بتاريخ ١٣ / ٩ / ١٤٣٩ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط)



الملخص:

حديثنا اليوم هو حديث الاستعداد لـلنهايات، فهذا الشهر لا يمهلنا كثيرًا حتى نتدارك ما فات، فنحن حينما نقول أننا وصلنا للنصف هذا يعني أننا نتكلم عن خمسة أيام وندخل بعدها في العشر الآواخر من رمضان، وهي الليالي ختام هذا الشهر، شهر المكارم والرحمات، الذي يكرّم الله -عز وجل- به عباده وينزل عليهم من الرحمات ومن العتق، ويفتح لهم فيها من أبواب الجنة ما لا يفتح في أي شهر آخر، وهو لا يتكرر بالسنة إلا مرة واحدة

فإذًا لابد من استعدادٍ لهذه العشر!

تأملوا بالسباقات، تكون في المضمار خيلٌ بطيئة، متأخرة عن الخيول، ولكن ما إن يبقى القليل على خط النهاية، إذا بالخيل تسبق كل الخيول التي تقدّمتها، وكل الخيول بلا استثناء تخرج أقصى ما عندها من قوّة، لأنه لما يتلاحى لها خط النهاية يدفعها هذا للحماس، فإذًا هذه قاعدة: أن الانسان لما يرى خط النهاية بدأ يقترب فالمفترض هنا أن لا يهدّئ سيره، بل يخرج أقصى ما فيه من قوة، لذلك فأي إنسان لم يحضر قلبه في بداية رمضان، وشعر أنه كان متأمل فعل الكثير من العبادات، ثم لم يحضر قلبه في نصف رمضان وما خضع وما خشع، فالآن في آخره يجب أن يحضر، ويحضر لزامًا، وألا يعطى مهلة تسويف أو إهمال، وانتظار فرصة الخشوع، لا

هي أيام قليلة وساعات قليلة تستحقّ أن تأتِ بقلبك جرًا، وتُري الله من نفسك خيرًا، وتخرج أفضل ما فيك.

أثمن الدقائق:

 يقول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المروي عن عائشة -رضي الله عنها-: “تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ”.

هل تعلم كم تساوي الساعة الواحدة في ليلة القدر؟

ساعة واحدة وأنت  تقرأ من كتاب الله كم تساوي؟ تساوي 8 سنوات. والنصف ساعة؟ 4 سنوات. والربع ساعة؟ سنتين.

فتخيل أن ربع ساعة في ليلة القدر وهي الليلة العظيمة لو أضعتها في لهو ولو كان مباح، أو في مواقع التواصل أو غيرها، فأنت ما ضيّعت 15 دقيقة فقط، إنما أضعت سنتين كاملتين!

وهذا شيء كبير جدًا! فالدقيقة في ميزان الليلة الكريمة ثمينة جدًا كذلك فهي تساوي شهر ونصف.

وهي ليلة مباركة يكثر فيها نزول الملائكة حتى تضيق الأرض، قال -صلى الله عليه وسلم-:

” ليلةُ القدرِ ليلةُ السابعةِ أو التاسعةِ وعشرين، وإن الملائكةَ تلك الليلةَ أَكْثَرُ في الأرضِ من عَدَدِ الحَصَى”

وهذا لكثرة أعمال العباد الصالحة، من ذكر وتهليل وتسبيح ودعاء وتلاوة، فالملائكة تصعد بها إلى السماوات.

ليلة سلام:

قال تعالى: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾

[القدر: 5]

فما المقصود؟ ومامعنى سلام؟

معنى هذه الآية أن الشيطان لا يفوز منها بمعصية من عباد الله الصالحين، فهذه الليلة سلام على عباد الله، ولذلك أحيانًا تجد أن في هذه العشر نفسك تشرق، تشرق بالعمل الصالح وتشرق بصلاة التراويح، تشعر أن قلبك في تحليق وهذا من بركات هذه الليالي.

 ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: “جاءَكُم رمضانُ شَهْرٌ مبارَكٌ افترَضَ اللَّهُ عليكُم صيامَهُ تُفتَحُ فيهِ أبوابُ الجنَّةِ ويُغلَقُ فيهِ أبوابُ الجحيمِ وتُغلُّ فيهِ الشَّياطينُ فيهِ ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شَهْرٍ مَن حُرِمَ خيرَها فقَد حُرِمَ” .

