بتاريخ ١٩ / ٩ / ١٤٤١ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط)


أيام معدودة ونصل إلى الثلث الأخير من هذ الشهر، هذه الـ10 أيام المتبقية هي موسم المتسابقين وسوق العابدين وفرصة المجتهدين، هذه العشر لم يكن النبي -عليه الصلاة والسلام-

يستقبلها استقبالًا عاديًا وإنما كان يستقبلها ويحتفي بها، تقول عنه عائشة رضي الله عنها: «كان النبي عليه الصلاة والسلام يجتهد في العشر الأواخر

مالا يجتهد في غيرها» (أخرجه مسلم: صحيح)    إذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- في قيامه العادي يقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء في ركعة، فكيف إذًا في رمضان؟ وفي العشر الأواخر؟

قد يسأل الإنسان

ما فرق هذه العشر الأواخر عن العشر الأوائل والأواسط؟

من رحمة الله عز وجل بنا أن يجعل دائمًا آخر المواسم الفاضلة أفضل من أولها. ولذلك نجد أن آخر ساعة في يوم عرفة

من بعد زوال الشمس إلى مغربها هي أرجى مواطن إجابة الدعاء وفيها نزول الرب. وفي يوم الجمعة أرجى ساعة يُجاب فيها الدعاء

هي آخر ساعة قبل المغرب. وكذلك شهر رمضان آخره أفضل من أوله.

وجعل الله عز وجل في هذه العشر الأخيرة مزيّة لا توجد في العشرين يومًا السابقة، وهي أن فيها ليلة القدر، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول:

«تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» (أخرجه البخاري: صحيح) وهذه الليلة قد شرفها الله -عز وجل- وجعلها ليلة ذات قدر

ومنزلة وعظمة، قال عنها النبي -عليه الصلاة والسلام-: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (أخرجه البخاري: صحيح)

(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر:3)

لهذه الليلة مزية وهي أن التعبد فيها يساوي تعبد ألف شهر أي 83 سنة ! وهذا من فضل الله -عز وجل- على أمة محمد

-عليه الصلاة والسلام-، فحين عرضت عليه أعمار أمته قال -عليه الصلاة والسلام-: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ» (أخرجه الترمذي، وقال الألباني: حسن).

فلما تقالّ أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله -عز وجل- ليلة القدرخيرٌ من ألف شهر.

ومعنى ذلك أنك تتعبد الله في ليلة واحدة بمقدار 9 ساعات فقط وتكون هذي التسع ساعات تساوي 83 سنة ! هذا فضل من الله عز وجل كبير جدًا

لم يكن لأي أمة سابقة قبلنا. فلو قمت بتقسيمها على 9 ساعات يكون نصيب الساعة الواحدة في ليلة القدر كأنك تعبد الله بما يعادل

9 سنوات و3 أشهر، فربما ساعة واحدة أضعتها على هاتفك تضيع فيها ما يعادل تسع سنوات وثلاثة أشهر من عمرك.

(تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ) (القدر:4)

تنزل الملائكة وجبريل عليهم السلام إلى الأرض، يقول العلماء في شرح هذه الآية :”فتكتظّ الأرض وتكون الملائكة عددهم في

هذه الليلة أكثر من عدد الحصى وذلك مما يرفع من أعمال ابن آدم من الصالحات في هذه الليلة”.

(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان:3-4)

ليلة القدر لها مزية أخرى ففيها تتنزل الأقدار والآجال، فتنزل الأقدار والرزق والصحة والمرض والموت من اللوح المحفوظ

إلى صحف الملائكة. ولذلك الدعوات فيها مجابة والأسئلة فيها تُعطى ومن استجار فيها بالله -عز وجل- أجاره مما يخاف.


