بتاريخ ٢٤ / ١ / ١٤٤١ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط)


الملخص:

بسم الله الرحمن الرحيم

سألت إحدى الفتيات في آخر الدرس الماضي عن حالها فقالت: الحمد لله طيبة، ثم ابتسمت ابتسامة خفيفة وقالت لي: أعني الحمد لله لكن لا أعرف.. أمرُّ بحالة غريبة.. أبكي طوال الوقت، أشعر أني في كل يوم لا أريد الاستيقاظ! ولا أريد أن أعيش.

الحقيقة مثل هذا الكلام ليس لأول مرة أسمعه، ودائمًا تقابل أناس عندهم هذه المشكلة وهي شعوره أنه لا يريد أن يعيش، وقد يكون الآن يعيش في اللّحظات التي كان ينتظرها منذ أمد، انتهى من الماجستير، انتهى من الدراسة، التي كان ينتظر فقط متى تنتهي، فلما وصل للشيء الذي أراده فإذا به يصاب بهذا النوع من الكآبة الروحية، المصطلح هذا: “كآبة الروح” أو “ظمأ الروح”

فالإنسان دائم البحث عن شيء ما، وبفقده يفقد السعادة ويشعر بالظمأ والقلق، دعونا اليوم نحاول أن نعرف: ما الذي يقلق الروح؟

خلق آدم و إبليس:

عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيفُ به، ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك»

([أخرجه مسلم])

أول ما خُلق آدم خلقه الله –عز وجل- بيده وخلقه من طين، فخلقه الله بيده ثم تركه ما شاء الله أن يتركه، فصار إبليس يدور حوله من أكثر من مكان ويفحصه وينظر ما هذا الشيء الذي خلقه الله -عز وجل-  فوجده أجوف من الداخل، قال النووي: “أي أنه لا يتمالك أمام شهوةٍ أو حاجةٍ”، فمعنى هذا أنه مضطر دائمًا إلى أن يشبع هذا الجوف من الداخل، ولذلك من معاني اسم الله الصمد: أنه الذي لا جوف له، لذلك الله عز وجل يُطعِم ولا يُطعَم، والله –عز وجل- لم يلد ولم يولد.

آدم –عليه السلام- كان مخلوقاً من طين فقط، فلم تُخلق فيه الحياة إلا لما نفخ الله -عز وجل- فيه الروح، فكلنا الآن مخلوقون من هذين الشيئين: جسد من طين أرضي، ونفخة علوية سماوية، فعندك شيئان اثنان متناقضان، لماذا هما متناقضان؟ لأن حاجاتهم متناقضة، فهذا يجرّك للأرض والروح تجرّك إلى السماء.

إذًا ما نوع الغذاء الذي يحتاجه هذا الجسد الأجوف؟

الجوف الطيني: دعونا نبدأ بالجوف الطيني: عندما لا تأكل لن تستطيع أن تمارس حياتك العادية لأن بك شيء غير مُمتلئ، وعندما يمتلئ ويأخذ حاجته  تستطيع أن تمارس أشياء أخرى، فلأنك مخلوق من طين، من الأرض، فبالتالي أكلك من الأرض نبات، حيوان، أيًا كان هذه كلها أشياء موجودة على الأرض.

النفخة السماوية: أما النفخة السماوية خُلقت من السماء فغذاؤها من وحي السماء، ولذلك تعال إلى هذا الإنسان الذي يريد أن يشبع نفسه، إن أكل طعام فاسد، وغير صحي له، سيشبع لأنه يعطيه نشوة ولذة لحظية، لكنه سيجد مضاعفاتها فيما بعد وكذلك الروح، لو غديتيها بغذاء لا يناسبها ستمرض وتتألم، فمثلًا تعرف الطريق من هنا وروحك تحتاج هذا الشيء، لكنك ذهبت وأمتعتها بأي شيء آخر من الحرام، هي متعة لحظية وتجد مضاعفاتها فيما بعد مثلها مثل الطعام غير الصحي.

من كرم الله -عز وجل- أن جعل فينا قرصة لتنبيهنا على جوع الجسد والروح، فتحس إن جاعت روحك بالكآبة وتلك الغمامة التي تأتي عليك، وهذه كلها رسائل من الله لك، أنك لم تخلق لهذا، وأن اذهب وابحث أين طريقك؟ ولذلك تشعر الروح بهذا الألم.

