بتاريخ ٥/ ٣/ ١٤٤٣ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألّا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله أما بعد..
الزمان : قبل البعثة المحمدية أما المكان فنجد . حفظت تلك القافية البديعة في الوصف مزاحمة عيون الشعر العربي :


يذكرني طلوع الشمس صخرا
وأذكره بكل غروب شمسِ
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي

توفي أخوها صخر ففاق الخطب الصبر وتواصل بكاؤها عليه  ورثاؤها له بل أوشكت على قتل نفسها من شدة الحزن الذي أصابها، مرت الأيام على الخنساء

فبعث رسول الهدى ودخلت الإسلام  مع زوجها وأولادها فعاشت حتى  بلغت معركة القادسية، وكان أبناؤها أربعة شباب أشداء  فأوصتهم قبل دخول  المعركة بوصية  :

يا بني  لقد أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم  أبناء امرأة واحدة ورجل واحد إلى أن قالت فإذا أصبحتم

غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستنصرين وتيمموا وطيسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة ..
فقاتل أبناؤها قتال الأسود واستشهد أربعتهم، فانتهت المعركة وعاد الجيش وهم لا يعرفون كيف يخبرونها

باستشهاد الأربعة كلهم، وهي التي كادت تقتل نفسها حزنا على أخيها فما عساها تفعل الآن؟!، فأخبروها الخبر بتردد، كان ردها مليئًا بالطمأنينة

والسكينة والثبات: الحمد لله الذي شرفني بمقتلهم جميعا وأسأل الله أن يجمعني بهم في الجنة.
فقط هذا ما قالته  لم يظهر عليها جزع ولا تسخط ولا نواح،  ماذا  حصل للخنساء فغيرها؟
الإنسان لا يتغير بين يوم وليلة، مالذي حصل وغيرها من شخص حزين أراد أن ينهي حياته بعد فقد عزيز ، ولكن حالها تغير بعد فقد أربعة.
لو سألنا الناس بمختلف أجناسهم:

كيف تريدون أن تعيشوا هذه الحياة ؟
منهم من يقول:  أريد الحصول على المال، الثروة، المنصب والجاه، ومنهم من يقول: أريد الصحة، العافية، الزوجة، ستختلف الإجابات

لكنها ستشترك بإجابة واحدة:

السعادة.
الجميع بدون استثناء يريد أن يعيش سعيدًا، إذن هذا مطلب البشرية  فكيف تناول القرآن والسنة مفهوم السعادة؟
و هذه الغاية هل تناولها العلماء و السلف أم لا؟
دعونا نتفاجئ سويا، لفظ السعادة لم يرد في القرآن مطلقاً، جاءت بلفظين اثنين من مشتقات السعادة، وجاءت في سورة واحدة، فقط، وجاءت في لحظتين مهمتين

سنستعرضهما ، فأما اللحظة الأولى: لحظة بدء الحساب

‏(فَمِنۡهُمۡ شَقِي وَسَعِید) [هود: 105].

اللحظة الثانية: لحظة دخول الجنة.
قال تعالى:  (۞وَأَمَّا ٱلَّذِینَ سُعِدُوا۟ فَفِی ٱلۡجَنَّةِ خَـٰلِدِینَ فِیهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَاۤءَ رَبُّكَۖ عَطَاۤءً غَیۡرَ مَجۡذُوذ)
[سورة هود 108]

باستثناء هاتين الآيتين لم يأت لفظ السعادة مطلقا، وقد قدم القرآن مفهوم السعادة بشكل ضمني من خلال مفاهيم مثل انشراح الصدر، السكينة، وراحة البال. ومن أبرز الآيات

التي تربط السعادة بالفرح بفضل الله: ‏(قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَ ٰلِكَ فَلۡیَفۡرَحُوا۟) [يونس: 58].

كيف لشيء بهذه الأهمية عند الناس لا ينال الذكر الكافي  في القرآن؟


أنواع السعادة:

حقيقية:

تنبع من الإيمان بالله والعمل الصالح.

وهمية:

ترتبط بالمال، اللذة المؤقتة، أو الشهرة.