أي من حرم خير ليلة القدر فقد حرم الخير كله، ورمضان كله كذلك، من حرمه فقد خسر شيئًا كبيرًا، كما في الحديث:

(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «احْضَرُوا الْمِنْبَرَ» فَحَضَرْنَا فَلَمَّا ارْتَقَى دَرَجَةً قَالَ: «آمِينَ»، فَلَمَّا ارْتَقَى الدَّرَجَةَ الثَّانِيَةَ قَالَ: «آمِينَ» فَلَمَّا ارْتَقَى الدَّرَجَةَ الثَّالِثَةَ قَالَ: «آمِينَ» ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْنَا مِنْكَ الْيَوْمَ شَيْئًا مَا كُنَّا نَسْمَعُهُ قَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَرَضَ لِي فَقَالَ: بُعْدًا لِمَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يَغْفَرْ لَهُ قُلْتُ: آمِينَ، فَلَمَّا رَقِيتُ الثَّانِيَةَ قَالَ: بُعْدًا لِمَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ قُلْتُ: آمِينَ، فَلَمَّا رَقِيتُ الثَّالِثَةَ قَالَ: بُعْدًا لِمَنْ أَدْرَكَ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ عِنْدَهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ قُلْتُ: آمِينَ)

فلو خسرت رمضان، وفازت عليك نفسك، وما طوّعتها، ولم تتخذ القرار الصارم، وما غيرت في نفسك شيء، وما تبت من ذنب يلاحقك، وأنت أقوى من هذا كله، ولكنك لسبب تافه ما زلت تعلل وتتعذر!

فلا ترضى لنفسك أن تفوز عليك في هذه الليالي، وبعد هذه الأحاديث لا مجال لك فيها للخسارة.

فهذا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وهو الذي لا يحتاج لكثير عمل، وهو أول من يطرق باب الجنة، فتسأله الملائكة من أنت؟ فيقول: أنا محمد بن عبدالله، فيفتحون له، فيكون أول من يدخلها، ومع ذلك تقول عائشة-رضي الله عنها- عنه: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ)

أي أنّ كل رمضان في كفة، وهذه العشرة الأيام الأخيرة يجتهد فيها مالا يجتهد في غيرها.

وتقول عنه كذلك: ” كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ” فكان يبذل أقصى جهده -عليه الصلاة والسلام-.

أفضل الأعمال:

أولًا: طول القنوت ولزوم الدعاء

ومن جملة الدعاء الذي ينبغي الحرص عليه قولنا: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

ثانيًا: الاعتكاف

هو أن تجلس في بيت من بيوت الله، مختليًا معتزلًا الدنيا وما فيها، فلا تُحضر دنياك معك، يعني أن وجود هاتفك الذي لا تفتأ من خلاله الاطلاع على العالم الخارجي في وسائل التواصل، والاطلاع على الأخبار هو من إحضار الدنيا حال اعتكافك! وهذا الوقت مفترضٌ أن يكون لله كله خالصًا له، ولذلك فإن أضيق ساعة على المعتكف هي الساعة التي يتحدث فيها مع أحد، لأن الساعة قد تكون في ليلة القدر وقلنا الساعة = 8 سنوات، والنصف ساعة = 4 سنوات، يعني أن ربع ساعة تسلّم فيها على من صادفت بالمسجد وتسأل عن أحوالهم وتتجاذبون أطراف حديث، فهذه الدقائق لو ذهبت هكذا وهي في ليلة قدر فأنت خسرت شيئًا عظيمًا، قال -صلى الله عليه وسلم-: ” …، وَمَنِ اعْتَكَفَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ ثَلَاثَ خَنَادِقَ أَبَعْدَ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ “..

وصاحب أناسًا هممهم عالية

ولا تصاحب ناسًا دنيئة الهمم، تستكثر العمل الصالح وتثبطك عن الزيادة، بل صاحب من يجتهد ويوصيك على الخير، من يتواصى معك على الختمات ويعطيك طرق لتكثير النيات والعبادات.


