من عدم سماعه لهذا الحديث سلفًا.

مر من الزمن حتى حان وقت عودة خباب وكان ابن عمر حينها يأخذ قبضةً من حصوات المسجد يمسكها بيده ويقلبها بين كفييهِ توترًا ينتظر عودة الرسول الذي أرسله. وفي لحظات الترقب والانتظار أقبل عليه خباب حاملًا الإجابة ففزع إليه ابن عمر حينما رآه وسأله ما قالت؟  -يقصد أم المؤمنين-  قال: إنها تقول صَدَق أبو هريرة -أي صحّ حديث الرجل- ومن شدة وَقع الإجابة ضَرَبَ ابن عمر بالحصى التي كانت في يده بالأرض وقال في حسرة: لقد فرّطنا في قراريط كثيرة!.

إن الحياة دقائقٌ وثواني!

في كثير من الأحيان يمرُّ علينا طيف من ذكرى السنوات الماضية لا نتذكر تفصيلًا ما جرى فيها، وكأن الخمس سنوات تعادل خمس دقائق عابرة.. كمرحلة الجامعة مثلًا لا نذكر فيها شيئًا كأنها عدة دقائق ولّت. وقس على ذلك الكثير مما تسمعه من كلام البشر أن هناك عدد من السنوات في حياتهم فُقدت في فراغ. تأمل كيف يضيع عُمرُ المرء من يديه!! وهذا أمرٌ عظيم لا استخفاف فيه.

مزرعة الأعمار!

أعمالُ الخير كثيرة لا حصرَ لها، كركعتي الضُحى قبل الخروج للعمل وغيرها لن تُنقص منك شيء بل هي زيادةٌ وبركة ناهيك عن أجرها العظيم؛ لذا آن آوان السداد والتعويض عما مضى من العمر وفات بلا عمل نافعٍ واستغلال.

المال مادةُ الحياة والوقت مادةُ العمر، فمادةُ عُمرك من سيئات وحسنات هي ما سيتم عليها الفصل يوم القيامة، كما قال النبي  ﷺ : (يوم القيامة ليس الجزاء بأموال ولا دراهم).

إذن كيف نستدرك ما فات؟!

 لو كنّا نملِكُ شيئًا ما ثم ذهب أو انتهى فسيكون أمامنا أحد الخيارين إما أن نندُب حظّنا، أو أن نبحث عن شيء نقوم فيه باستدراك ما فات وهذا هو الخيار الأمثل. فماذا يعني الاستدراك؟ هو اسم من مصدر استدرك، يستدرك. وأدرَكه يعني تَبعهُ ولَحِقَهُ. ويقول الفقهاءُ فيه أنهُ تلافي خَللٍ واقعٍ أو مقدَّرٍ بعَملٍ أو قول، كأن تنتهي من القيام بعمل بشكل غير مُرضٍ، ثم تقوم بإصلاح ما فيه من قصورٍ وخلل.

إذن هل من الممكن فعل أمر يُرجِع لنا ما فات؟ قبل الإجابة على السؤال لابد من النظر في أمرين، وهما: الدنيا التي نعيش فيها، والدين الذين نعيش به.

وكان النبي ﷺ : يدعو بـ «اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي،….» الآخرة ستكون في الآخرة، أما في هذه الحياة فإننا نملك الدين والدنيا وأحدهما سيفوتنا أثناء مُضيّ العُمر ولا ثالِثَ لهما. وقد أرشدنا الرسول ﷺ   كيف نتعامل معهما باتزان، ففي الدنيا ننظُرُ لِمن هو أقل مِنّا كما قال الله عز وجل في إرشاد نبيه ﷺ  (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) فسّمى الله الدنيا بالزهرة والوردة الجميلة الملونة كزينة لها حتى يتمتعون فيها اختبارًا وابتلاء، فابن آدم لا يشبع من النِعم ولو مُلئ ما عنده بوادي من الملايين والخيرات سيكون في سعيٍّ دائم إلى المزيد. أما في الدين، أرشدنا النبي ﷺ  أن ننظُرُ لِمن هو أعلى مِنّا لأننا حينها سنَشُدّ مِئزرنا ونتنافس في عمل الخير.