كيف تعيش سعيدًا مرتاح البال؟

يجيب عبدالرحمن السعدي عندما سئل عن الحياة السعيدةوله كتيب صغير جميل {الوسائل المفيدة للحياة السعيدة}  هذا الكتيب خيار جميل لمن أحب أن يناقشه مع أهل بيته في جلسة عائلية  أو  مع الأصحاب، بدأ في كتابه بمقدمة:

أن كل الناس يبحثون عن السعادة لكن يضلون الطريق لها، ضلالنا لهذا الطريق يؤدي بنا إلى الاكتئاب وعدم جدوى هذه الحياة

وعدم وجود شيء قيم للعيش من أجله، وأن الأيام متشابهة متى نموت ونتخلص من كل ذلك! ..يقول في كتابه: أن هناك أدوارًا 

وأسبابًا منوطة بنا كعباد لله عز وجل، فذكر من أول الأسباب لحياة سعيدة:

1. أن تحرك الإيمان في داخلك وتعمل صالحا.

الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. العمل الصالح يُعزز الإيمان ويجلب السعادة الحقيقية. قال تعالى: ‏

(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النحل: 97].

2. أن تحسن إلى الخلق

وأن تفعل المعروف بالقول والعمل، وأن تحسن لهم ما استطعت، وهذا الإحسان للخير لأنك كما تعمل يُعمل لك، ولذلك من أسعد إنسانًا أسعده الله، من فرج كربة

فرج الله عنه الكربة، من ستر مسلمًا ستره الله، والجزاء من جنس العمل، فإذا أردت حياة هنيئة سعيدة فكن أنت سببًا

لسعادة الناس وهنائهم، وسببًا في فعل الخير والإحسان لهم، ودون انتظار أي مقابل منهم، بل افعله متاجرة مع الله عز وجل

3. أن لا تقف ساكنًا، وأن تشتغل بعملٍ أو بعلمٍ

لأن مجرد جلوسك في لحظات الانتظار، ليل نهار، تفكر في هذا الشيء الذي يؤرقك، في الابتلاء الذي ابتلاك الله عز وجل به،

بلحظة فقد إنسان عزيز في حياتك، في وظيفتك التي لا تعجبك، وفي الزوج الذي لا يعجبك، فطوال  تفكيرك في هذه المصيبة  ستتضخم لديك وستشعر

أنها تكبر وأن الحياة تضيق، وتصبح عيناك لا تشاهد إلا هذا البلاء ولا ترى إلا هذا الشيء الناقص في حياتك، و تتضخم

على حساب كل شيء آخر في حياتك، فيصبح كل شيء بلا طعم، فيزهد هذا الإنسان في حياته وتصبح ملامحه ميتة، كمن قال الله تعالى عنهم:

{أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ }  (122)الأنعام

4. أن يجمع فكره كله في لحظته الحاضرة فلا يحمل هم المستقبل

يقال في الأثر اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا، فعندما يعود لأمر الآخرة اعمله فورا وإن كان للدنيا فلا تشغل عقلك وقلبك به.

ولا تنظر بالحزن للذي فات، ولاحظ في أذكار الصباح والمساء علمنا النبي ﷺأن نستعيذ من الاثنين

“اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن”

فأما الهم فهو هم المستقبل، والحزن على مافات.


5. أن تكثر من ذكر الله

في كل موضوع تقرأه عن راحة البال ستجد فيه الإكثار من ذكر الله، لقول الله تعالى:

“الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ” (سورة الرعد :28)

لأن الإكثار من ذكر الله عز وجل يجعل الإنسان دائما تحت شعور أن الله معي ويتولاني وسيتكفل أمري.


6. أن تتحدث بنعم الله الظاهرة والباطنة

الإحساس بالنعم المحيطة بنا والتحدث عنها يُعزز الشعور بالرضا. قال النبي ﷺ: “من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا”.

فمصطلح نحن في زحام من النعم، صاحب هذه المقولة لديه هذه العين الحساسة التي التفت للنعم التي تحيط به.


