بتاريخ ٦ / ١٢ / ١٤٣٨ هـ

لسماع المحاضرة صوتًا:

فضلًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط

الملخص:


حديثنا اليوم عن يومٌ عظيم  في هذه العشر ألا وهو يوم عرفة، ونريد أن نعرف:

كيف نشعر في ذلك اليوم أننا وُلدنا من جديد، وأُزيلت منا كل السموم التي في قلوبنا؟

ما أراد هؤلاء؟

– يخبر النبي ﷺ عن هذا اليوم فيقول: “ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمِ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟” تخيلي أن الله عز وجل يباهي بهؤلاء العباد عند الملائكة، ويسأل سؤالًا واحدًا فقط: “ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟”

 يجب ألا تشرق شمس عرفة إلا وقد حددت ماذا تريد، والله عز وجل يباهي بتلك القلوب التي دخلت في العشر وفي يوم عرفة وهي تريد وجه الله، وتريد منه -تعالى- رحمته وتخشى عذابه، هذان الأمران مهمٌّ أن تستحضرهما طوال الوقت:

(أن تستمطر رحمات الله، وأن تخشى عذابه).

– قال رسول الله ﷺ -:”يومُ عرفةَ ويومُ النحرِ وأيامُ التشريقِ عيدنا أهلَ الإسلامِ”

وعندما نقول بأنه يوم عيد، فمعنى ذلك أن عيدنا لا يبدأ فقط في يوم النحر، بل من يوم عرفة، ومعنى ذلك أنه يجب أن تكون هناك مشاعر حاضرة حين تشرق عليك شمس عرفة ويكتب الله أن تكون ممن أحياهم إلى تلك اللحظة.

أوَّل المشاعر: مشاعر الفرح، أن الله -سبحانه- بلَّغك؛ لأنه لو لم يشَأ لما بلغت، والفرحة أيضًا بالاصطفاء؛ لأنه لو لم يشَأ الله أن تكون عالمًا بيوم عرفة وفضائله لما علمت! ولو لم يُرِدك أنت بعينك لما كنت مع من يعبده هذا اليوم، وكنت منشغلا بأمر آخر من أمور الدنيا، لكن الله عز وجل أرادك وأراد أن يسمع صوتك، وأراد أن تمطر عليك رحمات من عنده، وأن تستجاب لك الدعوات.

وأيضًا حرك مشاعرك: بالشكر لله عز وجل. فإذا شعر العبد بالفرح والاصطفاء، فليشكر الله عز وجل على هذه النعمة، لأنه يعلم أنه بعمله لا يستحق، بذنوبه وخلواته، وبطاعاته التي لا زالت مهلهلة، وبعباداته التي لا زالت مخرّقة.

فضائل عرفة:

هذا اليوم هو اليوم الذي أخذ الله عز وجل فيه الميثاق، فيوم عرفة يسمى بـ

يوم الميثاق

وهو اليوم الذي أُخرجت فيه الذراري من آدم عليه السلام وأخذ الله عز وجل الميثاق على كل ذرية آدم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا.

يقول النبي ﷺ : “كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ، فأبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أوْ يُمَجِّسَانِهِ”، فذاك الميثاق هو الفطرة، وهو الذي نحاول أن نجدده في كل يوم عرفة، أن تنظِّف نفسك وتُزيل كل الأوساخ العالقة، كل الشبهات التي يدجَّ بها الإعلام محاولًا أن يلطِّخنا فيها، ويخرِّب يقيننا في ديننا بالشبهات والشكوك.

الله عز وجل لا يقسم إلا بعظيم، ومن الفضائل العظيمة لهذا اليوم:

أن الله أقسم به، ومعنى ذلك: أنه شيء عظيم يريد -سبحانه- منا أن ننتبه له، وأقسم الله عز وجل بعرفة في سورتين:

  1. سورة الفجر، في قوله تعالى: ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ (آية3) ويوم عرفة هو الوتر. يقول ابن عباس -رضي الله عنه- : “الشَّفعُ يومُ النَّحرِ والوَترُ يومُ عرفة”
  2. والقسم الثاني في سورة البروج، في قوله تعالى: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ (آية3) ومشهود هو يوم عرفة والشاهد هو يوم الجمعة.

والسؤال هنا: من فكَّر في الرابط بين سورة الفجر والبروج وفي ورود هذا القسم في السورتين؟

﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ﴾، المقصود بالبروج: الأبراج في السماء، النجوم والكواكب والمنازل التي تعرف الناس بها الطريق. فالنجوم تلك التي جُعلت منازل وزينة وضياء ونورًا في السماء، الله عز وجل يقسم بها، وفي الفجر نجدُ كذلك: النور بعد الظلام، ونجدُ العلو والرفعة، ولم يأتِ القسم بيوم عرفة إلا بهاتين السورتين، فكأن الله يقول لنا: إذا رمت علو المنازل فعليك بذلك اليوم.