الألم دواء..

صحيح أن لفوات أمر في الدنيا أو في الدين شعور مؤلم ولا يوجد من هو معصوم من هذا الشعور، كمن تعوّد على أداء صلاة الفجر في وقتها ثمّ تخلف عنها لسبب من الأسباب -وكان حيُّ القلب- تراه يتقطّع ألمًا وحسرةً، كل تلك المشاعِر والآلام لهَا معانٍ وغايات، جعلها الله عز وجل كالبلسم على القلوب، نعم الألمُ دواء إذ أن كثير من الأمور لا تعالج إلا بنقيضِها. كَحالِ الصحابةِ في غزوة أحد مثلًا حينما انهزموا فيها وكانت هي الغزوة الوحيدة التي خسر فيها المسلمون ، المعركة صَعُبت، وأجسادُ الصحابة تتساقط شهيدة، والخبر الكاذب منتشر، ما كانت الطبطبة والبلسم لجراحهم ستكون في شيء سوى رؤيتهم لمحيّا النبي ﷺ أمامهم، حينها هانت عليهم مصيبة الهزيمة طالما أن النبي لايزال حيًّا فلا زال هناك أمل ينتظرهم كي يُشرِّعَ أبوابه.

هذه اللحظات قال عنها الله عزّ وجل {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أي أن الله سبحانه هدَأ نفوسهم بأن أثابهم بغم أكبر حتى هان عليهم الغم الأقل، حتى لا ييأسوا ولا يحزنوا على ما فاتهم من الغنائم ولا على ما أصابهم من الجراح.

يعلم الله أن فوات الأمر الذي نحب له ألمٌ في القلب، إذن كيف نتعامل مع هذا الفوات؟

عوامل تساعدنا على استدراك ما فات

قال الله عز وجل {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}. هذه الآية فيها إرشاد لاستدراك ما فات. ووجه الدلالة في الآية هو “خلفة”، قال العلماء في تفسيرها خلفةً أي من فاته عمل الليل أدركه في النهار ومن فاته عمل النهار أدركه في الليل، يُفهم من هذه الآية أن على المؤمن ألا يعيش يومه عبثًا ظانًا أنه يوم ضائع يعيشه وينتهي، بل عليه إن فاته شيء أن يعوضه.

نماذج من استدراك الصحابة و التابعين لما يفوتهم

١. أنس بن النضر – رضي الله عنه-

جاء أنس بن النضر للنبي ﷺ متألمًا متكدرًا بعدما فاتته غزوة بدر فقال: (يا رسول الله غبتُ عن أول قتال قاتلت فيه المشركين -يعني يقولها مستنكرًا أنا أنس بن النضر أغيب عنك أنت يا رسول الله في أول قتال تقاتل فيه المشركين- وأكمل قائلاً: لَئن أشهدني الله قتال المشركين؛ لَيَرَيَنَّ الله ما أصنع).

إن المرء ليعجب من قوله ورباطة جأشه، لم يقل سترى يا رسول الله، سترى ما يمكنني صنعه بل كان جل تفكيره هو رضا الله، فهو يؤمن بأن رسول الله ﷺ لا يملك  شيء، فالأمر بيد الله عز وجل، وأضاف قائلاً : (يا رسول الله أأنا أغيب عنك؟!، أأنا أغيب عن قتال المشركين كأنني منافق أو من هؤلاء الجبناء؟!، لَئن عشتُ وشهدتُ قتالًا آخر للمشركين؛ ليرنّ الله ما أصنع)

هل منا من يتجرأ أن  يقول يارب سترى ما يمكنني صنعه؟، ثم وقعت معركة غزوة أحد، فكان أنس بن النضر من أوائل الناس الذين يشهدونها؛ ليشارك صادقًا ملتزمًا بوعده.

