بتاريخ ٢١ / ١ / ١٤٤٠ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط)


الملخص:

عند مُفترق الطرق الحياتية، وبواباتها الانتقالية يمر بالخاطر سؤالٌ عن صحة الطريق, ومكاننا من هذا العالم الفسيح .

يقول مالك بن دينار رحمه الله في معرض الكلام عن الدنيا: ” مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل له وما أطيب ما فيها، قال ، معرفة الله عز وجل ومحبته

نظرية تُفصح عن أجمل وأطيب ما في الدّنيا، عن طيبٍ يكونُ هاجِسُك إذا فهمتَهُ؛ ألّا يفُوتك، وإذا قارنته بكل لذة ومُتعة ومسرّة تذوقها؛ وجدته باقٍ وما دونه فان! 

على مرّ الأزمان كان للبشر محاولات لفهم الحياة وتفكيك قوانينها؛ ومنهم من يُعنون بمجالِ تطوير الذات الذي يمثِل “ديل كارنيجي” أحد روّاده المشاهير الذي ترك حصيلة كبيرة من الكُتب التي تناولت قوانين وأنظمة أرشدت ملايين من النّاس وأنقذتهم من اليأس والإحباط، لكن المفاجأة أنه مات منتحرا في نهايةٍ تجلو لنا الفرق الشاسع بين المؤمن وغير المؤمن.

فمن قوانين الحياة التي نستطيع بها توجيه دفّتِنَا وتقوِيمِهَا لنضمن سعيا على صراطٍ مستقيم وعيشٍ هني قويم:

الدِّينُ لا يُتّخذُ لهوًا

يملك المسلم هامشًا من المُباح ليتخيّر ويلعب ويتمتّع، أمّا دينُه، فلا خيار له ليتّخذه لعبا ولهوا، يأتي ما يتشهّاهُ منه ويترك ما خالف هواه، مغترًا بنعيم حياته متكّلًا على حِلم الله وعفوه، غافلا عن استدراجه وإمهاله، كأن في يديه ضمانٌ لمقبل أيامه.

وليس يدري المتلاعِب بدين الله وأحكامه أيّان يُختم له، يقول الله تعالى في وصفه لهم:

(الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ(

(51:الأعراف) .

وهُنا مكمنُ الخطر وعنوان الخسارة؛ أن تنسى الله في دُنياك فينساك يوم القيامة في أخراك!

وثمّة من لا يكون ناسٍ وفي القلبِ عنده تذكرة لكنّه ينسّي نفسه؛ ليستلذّ بلحظته حتّى يصبح يومًا وقد غَفِلَ قلبه ومات ضميره وفي ذلك الإصباح قد يكون صِفرا عند الله، لأنّه نَسي فنُسي،والنجاة في أن يجعل المسلم خطوطا حمراء تحيط بدينه وسلامة قلبه،لا يتجاوزها مهما كان مقصرًا ومقترفًا للذنوب .

الحكم حكم الله وحده

يقول الله تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

(40:يوسف)

في إعلان صريح، أنّ القانون في الأرض والحكمُ عليها هوَ حكم الله وحده، لا أحد سواه.

وتربية للقلب على التسليم؛ فلا فرحٌ يُطغي ولا حُزنٌ يكسر ويكون الرجاء بما عند الله حاضرًا، والاستغناء عمّا في أيدي النّاس منهجًا ومن حِكَمِه أنه خلقك بهيئةٍ وتقاسيمٍ محددة، وبيئة وعائلة معينة، وظروفٍ وإمكاناتٍ مقسومةٍ ما كان لك يدٌ فيها وليس لك تغييرها؛ إنّما أنت مخوّل للعملِ بها ومعها، فهي مقوّماتٌ من الله عزّ وجل، وُهِبتَها لتستعملها وفق مُرادِه بأمرِه وحُكْمِه .

(3) “أيّما طريقٍ سلكته وردت على أهله”

جاء عن الحسن البصري أنه قال: (ليسَ الإيمانُ بالتَّمنِّي ولكنهُ ما وقرَ في القلبِ وصدَّقَهُ العملُ)

                   من أراد الوصول لمدينة الرياض لابدّ أن يجتاز طريق الرياض،لا يمكن أن تقصد محلّا وتَبْلُغَهُ دونَ المرورِ بطريقِهِ.

الطرقُ قد تكون كُتبًا،قناعات أو أصدقاءٍ وجُلساء، انتقائُكَ لهم ينبغي أن يُحَدِدَهُ المحلُ الذي تبتغي الوصولَ إليهِ، فجلساء السوءِ مثلًا،معلومٌ إلى أيَ محلٍ سيوصِلونَك، وادّعائك أنك تبتغي محلا طيبا وهُم طَرِيقك، ادعاءُ المْتجاهِل.

                    انتقائك اليوم، محشرك غدا ” أنت مع مَن أحْبَبْتَ…”

[أخرجه البخاري، صحيح]

 لا شيء يحدث بالصدفة، والنتائج لن تكون مفاجئة، وهكذا لو جالست الصالحين، فهم طريقٌ لمحلٍ طيبٍ معلومٍ.

إلّا أن هذا السير في الطرقات وحالُك فيه لن يثبُت، فإمّا أن تستمرّ إلى عُلو، أو تتراجع إلى انحدار، و واجِبك أن تتفقد نفسَك وتتنَبَه لمِكانِك ومنزلَتِك بين العلوّ والدنوّ.