7. لا تنظر في دنيـاك لمن هو أعلى منك، وانظر لمن أسفل منك

قالَ ﷺ: “انْظُرُوا إلى مَن أسْفَلَ مِنكُمْ، ولا تَنْظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكُمْ، فَهو أجْدَرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ. قالَ أبو مُعاوِيَةَ، علَيْكُم”

الراوي: أبو هريرة | المحدث: مسلم | المصدر: صحيح مسلم

وكثيـر من أمراض الاكتئاب والشعور بالدونية سببه النظر إلى من هو فوقنا، فالناس كانوا في خير وسلام لا يعرفون مـا الذي 

يفعله ذلك الغني أو ذلك المشهور، بعكس هذا العصر ولذلك من راحة البـال ألا تنظر إلى 

من هو فوقك في الدنيا، بل تنظر إليه فقط في عمل الآخرة والعمل الصالح ونافِس! فقد قـال تعالى: 

{وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: ٢٦]


8. أن تزيل الأسباب التي تجلب لكَ الهم

من الذي يشعرك أنك ناقص؟ ما الذي يحزنك؟ إن كان متـابعة أناس، أو صحبة من يزيّن لك الشر ويذكرك بالشيء الأسوأ فيك… 

أيًا كان، حاول أن تلغيه من حياتك أو تقلله.. الحياة التي نعيشها حاليًا بها أنواع من التشتت أفقدتنا لذة الحياة، فلم يعد أحد يستطيع

 أن يشرب قهوته بهدوء على بساطة الأمر، فضلًا عن أن يخشع في صلاته!


9. الثقة بالله والتوكل عليه، وسؤاله أن يعينكَ على ذلك

ومن أنفع الأمور هنا أن تدعو بهذا الدعاء، والذي كان يدعو بهِ ﷺ: “اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لي دِينِي الذي هو عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لي دُنْيَايَ

 الَّتي فِيهَا معاشِي، وَأَصْلِحْ لي آخِرَتي الَّتي فِيهَا معادِي” الراوي: أبو هريرة | المحدث: مسلم | المصدر: صحيح مسلم

وهذا دعاء جامع يلخّص لك حياتك كلها، فلا تشغلك دنيـاك عن دينك وآخرتك، فالاثنين الأوائل يجب أن يكونوا مطيّة للآخرة.

ويضيف إليها قوله ﷺ: “اللَّهمَّ رحمتَك أَرجو فلا تَكِلني إلى نَفسِي طرفةَ عينٍ”

الراوي: أبو بكرة نفيع بن الحارث | المحدث: الألباني | المصدر: صحيح أبي داود | خلاصة حكم المحدث: حسن


10. اعتماد القلب على الله عز وجلّ، وعدم الاستسلام لا للأوهام ولا للخيالات

مِن الناس من يستطِيع أن يبني قصة مأساة كاملة ويعيشها وهي لم تحدث أصلًا! أين  التوكل  على الله وحسن الظن بهِ  والاعتماد  عليه؟  هذا كله غير موجود.

فحين نقول من البداية: أن التوحيد هو سبب الاطمئنان وأن توجه قلبك إلى الله لا يجعلك تعيش حياة عادية، فحين يأتي إليك

 الشيطان، ويبدأ يسترسل بالخيالات والأوهام حتى تصعُب عليك الحيـاة وتحس أنه ليس لها طعم وأن هذا حظك من الدنيـا…

 لكن ما يدريك  قد لا يفصل بينك وبين منعطف جديد في حياتك إلا أيام قليلة!


11. من الأسباب مأخوذة من حديث النبي ﷺحينما قال:”لا يفرَك مؤمنٌ مؤمنةً إن سخِطَ منْها خُلقًا رضِيَ منْها آخرَ”

وهذه قاعدة في كل المعاملات وليست قصرا على الزوج والزوجة وإنما بين أي إنسان تربطك به علاقة أو معاملة فالأصل هنا

ألا نقطع بعضنا البعض لمجرد خصلة واحدة سيئة وذلك لانتفاء كمالية البشر فلا يوجد أحد كامل بلا أخطاء أو عيوب بل وكلما أقتربت من الأشخاص أكثر كلما تكشفت لك جوانب عدة تظهر في لحظات الغضب والذنب والحزن وغيرها.