سعد بن معاذ الصحابي العظيم الذي اهتز عرش الرحمن لوفاته، لكم الآن أن تتخيلوا أن سعد هذا يقول عن أنس بن النضر “والله يا رسول لم أستطع أن أفعل ما فعل”، يثور التساؤل ماذا فعل أنس؟ ما الذي قام به أنس ويعجز سعد بن معاذ عن فعله؟  يذكر عدد من الصحابة أنهم (وجدوا أنسًا بعد المعركة شهيدًا ممثلاً به -ويعني أن المشركين شوهوا جسده ووجه- ووجدوا به بضعًا وثمانين ضربة، ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم).

دعونا نتوقف قليلاً ونتأمل ما قيل عن جسد أنس بعد المعركة، هل يستوعب المرء كيف لجسد إنسان أن يتحمل هذا العدد ٨٠ ضربة!! لم تكن واحدة ولا خمسًا ولا عشرًا أو عشرين أو خمسين ضربة، بل هي (بضعًا وثمانون ضربة).

نتصور من هذا الكلام كيف كان يقاتل ببسالة رغم الحديد المؤلم الذي قطّع جسده، رغم الدماء التي تنزف من جسده، رغم احتدام الصراع، وتكالب الأعداء وتخاذل الأصدقاء، ورغم ما يراه من تساقط الصحابة من حوله، وتراجع آخرين منهم، ظل يقاتل، حتى وهو ينزف، كان يقاتل بأشباه وبقايا إنسان، كان عند وعده لله وما عاهده بأنه سيريه ما يصنع فجاهد وقاتل ومات شهيدًا بطلاً في تلك المعركة، ولما جرى له من تمثيل وتشويه غيّر من وجهه وجسده لم يتمكن الصحابة من معرفته، فما عرفته إلا أخته الربيع بنت النضر، جاءت تتفقد أرض المعركة؛ فعرفته بشيء في اصبع يده.

 يقول أنس بن مالك  ـ: كُنَّا نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: “مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً “

سورة الأحزاب 23.


٢. أبو مسلم الخولاني -رحمه الله-

أبو مسلم الخولاني  كذلك -أحد التابعين القريبين جدًا من عهد النبي ﷺ – عندما أسلم سافر من بلده قاصدًا المدينة رغبة منه أن يلتقي الرسول ﷺ ويتشرف برؤيته ليكون من صحابته.

تخيلوا حجم حسرته، فبمجرد أن وصل للمدينة وجد الناس قد فرغوا لتوهم من دفن الرسول ﷺ. أي حسرة شَعر بها وهو المسافر المتلهف للقاء خير البشر، أي حسرة شَعر بها وهو يسمع هذا الخبر، كانت هذه الحسرة ترافقه طوال حياته، لم يعشْ أيامه عادية كغيره، بل عُرف بأنه التابعي الذي يقوم أغلب الليل ولا ينام، فإذا فترت رجله كان يضربها بيده ينشطها، ويقول:

“أيظن أصحاب محمد أن يستأثروا به دوننا؟ كلا، والله لنزاحمنهم عليه زحامًا حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً”.


إنه نموذج من هؤلاء المتنافسين على الخير والتقوى الذين كانوا يستدركون ما فاتهم يستشعرون أنه لو فاتهم شيء من الخير، لم يكونوا ليحيوا حياة طبيعية.

نعرف الكثير عن قصص الصحابة، وكيف أن بعضهم يُسلم وعمره ٤٠،٥٠، و٦٠ وبعضهم الآخر يُسلم وهو في عمر في الشباب. فهؤلاء الذين كانوا يسلمون وهم كبار في العمر كان غالب ما يسألون النبي ﷺ عن أفضل الأعمال وأحبها لله.