فالفطرة في داخل الإنسان في أي مكان، ولو كان يأكل ما يريد ويفعل ما يريد، إلا أن روحه لم تأخذ حاجتها ولذلك يكون في قلق دائم، ولو جاءه أي داعية، وقرأ عليه شيء من القرآن، أو حدّثه عن الأنبياء أو عن الله –عز وجل- ورحمته وخلقه إلى آخره تجده يتأثر بأبسط الألفاظ، ولذلك نحن نتخيّل أن الدعوة معقدة جدًا ولكن تجد كثير من الناس الذين يسلمون، إنما أسلموا لتأثرهم بكلامٍ قليل شرح الله قلوبهم به، ثم قرأوا كتاب أو اثنين وقرروا الدخول في الإسلام.

لماذا؟ لأن الله عز وجل قال في سورة النور، آية 35:

(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ)

هل فكرتِ يومًا ما المقصود بنورٌ على نور؟  قال المفسر: هو نور الوحي إذا تقابل مع نور الفطرة أشرق قلب الإنسان.

ولذلك إذا أكملت في سورة النور ستجد وراءها تأتي آية 40:

(أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ )

هذه الأمواج هي الظلام الذي يخيّم على الروح، ولذلك نور الفطرة موجود لكن عليه أمواج من الظلام مغشيةٌ فوق هذه الروح, فتحتاج إلى مجاهدات حتى يخرج هذا النور.

فإذا كان هذا الأمر فماذا نحتاج إذًا؟ فطرة سليمة يقابلها وحي سماوي، أرأيتم هذه المعادلة البسيطة التي نشعر أنها بسيطة جدًا، فطرة سليمة موجودة في داخلك لو اتّجهت إلى وحي السماء فأنت إذًا (نورٌ على نور) ووجدت مبتغاك.

اعتراف الملاحدة:

د. سامي عامري ألف كتاب اسماه “براهين وجود الله” وذكر فيه اقتباسات من الملحدين أنفسهم يتحدثون عن هذا الشيء الموجود في داخلك، و لكن لا يستطيعون أن يعبروا عنه، أحدهم قال الكلمة الآتية وهو شون هار:

“لا يوجد شيء في الدنيا من الممكن أن يطفئ حنين الإنسان، وأن يرسم هدفًا نهائيًا لطلباته، ويملأ البئر الذي لا قعر له في داخله”

ابن القيم –رحمه الله- قال هذا الكلام قبل ما يقارب 600 سنة وقالها بتعبير رقيق جدًا: ” إن في القلب شعث : لا يلمّه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة: لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن : لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق: لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات : لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه ، وفيه طلب شديد: لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب ، وفيه فاقة: لا يسدها الا محبته ودوام ذكره والاخلاص له، ولو أعطى الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدا!!”

 هناك حزن دائم داخل القلب لو حاولت أن يفرح بالمخدرات الوقتية فإنَّه سرعان ما يعود إلى وحشته،  كالخروج إلى القهوة أو نزهة أو زيارة، هذه أنا أسميها مخدرات وقتية، أنت تهرب من شيء، لكن حين ترجع إلى البيت، وتغلق باب غرفتك عليك ترجع كل الأفكار مرة أخرى.

وقال ملحد آخر:

“ما هو الشيء الذي يعلنه هذا الحنين وهذا العجز غير أنه أكيد أنه كان في يومٍ مّا سعادةٌ حقيقية… فالإنسان يحاول عبثا أن يملأ هذا الفراغ بكل شيء، بأشياء ليست موجودة ولا تطفئ هذا الظمأ، وعن عون لم يستطع أن يجده في الأشياء الموجودة، فالهوة السحيقة التي بداخله لا يمكن أن تمتلئ إلا بشيءٍ لا نهائي وغير متقلب”.

 يضرب هذا الشيء في أذهانكم بماذا؟ ما الذي من الممكن أن يكون هذا الشيء؟

 الشيء السحيق، وهو داخله الأجوف الذي تحدثنا عنه قبل قليل، يقول: “فلا يمكن أن يمتلئ إلا بشيء لا نهائي وغير متقلب”.

وبعبارة أخرى هو يتحدث عن الله -عز وجل-  فهو الصمد الأحد هو الذي لم يلد ولم يولد فلا يتقلب وهو لا نهاية له، فهو الأول فليس قبله شيء والآخر فليس بعده شيء وهو الظاهر فليس فوقه شيء والباطن فليس دونه شيء. فهذا الملحد غير قادر على أن يعبّر عنه، لكنه يعترف باعتراف كامل أن هناك شيء في داخل الإنسان لا يمكن أن يملأه إلا شيء لا نهائي، أما سعادته الحقيقية التي كان يعيشها يومًا ما هي الجنة. 