كيف نفوز بالعشر؟

لابدّ أن نعي جيدًا قاعدة أن الأعمال ليست بصورها، ففي الحديث: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» فمحل نظر الله هو قلبك، وما يناله من التقوى فيه، فالقضية هي ليست كم جلست في مصلاك، وليست كم تصدقت من مالك، ليست قضية كم، بل الله ينظر إلى ما وقر في قلبك، هل هو حيٌ أو لا؟ هل استنار أم لم يستنير، هل اهتدى بهدى الله -عز وجل- أم ما زال هذا القلب متفلت؟

١ – تحسس نيتك:

وهذا أمر في غاية الأهمية، فربّ عملٍ عظيم تصغّره النية، وربّ عملٍ صغير تعظّمه النية، فتتحسس نيتك بعملك الصالح الذي تفعله، هل هو لله أو لغير الله؟ ثم ماذا ترجو؟ ففي كل مرة تعمل فيها عملًا صالحًا، فإن الله سبحانه يطّلع عليك، يسأل: ماذا يريد عبدي؟

فاحرص أن يكون قلبك يفيض حبًا ويرتجف شوقًا ويمتلئ خوفًا.


٢- على قدر اجتهادك تكون منزلتك:

يقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ” إِنَّ الْمَعُونَةَ تَأْتِي مِنَ اللهِ الْعَبْدَ عَلَى قَدْرِ الْمُؤْونَةِ …” فالله يعين العبد على قدر اجتهاده، فكلما اجتهدت أكثر كلما لك من المعونة أكثر، والأجر كما يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- في حديث آخر: «إِنَّ لَكِ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ وَنَفَقَتِكِ»

فكلما اجتهدت أكثر، كلما كان أجرك أكثر، فاعلم يقينًا أنه على قدر اجتهادك تكون منزلتك عند الله، واحرص في اجتهادك أن تنوع في عباداتك، حتى تجد قلبك، ففي أي عبادة كان أكثر حضورًا؟


٣-لابد أن تجمع بين الكم والكيف:

وهذه النقطة مهمة جدًا، بأن لا تنشغل بالكم والعدد فقط فتحسب كم عدد ختماتك وكم عدد ركعاتك وكم عدد تسبيحاتك، دون الكيف، فلا تهتم بحضور قلبك ولا بخشوعه، أو أن تقول سأهتم فقط بحضور قلبي وخشوعه وتقلل العدد، لا، كلاهما يجب أن تحرص عليهما، ولذلك زد في العدد وأحضر قلبك ما استطعت


٤- لا ترضَ عن نفسك:

مهم جدًا مع كل هذا ألا ترضَ عن نفسك، وتقيّم آداء عباداتك في اليوم بأنه “ممتاز” ويأتي في قلبك خاطر “أشعر أني سأدخل الجنة”، فمهم أن ترجو أن يتقبل الله منك، وتخاطبه بكل حب وشوق: يالله قبلت مني؟ ولكن لا ترضى عن نفسك، واعلم دومًا أنك مهما فعلت فأنت مقصر.


أقل شي يفعله الإنسان في هذه العشرة أيام ما هو؟

عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: “قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي”

فلا يوجد أعظم من هذا الدعاء أن يلزمه الإنسان في هذه الليالي، لأن كل الأمور مربوطة بعفو الله، فلو عفى الله عنك وعن الهفوات والزلات والخلوات فالله -عز وجل- سينجيك من النار ويدخلك الجنة.

وهذه ليالي قديرة وعظيمة يجاب فيها الدعوات، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: : «إِنَّ لِلَّهِ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ».


ختامًا:

هذه أيام معدودات، وكما كان علي بن أبي طالب وابن مسعود -رضي الله عنهما- يقولان في هذه الليلة الأخيرة: “يا ليت شعري من المقبول فينا فنهنيه ومن المحروم فينا فنعزيه”، فيا أيها المقبول هنيئًا لك، و يا أيها المحروم جبر الله مصابك، فالذي خرج من رمضان وهو محروم فهو حقيقة في مصيبة لأنه فقد شهرًا هو من أعظم فرص العمر التي قد تمر به.

بلّغنا الله وإياكم الفوز بالعشر، والعتق ليلة القدر.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.

4 تعليقات

التعليقات مغلقة