يُروى أن عبد الله بن مسعود قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا»، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ» قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُول ﷺ سُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ». قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ»

لو تمعنَّا في أسئلة الصحابة سنجد أنها لم تكن أبدًا حول الأعمال البسيطة، في المقابل لو لاحظنا أنفسنا أحيانًا عندما نسأل عن أي مسألة مثلاً: صلاة الضحى  أو صلاة الوتر ستجدنا نسأل عن أقلها، ونادرًا ما نسأل عن أكثرها. كأننا نتنازل عن الأجور العظيمة بالأجر القليل ونفوت على أنفسنا فرص جليلة، أُيقبل منّا ذلك ونحن أمة محمد ﷺ ؟

 الأمة التي عُرفت بأنها تبحث دائمًا عن الأجر المضاعف. تخيلوا كيف أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسألون الرسول أي الصلاة أفضل؟ كانوا طامعين في مزيد من الأجر، كانوا يبحثون عن مزيد من الفرص لتقربهم من الله، كانوا سيؤدون الصلاة كما تعلَّموها، لكنهم أرادوا الإحسان فيها، فرد عليهم الرسول ﷺ ” طول القنوت” يعني طول التلاوة.

وسُئِلَ ﷺ أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ” مَا اصْطَفَى اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ.

دعونا نتذكر ونراجع أنفسنا، متى كانت آخر مرة ردّدنا ذِكر (سبحان الله وبحمده)؟ أليس هذا الذكر ضمن أذكار الصباح والمساء، الذي يفترض أن تلهج به ألسنتنا صبحًا ومساء، لا تجف ألسنتنا من ذكره.

أعمال الخير تتفاضل، لاحظوا قول الله عز وجل أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله؟ هذين العملين لا يستوون عند الله، قد يُشغلك الشيطان بشيءٍ مفضول عن شيء أفضل وتظن أنه كل شيء مع أن هنالك أبواب للخير أعلى تُدخِلُك في مراتب عليا في الجنة لكن ضاع العمر و أنت لازلت في تلك المرتبة !

يقول حُريثُ بنُ قَبِيصةَ: قَدِمتُ المدينةَ، فقلتُ: اللَّهمَّ يَسِّرْ لي جَليسًا صالحًا، قال: فجلَستُ إلى أبي هُريرةَ، فقلتُ: إنِّي سأَلتُ اللهَ أن يَرزُقَني جَليسًا صالحًا، فحَدِّثْني بحَديثٍ سَمِعتَه مِن رسولِ اللهِ ﷺ لعلَّ اللهَ أن ينفَعَني به، فقال: سَمِعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: إنَّ أولَ ما يُحاسَبُ به العبدُ يومَ القيامةِ من عملِه صلاتُه ، فإن صَلُحَتْ فقد أَفْلَحَ وأَنْجَح ، وإن فَسَدَتْ فقد خاب وخَسِرَ ، فإن انْتَقَص من فريضتِه شيئًا ، قال الربُّ تبارك وتعالى : انْظُروا هل لعَبْدِي من تَطَوُّعٍ فيُكَمِّلُ بها ما انتَقَص من الفريضةِ ، ثم يكونُ سائرُ عملِه على ذلك.

لماذا نبخل على أنفسنا بأشياء تنقذنا يوم القيامة؟ والحسنات يذهبن السيئات فلا تحرم نفسك من هذا الخير.

والاستدراك هنا أن ما لا يدرك كله لا يترك كله وهي قاعدة أصولية فقهية، فالشيء الذي لا تستطيعه كله لاتتركه بأكمله، والإنسان إن نسي أن يُسمي في أول الطعام لا يمتنع عن التسمية لأن وقتها قد فات بل يقول: باسم الله في أوله وآخره حتى يؤدي شكر النعمة وهذا من استدراك ما فات، وكذلك حتى يُحرم الشيطان من مشاركته في الطعام.

ما الذي يجعلنا نفوّت؟!

أولًا: التسويف أي التأجيل من يوم إلى يوم آخر ويذهب العمر واليوم الآخر لم يأتِ بعد.