متى نطلب ليلة القدر ؟

قال -عليه الصلاة والسلام-: «التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ القَدْرِ، فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى» (أخرجه البخاري: صحيح)

نطلبها من ليلة ال 21، فقد تكون جميعها، وقد تكون ليلة متحركة تارة 21 وتارة 27 هكذا.. وقد تكون ليلة ثابتة والله أعلم، لكن الله خبأها

عن عباده لتنشط الأمة في التماسها، فلو كان أحدهم متعبدًا في كل ليلة من هذه الليالي فجزمًا أنه يدركها ولابد.


أفضل الدعاء في ليلة القدر

عائشةرضي الله عنها قَالَتْ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» (أخرجه الترمذي، وقال الألباني: صحيح)

لاحظ أن الدعاء ليس فيه سؤال الجنة أو التعوذ من النارولكن التعبد باسم الله العفو وهو المتجاوز عن سيئات عباده الماحي لآثارها عنهم

فلن تراها في الصحائف ولا في الأعمال ولا يحاسب عنها الإنسان يوم القيامة لأنها قد مسحت.


ماذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يفعل في هذه العشر؟

عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» (أخرجه البخاري: صحيح)

* شَدَّ مِئْزَرَهُ، كناية عن الاجتهاد في العمل والترفع عن الشهوات واعتزال النساء، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- في هذه العشر يلتفت عن كل مناحي الدنيا ويتفرغ لإحياء الليل.

* أَحْيَا لَيْلَهُ، ومعنى هذا الأمر إما أنه بالفعل يحيي الليل كله من صلاة العشاء إلى الفجر،  وإما يكون إحياء الأغلب

من الليل إلا ساعة أو ساعتين، وهذا ما تميل إليه عائشة رضي الله عنها قالت: «ما أعلمه -عليه الصلاة والسلام- قام ليلة حتى الصباح».

* وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، فكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يطرق باب ابنته فاطمة وزوجها علي رضي الله عنهما

ليلاً فيقول لهما “ألا تقومان فتصليان؟” ولولا أن الأمر مهم لم يطرق عليهما الباب.

* وكان النبي -عليه الصلاة والسلام- أيضًا يستقبل العشر بالاغتسال بين العشاءين وكان يتطيب لهما.

يقول ابن رجب “يستحب في هذه الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتطيب والتزين بالغسل والطيب واللباس الحسن كما يُشرع في الجُمع والأعياد”.

ولكن هل يكفي التزين الظاهر؟

ديننا يعلمنا أن لا معنى للتزين الظاهر إلا لو تزيّن الباطن بالتوبة والإنابة، فلا يفيدك تطييب ثيابك مع بقاء القلب متسخًا !

* من أعظم الأمور التي كان يفعلها النبي -عليه الصلاة والسلام- وأبرزها الاعتكاف وهو قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق. عن عائشة رضي الله عنها قالت:

«أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ» (أخرجه البخاري: صحيح)

فكان يدخل -عليه الصلاة والسلام- ويمكث العشر كلها في معتكفه داخل قبة تضرب له  في المسجد ولا يدخل عليه أحد، وكان إذا أراد أدخل رأسه من المسجد على بيت عائشة فتغسله أو ترجله.


حال السلف مع الاعتكاف

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “ينبغي أن يعلم المعتكف أنه ليس المراد بالاعتكاف أن يكون سحوره

وفطوره في المسجد إنما المراد بالاعتكاف أن يتفرغ بالطاعة وأن ينتظر ليلة القدر”.

ابن القيم يقول: “الاعتكاف مقصوده وروحه عكوف القلب على الله وجمعيته عليه والخلوة به والانقطاع عن الانشغال بالخلق

والاشتغال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب فيصير أنسه بالله بدلًا

عن أنسه بالخلق، والاعتكاف هو عكوف القلب بكليته على الله لا يلتفت عنه يمنةً ولا يسرة وهكذا حتى يجد لذّة غامرة عند مناجاة ربه حتى يصير وكأنه يخاطبه ويسامره ويعتذر إليه تارةً ويتملقه تارةً ويثني عليه تارةً حتى يبقى القلب ناطقًا بقول: أنت الله الذي لا إله إلا أنت، من غير تكلف له بذلك”.

