بتاريخ ٤ / ٣ / ١٤٤٠ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )


الملخص:

للرضا مقاييسٌ مختلفة بين النّاس، رضاهم عن حياتهم، عن أنفسهم، عن غيرهم، ولست هنا بصدد الحديث عن الرضا ومعناه، بل عن نوعٍ من النّاس لا تخلو منهم مجالسنا ولا علاقاتنا، ألا وهم الراضون عن أنفسهم، أصحاب الحظ الوافر من الرضا عن النّفس، أولئك الذين يشعرون بالارتياح تجاه حيواتهم وتقييمهم لأنفسهم فيها، إذ أنهم في أمانٍ من الشعور بالإخلال والتقصير، وفي المنهج الإسلاميّ توجيهٌ يعينُ على الرضا إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

(انظروا إلى من هو أسفلَ منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقَكم ، فإنه أجدَرُ أن لا تزدَروا نعمةَ اللهِ عليكم)

وقبل أن ترضى عن نفسك لا تقارنها بمن هوَ دونك في الطاعة والصلاح، فتجدك تهون من تقصيرك أمام تقصيره، وتقيسُ مسافةَ بُعدك عن الله فتقرّبها مقارنةً بِبُعده، وتعدُّ حسنات يومك فتأنس حين تفوق عدّ حسناتِه، فلا أنت الذي حصّلت خيرًا أكبر ولا أنت الذي ندم لسوءٍ قدّم، قال الحسن:

إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة. وقال وهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل.

ثمّ وإنه للراضين عن أنفسهم مظاهر جليّة ليست عن النّاس خفيّة، وأهمها ثلاث نملك معها لرضانا عن أنفسنا المقياس:

أولا: عدم الخوف من الله أو قلّته

الراضون عن أنفسهم لا يخافون الله عز وجل؛ لأن الواحد منهم لا يلقي بالًا لذنوبه ولا يقدرها بقدرها، وقد كان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول:

(إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ ، إِنْ كُنَّا نَعُدُّ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُوبِقَاتِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ : يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ)

فالجرم ليس في الذنب وحجمه فقط ، أو المعصية ووزرها فقد يكون ما نقارفه من الصغائر؛ إنما الجرمُ في الجُرأة على الله، في الجرأة على عصيانه، في الجرأة عليه بلا خوفٍ ولا خشية.

ثانيا: خلو القلب من محبة الله أو قلّته

يخلو القلب من المحبة حين لا يبذل في سبيل الوصول وقتًا ولا جهدًا ولا همّة، ولو كنت صادقًا في حبه -عزّ وجل-لاسترخصت في سبيله عمرك، ولابن القيم رحمه الله كلام يذكر فيه أربع حالات يختبر فيها المرء محبّته لله تعالى من عدمها وهي في أربعة مواطن:

فالموطن الأول: عند النوم؛ لأن كشف حساب المرء لنفسه يكون غالبا قبل نومه.

والموطن الثاني: عند الاستيقاظ؛ لأن الغالب أن ما تنام عليه هوَ ما تستيقظ عليه.

والموطن الثالث: الصلاة ، ولذلك لما سُئل أحدهم بماذا تفكر في الصلاة؟ قال: أوَ شيء أعظم من الله أحب إليّ منه أفكر به؟

والموطن الرابع:  في وقت الشدائد والأزمات، والفرح والمسرات.