ثانيًا: الرفقة، أي الناس المحيطين بك لهم سبب كبير في إقبالك للخير من عدمه لا يشترط أن يكونوا رفقاء السوء حتى يزينوا المعاصي وإنما قد يكون وجودهم لا يعود عليك بالفائدة ولا يضيف لك شيئًا بل ربما يعيقونك من التقدم ولا يُحفزونك للعمل والبذل، فعليك الانتباه والحذر ممن يحيطون بك

الأمر الآخر الذي قد يكون سببًا لفوات عمرك هم أقرب الناس لك كزوجك وأولادك وأهلك.

إذن العبرة لا تقدم على الله كائن، حتى لا تخسر خيرًا.

ما الأمور التي تجعلنا نستدرك؟

أولها، بيئتك المحيطة بك لابد أن تنتبه لها. فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يغيرون بيئاتهم فينتقلون من مكان إلى مكان آخر هربًا بدينهم، ولذلك إذا كان المحيط الذي أنت فيه يؤثر عليك سلبًا ولا يساعدك على الخير، استبدله بمحيطٍ آخر محفز ويدفعك للخير.

يمكنك أيضًا أن تشترك في برامج مثرية، أو مراكز تساعدك على أن تراجع حفظك، أو اشترك في أي عمل تطوعي يعود عليك بالخير والنفع، لا تجعل أيام عمرك تنقضي دون ذلك، فالبيئة تجعل منك إنسان أفضل فلا تفوتك الخيرات.

ومن أهم الوسائل لكي تستدرك أهم ما فات هي

التوبة

فأول مكارم التوبة أن تتوب من أي ذنب فيقلب الله لك كل سيئاتك التي فعلتها إلى حسنات .

لا تيأسنّ من نفسك..!

لا تيأس أبدًا ولا تغلبك مشاعر الإحباط في استدراك الذي فات، قد يؤثرون عليك بكلام كـ “لم يعد هناك فرصة لك بعد هذا العمر أو كبرت وفاتتك الفرص، أو يرددون عليك المثل الشعبي المغلوط لما شاب ودوه للكتّاب”!!

ولو عدنا لتاريخنا الإسلامي لوجدنا المزيد من الأمثلة العظيمة لمحاولة استدراك ما فات، كـ ابن حزم الذي طلب العلم بعد أن كان عمره ستة وعشرين سنة، وابن حجر الذي مرت عليه سنوات لم يطلب فيها العلم ولم يكن من أهل الحديث، وكذلك الشيخ محمد بن عبدالوهاب الذي وقع في نفسه وهو صغير ما رآه من شرك في المدينة حتى كبر ودعا الناس للتوحيد، وأعادهم للإيمان بلا إله إلا الله خالصة من الشرك.

نستفيد من ذلك أن قلمك قد يسيل ولو طال بك العمر، فاكتشف جانبًا جديدًا في نفسك، ربما هناك موهبة مدفونة فيك لم تكتشفها بعد.

لا تيأس من نفسك ولا تظن أن العمر فات، لا تدري قد ينتظرك في مستقبلك أعظم مما مضى ولو كان ذاك الماضي كثير!.

اعزم على المضي منطلقًا وسترى من الله عزوجل الخير، ولا تيأسنّ من نفسك.

وأختم حديثي بشيئين اثنين لابد أن تنتبه لهما:

أولها:

إن انتابك شعور بأن العمر قد فاتك، لا تكتف وتركن لمكاسبك التي كسبتها، واسع لأن تقوي نقاط ضعفك والقصور في شخصيتك، ولا تنس أن ما فاتك من الخير لابد من استدراكه

ثانيها:

لابد أن تسابق ما فاتك وتعمل جاهدًا لتعويضه، فالشعور بالمسابقة، هو الذي يجعل الناس يتمايزون بين بعضهم البعض ويدفعهم لتقديم الخير والتقدم.

أذكِّركم واذكِّر نفسي، إن كان هدفنا الفردوس الأعلى، فنحن نحتاج إلى عملٍ جادٍ وسعي متواصلٍ.

أسال الله أن يرزقنا ووالدينا الفردوس الأعلى من الجنة، ويغفر لنا ويرحمنا.


* تنويه: مادة المحاضرة جُمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.