الشيخ الشنقيطي يقول: “ما يصيب المعتكف من هم ولا نصب ولا غمّ ولا شوكة يشاكها حتى النومة إلا كتبت له أجر في ذلك”.

لاحظ أنه لم يرد في الاعتكاف فضلٌ محدد، فأجر المعتكف أقرب الأجور إلى أجر الصابر يفتح فمنذ أن يدخل معتكفه يبدأ عداد الحسنات فلا يغلق إلا بعد أن يخرج من معتكفه.

إبراهيم بن وكيع يقول: “كان أبي يصلي فلا يبقى في دارنا أحد إلا صلى حتى جاريةٌ لنا”.

يقول السائب بن زيد: “كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر”.

نختم بلمحات سريعة..

  • إذا دخلت هذه الليالي فاستقصر زمانها فلا تهولك أنها تسع أيام، ستمر سريعًا.
  • منذ ليلة الـ21 استحضر كل فضائل العشر ومن الممكن أن تستزيد بقراءتك عن ليلة القدر وعن اجتهاد الصحابة وهدي النبي -عليه الصلاة والسلام- فيها.
  • هذه التسعة أيام لله، حاول ألا يصرفك عنها ربع ساعة ولا نصف ساعة، حاسب نفسك بالدقائق والثواني.
  • جاهد نفسك فلا يرى الخيرات إلا من جاهد، فلا تتوقع أن أنفسنا ستأتينا وتكون نشيطة، بل اجتهد وحاول أن تبذل.
  • لو شعرت بفتور ارفع يديك واسأل الله حُسن العبادة “اللهم إني أسألك ذكرك وشكرك وحسن عبادتك”.
  • نوّع في الطاعات من دعاء وصدقة وصلاة وقراءة القرآن.
  • عندما تقبل على صلاتك حاول ألا تمضي عليك وأنت بارد المشاعر، تعلم أذكار الصلاة لما فيها من تعظيم للرب وتسبيحات تذيب قساوة القلب.

أذكار الركوع 

(سبحان ربي العظيم، اللهم إني لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت أنت ربي خشع لك سمعي وبصري ومخي

وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي لله رب العالمين، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة).

أذكار الرفع من الركوع 

(ربنا ولك الحمد، حمدًا طيبا كثيرًا مباركاً فيه كما تحب ربنا وترضى) وإن شئت فزد بقولك (ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء

ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد  أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، اللهم طهرني بالثلج

والبرد والماء البارد اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس).

أذكار السجود 

(سبحان ربي الأعلى، اللهم إني سجدت وبك آمنت ولك أسلمت أنت ربي سجد وجهي للذي خلقه وصوره فأحسن صوره وشق سمعه

وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين، اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله أوله وآخره وعلانيته وسره، سجد لك سوادي وخيالي وآمن بك فؤادي هذه يديّ وما جنيت على نفسي).

أذكار بين السجدتين 

(رب اغفر لي ثلاثًا) أو (رب اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني واهدني وعافني وارزقني).

رمضان زمان الكسب فلا ترضَ بالخسارة، فمن جاءته كل أسباب المغفرة ثم خرج من رمضان لم يغفر له استحقّ فيها دعوة النبي -عليه الصلاة والسلام-

ودعوة جبريل عليه السلام: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ» (أخرجه ابن حِبّان في صحيحه، وقال الأرنؤوط: حديث صحيح لغيره)

إن وجدت أن رمضان قد شارف على الرحيل وأنت أنت لم تتغير ولم  تترك ذنبك، قف على باب الله ولا ترضَ أن تخرج

من رمضان وأنت لم تفز بشيء، لا ترضَ أن تشرق شمس العيد إلا وأنت من المغفور لهم.

نسأل الله أن يغفر لنا وأن يعفو عنا وأن يعتق رقابنا من النار والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.

2 تعليقات

التعليقات مغلقة