– عندما يعظم الله عز وجل هذا اليوم؛ عظِّمه بشعيرةٍ فيه لا تبدأ إلا مع فجر ذلك اليوم، وهي:

التكبير المقيَّد

– من فضيلة هذا اليوم: قال النبي ﷺ : “صِيَامُ يَومِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ علَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتي بَعْدَهُ” معنى هذا أنه يوم عظيم، عظَّمه الله عز وجل، حتى أنَّ الذنوب تصبح فيه لا شيء، فإن عظمت الله وتقبَّل منك صيامك فيه، فإن الذنوب تصبح مثل الملح الذي يذوب في الماء.

– نحن لا نعلم هل نُقبل أم لا، صيامنا صحيح أم مجروح! والسؤال: ماذا أردت بصيامك؟ أردت أن يغفر الله لك، وأنت مقدِّمٌ توبتك وعزمك وإرادتك، أم نيَّتك كمن انتظر صلاة المغرب ليعود كسابقه! كن مهمومًا بالقبول، متطلِّعًا لكرم الله بالمغفرة.

من فضائل هذا اليوم:

أن النبي ﷺ قال “ما من أيامٍ أفضلُ عندَ اللهِ من أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ. قال: فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ! هُنَّ أفضلُ أَمْ عِدَّتِهن جِهادًا في سبيلِ اللهِ؟ فقال: هُنَّ أفضلُ من عِدَّتِهن جِهادًا في سبيلِ اللهِ، إلَّا عفيرٌ يعفرُ وجْهَهُ في التُّرابِ”

في قوله ﷺ: “إلَّا عفيرٌ يعفرُ وجْهَهُ في التُّرابِ” ليس المقصود تعفير الوجه في التراب، لكن القضية هي ذُلُّك وانكسارك في هذا اليوم، والواجب أن يكون هذا الانكسار حقيقيًا، هناك أمور داخل القلب لا تخرج إلا حينما تسجد لله عز وجل، لذلك كان النبي ﷺ يدعو قائمًا، وكان يدعو ساجدًا، وعلى ركبتيه، ولذلك ما استطعت أن تدخل على الله وأنت منكسر القلب فافعل؛ لأن ذلك أقرب في الدعاء.

– في الحديث القدسي: “يا عِبَادِي لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ” فوجود هؤلاء كلهم وإعطاؤهم مسألتهم لن ينقص من ملك الله عز وجل شيئًا، وتخيل! أن الله لن يردَّ منهم أحدًا.

مـشـاعـر الـحـجـيـج

– الذي حجَّ يستشعر ماذا يعني هذا اليوم ويعرف حسرة الفوات لمن جلس في بيته ذلك اليوم، ولذلك فجر عرفة فجر مختلف، والليلة التي تسبقه ينام فيها الحاج نومة لذيذة وهو يستشعر أن غدًا هو يوم عرفة، تنظر إلى أفواج الناس وهي تمشي إلى عرفة، وكأنهم ذاهبون إلى عيد، مكبِّرين ومهللين، مستشعرين أنهم ذاهبون إلى المكان الذي يدنو فيه الله عز وجل من الخلائق، ويباهي بهم الملائكة، ثم يُعيدهم من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم -إن أكرمهم الله-.

من سنن ذلك اليوم

جمع صلاة الظهر مع العصر للحجيج، لماذا؟ ليتفرغ الحاج للدعاء؛ لأنه من بعد زوال الشمس، إلى المغرب هذا وقت لا يمكن أن تضيعه بحال! وهذا الوقت يشارك فيه غير الحاجِّ الحاجَّ، ولذلك فالذي لم يحج ويعلم ما الذي يحصل هناك يتفتت قلبه، ولذلك من رحمة الله بنا أن شرع لنا صيام يوم عرفة، فنشارك الحجيج بشعيرة من الشعائر، واسمع هذا الحديث -كما في الترغيب والترهيب للمنذري-: “وقف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعرفاتٍ وقد كادت الشَّمسُ أن تَؤوب فقال: يا بلالُ أنصِتْ لي النَّاسَ. فقام بلالٌ فقال: أنصِتوا لرسولِ اللهِ ﷺ فأنصت النَّاسُ. فقال: معشرَ النَّاسِ أتاني جبرائيلُ عليه السَّلامُ آنفًا فأقرأني من ربِّي السَّلامُ، وقال: إنَّ اللهَ غفر لأهلِ عرفاتٍ وأهلِ المَشعَرِ وضمِن عنهم التَّبِعاتِ. فقام عمرُ بنُ الخطَّابِ -رضي الله عنه- فقال: يا رسولَ اللهِ هذا لنا خاصَّةً؟ قال: هذا لكم ولمن أتَى من بعدِكم إلى يومِ القيامةِ. فقال عمرُ بنُ الخطَّابِ -رضي الله عنه-: كثُر خيرُ ربنا وطاب”

ومن منَّة الله عز وجل أن جعل ذلك الفضل يسع من شاركهم بصيامه ذلك اليوم، وجعل لهم أن ذلك يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، ومن صدق في النية صدق في الوصول.