فنحن نعيش في الدنيا، لكن نحن نعرف أنها ليست مكاننا، وأنَّها دار ممر، وأن منازلنا الأولى هي

الجنة

خرجنا منها وإليها نعود -بإذن الله- لذا من الممكن أن نشقى في الدنيا، لعلمنا أن هناك آخرة، وهذا مما يسكّن على الإنسان، لكن الذي لا يؤمن بوجود الله ولا يؤمن بجنة ولا بنار ولا يغذي  روحه تضل روحه قلقةً بمثل هذا.

[ توازن غذاء الروح والجسد]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان»([أخرجه البخاري]) هل لاحظتم عندما يتوازن غذاء الروح مع غذاء الجسد؟ كيف يصبح نشيطًا وطيّب النفس. ولما تتغذى الجسد على حساب الروح كيف تصير النفس خبيثة وكسلانة، الشيء الذي كان يريده من النوم لم يتحقق له، فهو ما نام إلَّا لزيادة النشاط، ازداد كسلا وخمولا، فالقضية ليست كما تحسبها أنت.

مسجد (كأني أكلت):

 كان أحدهم يقول: “جرّب أن تتصدق من مالك من غير أن يراك أحد، في ظلام ليل أو غيره وانظر إلى سعادتها فيك أنت”

 مسجد “كأني أكلت” مسجد مشهور الآن في تركيا، وهذا المسجد بُني بقصة: أن الذي بناه كان إنسانًا فقيرا يتمنّى أنه يبني مسجدًا، ولا يملك مالًا، فكان كلَّما أراد أن يأكل أو يشتري نوعًا من الفاكهة أو من اللذائذ يمنع نفسه منها ويكتفي بالقليل الذي عنده ويأخذ مبلغها ويضعها في صندوق ويقول كأني أكلت، إلى أن اجتمع عنده مبلغ، وبالفعل بدأ يبني المسجد، ثم مات قبل تمامه، وأكمل أهل الحي ما بقي منه، فأجر هذا المسجد له هو، “ومن بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة”

([أخرجه ابن حبان، قال الألباني: صحيح.]).

هذه الحركة البسيطة عندما تطبقها ستجد سعادتها في نفسك، وجمال الإحساس أنك تخبئها لشيء لله أكبر بكثير من جمال هذه القهوة التي شربتها فقط وذهبت، ويمكن أنك ما شربت إلا ربعها وذهبت،

إذًا خذها بحسبة بسيطة:

مثلًا كم كوب القهوة؟ بـ 15 ريال أو 18 ريال، ولو كان هذا لا يشرب القهوة إلا أربع مرات في الأسبوع فقط، نقول تقريبا 100 ريال في الأسبوع في 48 = 4800 ريال وهذه ثمن القهوة فقط! لو كان هذا يشرب ثلاث مرات في الأسبوع، ويأكل من مطعم أو غيره بـ100 ريال فقط كم هذه؟ 300 ريال، 300 في 48 أسبوع = 14400 ريال تقريبًا، نحن نتكلم الآن عن 20 ألف تقريبًا فقط ذهبت على قهوة وبراوني وكوكيز! مشكلتنا أننا نغذي الجسد ونترك الروح في الداخل جائعة.

أذب قسوة قلبك:

جاء رجل إلى الحسن فقال له: يا أبا سعيد أشكو إليك قسوةً في قلبي, فقال له: أذبها بذكر الله. فإذاً إذا كان شيء فيك قاسٍ فعالجه بغذاء الروح، لذلك ذكر الله –عز وجل-من غذاء الروح. يقول ابن تيمية: “الذكر للقلبِ مثل الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء؟” أرأيتم السمك إذا خرج من الماء كيف هو قلق يحتاج أن يرجع إليه؟ وكذلك القلب لذكر الله، وحي السماء كيف تحتاجها الروح. فالنَّفس قد تكون ساكنةً ثابتةً لكن الروح قلقة من الداخل تبحث عن رحمة الله وعن شرعه .

ختامًا:

هذا كله فقط حتى نجيب على السؤال: ما الذي يجعل الروح تكتئب؟ والجواب بكل اختصار هو حينما لا تمتلئ بوحي السماء، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال لشداد بن أوس: ” إذا كنز الناس الذهب والفضة، فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، وأسألك لسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب”([أخرجه أحمد، حسن لغيره])

[ فإذا الناس تنافست على الطين فاجعل روحك سماوية]


* تنويه: مادة المحاضرة جُمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.

1 عدد التعليقات

التعليقات مغلقة