ما عند الله لا يُنالُ إلّا بطاعة الله

العطايا كلها أرزاق، ما نجتهد له وما يأتينا عفوًا بلا كَلَفٍ منّا،والذي يُؤرِّقُ المؤمنَ أن يُؤتى من النِعم وهو على معصية بَيّنَة؛ خشيةَ أن يكون استدراجًا، فالله قد يَسْتدرِجُ الإنسان بنِعمِه، كالذين فرحوا بالدنيا حتى أخذهم الله بالعذاب .وقد يبتلي الله عباده ليختَبِر صِدْقهم، وقد يمنعهم في الدنيا ليُعْطِيَهُم في الآخِرَةِ، وما الدنيا وإن طال عيش المرء فيها إلّا أيامٌ قلائل مُنْتَهِية، وبعدها آخرة لا منتهية،وقد يُهيئ الله عبدَه لمرحلةٍ قادمة، يبتليه ويمنعه، والدنيا والآخرة على كُلِّ حالٍ هي لله؛ إذا اقتربتَ مِنهُ فُزتَ فيهما وإذا ابتعدت عنهُ خسرتهما جميعاً.

الحد الأدنى منها يكفيك والزيادة تطغيك

   ما زاد عن حدّه انقلب إلى ضِدّه،ومثَلُ الجائع الذي يشتهي كل صنف،ما إن يأكُلَ لقيماتٍ قليلاتٍ إلّا ويغادره جوعهُ ولو عاند وزاد لأوجعه بطنه، وتكدّر مزاجه؛ كمثَلِ الدنيا، الزيادة منها تصيب طالبها بالنهم، ولا يكاد يملك شيئا إلّا ويطلُب غيرَه،فلا يعود يرضى ولا يهنأ بشيء، ويظلُ ساخطا فارغا متألما. لما مات عمر بن عبدالعزيز، الخليفة الزاهد الذي طلّق الدنيا بأكملها بعد أن جاءته راغمة،كان يردد: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ

(83:القصص)

فَجْأَتُها تُقلِقُ العُقلاء

تحقيقُ مجموعة القوانين السابقة يُمِدُك بالقوة والصلابة لتثبُت بإذن الله عند مُلاقاة مفاجآت الحياة، وأهمها وأوكدها لحظة النهاية والمفارقة والانتقال من دار الدنيا لدار الآخرة، في فجأة تقلق العقلاء، وتوقف فرصة الاستدراك، يقول الله تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)

(34:الأعراف)

لحظةٌ خاطفة لا تستأخر ولا تَسْتَقدم، يقِينُكَ بهذهِ اللحظة يدفَعُك للاستعدادِ لها، واستحضارِها يجعلُك تتخيّر أعمالك وأقوالك ودوافعك ونواياك وغاياتك .

جبلّةُ الحياة الكدر

لم تخلق الحياة صافية، جُبِلَت على الكدر، لا يكتمل فيها حَسَن، ولا يستمرّ فيها سُكون، ومن عاند هذه الجبلّة أرهق روحه ونفسه ثم هَلك، والنجاةُ في إدراكُنَا أنها تَتَقَلَّبُ بين اليُسرِ والعسر لا تثبت على أحدها  و في يَقِيننا وتسليمنا  لقول الله (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) .

وقد رُوي أن خليفةً طلب من وزيرهِ أن يكتب على خاتمه أمرًا إذا تَذَكَّرَهُ في الفرحِ هَبط،وإذا تذَكَّرَهُ في الحزنِ انجلى، فكتب له ” هذا الوقت سيمضي ” .

قانونٌ يصونُ من الانكسارِ لحظة الحزن، واليأس لحظة البلاء، والطُّغيان لحظة الفرح وانفتاح باب الأرزاق من كل ناحية.

الخسارة فيها كبيرة لأنها فرصة الربح الوحيدة

            يقول النبي عليه الصلاة والسلام : (من خاف أدلَج ، ومن أدلَج بلَغ المنزلَ ، ألا إنَّ سلعةَ اللهِ غاليةٌ ، ألا إنَّ سلعةَ اللهِ الجنَّةُ)  

  [أخرجه الترمذي، وقال الألباني: صحيح]  

والدّنيا طال بقاؤنا فيها أو قصر هي حقل الزارع، واختبارُ العاقل، من حسن غرسه فيها طاب حصاده، ومن أفلح في اختبارها ربح ما بعدها، وإن غاية المنى ومنتهى المطالب هوَ الفوز بدخول الجنّة والزحزحة عن النار.

والهمم مختلفة حتى بين المؤمنين وباختلافها تختلف الحياة، القرارات والاختيارات، المبادئ والحدود.

فمن أراد الجنة دفع مهرها، وادّخر له ما ينجيه، وآثر آخرته على دنياه، حتّى إذا كانت اوّل لياليه في قبره وقد فارق الدنيا كان من النّاجين من الخسارة.

كان عثمانُ رضِي اللهُ عنه إذا وقف على قبرٍ يبكي حتَّى يبِلَّ لحيتَه فقيل له : تذكُرُ الجنَّةَ والنَّارَ فلا تبكي ، وتذكرُ القبرَ فتبكي ؟ فقال : إنِّي سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ : القبرُ أوَّلُ منزلٍ من منازلِ الآخرةِ ، فإن نجا منه فما بعده أيسرُ ، وإن لم ينْجُ منه فما بعده أشدُّ ، قال : وسمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ : ما رأيتُ منظرًا قطُّ إلَّا والقبرُ أفظعُ منه.

[أخرجه الترمذي، وقال الألباني: حسن]

هي مجموعةُ قوانينَ في الحياة، نحاول فهمها كي لا نكون ممن قيل فيهم:

”  مساكينُ أهلُ الدُّنيا خرَجوا مِنها وما ذَاقوا أطْيب ما فِيها “


* تنويه: مادة المحاضرة جُمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.

2 تعليقات

التعليقات مغلقة