– من المشاعر التي لا تُنسى في يوم عرفة: لحظة الإفاضة، عندما يُنادى على الحافلات والكل يذهب، والمطلوب الآن أن تخفضي يديك وتنهي دعاء عرفة، يذكرنا هذا الشعور بشعور الامتحان إذا انتهى الوقت وبدأت الأوراق تُسحب، وقد بقي لديك دعوات لم ترفعها بعدُ، ومن المحتمل أن يكون للتوّ قد خشع قلبك، وعندما يُنادى لمغادرة عرفة وتنظر إلى الناس تشعر برحمة الله، فالناس عليهم من السكينة في هذه اللحظات الشيء الكثير، الكل مستشعر قوله -سبحانه- في الحديث القدسي: “أفيضوا عبادِي مغفورًا لكُم”.

جدول مقترح ليوم عرفة

– إذا علمت أن غدًا عرفة فاضبط حالك في ليلتها، حاول ألا تذنب، حاول ليلتك تلك أن تقوم قبل الفجر بساعة أو ساعتين تصلي في تلك الليلة، فوراءك يوم في الغد يجب أن تستنفر فيه كل طاقتك الإيمانية، فجُد في ليلك حتى يجود لك نهارك. فإذا تسحَّرت وصلَّيت القيام ثم صلَّيت الفجر وبدأت في أذكارك وكبرت الله عز وجل، ابدأ بأذكار الصباح، ثم امسك مصحفك، وابدئ بالقراءة، إذا جلست إلى الإشراق وكنت قادرا على أن تكمل قليلًا فأكمل، سيأتيك النوم، وعندما تصلِّي ركعتين ستنشط، فإذا كنت تقدر على الزيادة فزد إلى أقصى وقتٍ تقدر عليه؛ حاول القيام قبل صلاة الظهر حتى تصلي الضحى، وبعدها تصلي الظهر، وحاول ألا تفوِّت السنن جميعها، مستحضرا قول النبي ﷺ: “مَنْ حَافظَ على أربعِ رَكَعاتِ قبلَ الظهر وأربعٍ بَعدَها حُرِّم على النار”، نحن مشغولون طوال السنة، لكن اليوم فرِّغ نفسك للعبادة، واستفرغ كل وسعك، وإذا حانت صلاة العصر صلِّي أربعًا قبلها، ليست من السنن الرواتب لكن النبي ﷺ قال: “رحِم اللهُ امرأً صلَّى قبْلَ العصرِ أربعًا”، لا تفوِّت على نفسك أي سنة من السنن الصحيحة سمعتِ بها ولو مرة في حياتك.

بعد أن تصلّي الظهر اسمع خطبة عرفة، شارك الحجيج مشاعرهم، أحيانًا مجرَّد النظر إليهم يحرك الأشواق، إذا دخل وقت صلاة العصر حتى صلاة المغرب في هذه الساعات لا تشغل نفسك بأي شيء إلا الدعاء، في هذا الوقت ابحث لك عن مكان في البيت، واجلس، فهذا وقت المناهل، الوقت الذي ستنهل فيه من رحمات الله عز وجل ومن بركاته، حاول أن تكون في هذه الثلاث ساعات -تقريبًا- منشغلا بدعاء الله عز وجل وذكره، يقول النبي ﷺ : “خيرُ الدُّعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ، وخيرُ ما قلتُ أَنا والنَّبيُّونَ من قبلي: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ ولَهُ الحمدُ وَهوَ على كلِّ شَيءٍ قديرٌ”

– العجيب في عرفة أن الدعوات فيها تأتي كفلق الصبح، فهذا يوم تنهل فيه من كرم الله عز وجل، والله عز وجل لن يخيب أحدًا، ولن تكون أخسر خلقه، ولن تكون أشقى خلقه.

– إذا جاء العيد حرِّك مشاعر الفرح في قلبك، وامسح دموعك، ادخل العيد وأنت تنتظر من الله عز وجل مكارمه ورحماته، وأنت موقن أن الله عز وجل سيفرِّحك في هذا العيد، وفضل الله واسع لمن جاءه صباحًا وصلى صلاة العيد وعظَّموا شعائر الله، قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ (الحج، 32)

يقول أحد السلف: “لا تكن مثل العبد السوء لا يأتي حتى يُدعَى” فلما يشعر الإنسان أنه بدأ يفقد شيئًا من حياته أو من صحته عاد لربه، لا تكن كهذا، وخُذ قرارك في صحتك وشبابك وفي عقلك وأنت قادر على أن تأتي فتقدم عند ربك شيئًا، وادعه، واعلم أن الله عز وجل لن يخيب رجاء من يرجو.

ختامًا: هذا ما عندنا، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


* تنويه: مادة المحاضرة جُمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.

2 تعليقات

التعليقات مغلقة