الثالث: الإشكال والخطأ في الفهم والتصور

إن ما نستصغره في الدنيا من السيئات والمعاصي هو ما سيذوب له القلب يوم القيامة، وليس ذلك ببعيد، مسافة عمر قصير لاندري متى ينتهي، ومن مات قامت قيامته، وحلت عرصات القيامة الصغرى عليه في برزخ القبر ،فما الذي يستحق؟ وقد يقول قائل: قد عددت سيئاتي وليست بكثير، وقد عددت حسناتي فوجدتها أكثر وأكبر، فهل حقًا أنجو وأكون في الجنة؟ فيقال: لا تعد الأعمال أرقامًا، ولا تجمع في الحاسبات، فلها عند الله ميزانٌ عدل ليس كموازين الناس في الحياة، وأوّل نجاتنا بالعمل قبوله، ومن يضمن القبول على التقصير والنقصان فيعد حسناته عد الواثق المتّكل؟ ثمّ إن السيئات لا يقتصر خطرها على كمّها وقد يكون الكم أهون الخطر، فإن للسيئات تبعاتٌ منها أنها تخونك في نفسك في أشد اللحظات حاجة لإيمانك ويقينك، فتكون ساخطًا أو يائسًا أو معرضًا عن الله لحادثٍ لا ينجيك منه إلا اليقين بالله!

وهذه خمسةُ أسئلة خاطب بها نفسك:

لو حانت منيّتك فأي ثغرٍ للإسلام سيفتقدك ويُترك خاليًا بعدك أنت؟

هل تستطيع تسمية عشرة أشخاص كنت سببًا مهمًا في تغيير حياتهم للأفضل؟ هل تملك قائمة المئة شخصٍ –عرفوك أو جهلوك- الذين سعيت سرًا في كفالتهم أو تدريسهم أو تعليمهم أو هدايتهم؟

يؤتى بالإسلام يوم القيامة فيقول يا ربّي هذا نصرني وهذا خذلني .. ماذا سيقول عنكِ أنت؟

يوم القيامة يوم الأسئلة، فما الذي قدّمته لدينك، وأضفته لأمتك ومنحته خالصًا لله ليكون فيه رفعتها ونصرتها وقوّتها؟

كم أنت مستعدّ لتنتظرَ زمانًا طارقًا بإلحاح مفتقرًا بِذُلِّك عند بابِ الله؟

إن المجاهدة لالتزام طرق بابه تحتاج زمانًا، وانتظارُ العطية يحتاج يقينًا وصبرًا، فكم من الوقت تنتظر؟ وأنت الذي قد تهدر الساعات على مشاهداتٍ وسماع، وعلى متابعاتٍ وتعليقٍ، فهل قلة الوقت حجّتك؟ وهل عدم المقدرة ما يحول بينك وبين دوام ذكره وسؤالِه؟

إنّ صدق الإرادة هي ما ينقصُ من يطلب منالاً ومكانًا عند الله، أمّا المقدرة والإمكان فقد منحنا الله إياها.

 ما الذي قد تفعله لأجل الله عز وجل؟

ألفنا في أيّامنا أن نبذل لمن نحبه ما يُحبَه، وأن نترك ما نشتهيه لأجله، وهذه سنّة المحبّة؛ إيثارُ محاب محبوبك على محابّك، فإن كان الله ولابدّ هوَ في القلبِ الأحبّ والأوّل فما الذي تركناه خالصًا له، لا لحظٍ نكسبه أو لأنسٍ نطلبه، ولا لرضا أحد من النّاس، أو إرضاء هوى في النفس، بل لله، حبًا لله، ورغبة في رضاه؟ وكم بذلنا له، وخالفنا في بذلنا رغبة في نفسنا أو حاجة لها؟

إلى متى ستستمرُ  في طريق الله؟

قرار قربك منه، والتزامك أمره وامتثالك له والمجاهدة لإرضائه؛ أهوَ مرحلة تنتهي أم أنك اخترته للعمرِ كلّه، تغير الناس وتبدلوا، تنكّب الأحياء وانتكسوا، ابتدعَ من حولك وابتعد؛ وأنت أنت حتى تلقاه على ما اخترت؟

كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:اللهم يا مُقلِّبَ القلوبِ ، ثبِّتْ قلبي على دينِك”

ثمّ:  واجه نفسك وأسألها صراحة، ثم حدد مقدار الرضا الذي يلزمك عنها، وكفى بنفسك عليك شهيدًا.

هذا وأسأل الله لي ولكم أن نكون ممن أحسن القول والعمل، وأن يجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


* تنويه: مادة المحاضرة جُمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.

1 عدد التعليقات

التعليقات مغلقة