عندما تكره خصلة في أحدهم فتش عن محاسنه الأخرى كالكرم والإيثار وحسن الخلق حتى تشفع له خصاله، وعدم الالتجاء للحلول السيئة

التي يزينها لنا الشيطان كسرعة قطع العلاقة نهائيًا مع ضرورة عدم الانصياع وراء الشعارات الحديثة كشعار

” اعتزل مايؤذيك ” فاعتزل مايؤذيك هنا إذا كان هناك ذنب أو معصية فنعم، لكن في علاقات الرحم والميثاق الغليظ لا ينبغي اتباع هذه القاعدة وإنما التأسي بحديث النبي ﷺ :

” لا يفرَك مؤمنٌ مؤمنةً إن سخِطَ منْها خُلقًا رضِيَ منْها آخرَ”

الراوي : [أبو هريرة] | المحدث : ابن كثير | المصدر : تفسير القرآن.

وهذا من تمام العدل والإنصاف.

12. أن تعلم أن حياتك أقصر من أن تضيعها بالهموم

فربما يكون دورك عند الله عز وجل أمر آخر يختلف عن توقعاتك. كما قال النبي ﷺ :

” إنَّ العبدَ إذا سبقتْ له من اللهِ منزلةٌ فلم يبلُغْها بعملٍ ؛ ابتلاه اللهُ في جسدِه أو مالِه أو في ولدِه ، ثم صبر على ذلك حتى يُبلِّغَه المنزلةَ التي سبقتْ له من اللهِ عزَّ وجلَّ”

الراوي : اللجلاج بن حكيم السلمي والد خالد | المحدث : الألباني | المصدر : صحيح الترغيب.

حياتك أقصر من أن تضيعها بالهم لأنه عند الهم يعجز الإنسان عن القيام بأي عمل بعكس الشخص الممتلئ بالحياة يكون

أكثر إنجازا فالإنسان يعيش حياته أضعاف مضاعفة عندما يعلم بأنه رقم عند أحد يحتاجه، سواء كنت سببًا في سعادة

أحدهم أو تفريج كربات أو غيره من المساهمات التي تشعر الإنسان أن حياته ممتدة ومضاعفة.
عندما تعلم أن حياتك أغلى من أن تقصرها بالهم فحاول ألا تستسلم للأفكار والخيالات وحاول أن تخرج نفسك من ذلك كله.


13. أن تعلم أن حياتك تبع لأفكارك


و حيث تكون أفكارك تكون حياتك. ودائما ما نقول إنك لا يمكن أن تخرج بمخرج جديد حينما يكون المدخل نفسه، فحتى تتغير لابد أن تكون مدخلاتك

متجددة، كالاستماع والقراءة والتعلم الدائم والمستمر، ولكن عندما تبقى أنت نفسك تستمع لأوهامك وقناعاتك الشخصية فقط ستبقى تدور في نفس فلكك


14. إن من أنفع الأمور لطرد الهم وأن تعيش هذه الحياة ألا تطلب الشكر إلا من الله

فقدم الخير وافعل الإحسان وتاجر مع الله عز وجل وافعل جميع ما تفعله لله، فلا يهمك أن يذكر اسمك في مجلس

وألا تحوز على شهادة تقدير، فإن تعلقت بالله ورجوت وجهه هذا الفعل يجعل القلب طوال الوقت ينظر لنظر الله إليك، فالله الشكور يثيب على العمل القليل بالأجر الكثير.
هذه أربعة عشر وسيلة من أكثر من إحدى وعشرين وسيلة ذكرهم الشيخ ابن سعدي -رحمه الله – في كتابه إن أردتم

استرجاعها والاطلاع عليها. وهي مجرد وسائل ولكن من يريد راحة البال وانشراح الصدر فمدار الأمر أولا وأخيرا هي أن تحرك الإيمان في قلبك

وأن تعمل صالحا يزداد به إيمانك ويطمئن به القلب والروح.
أسأل الله لي ولكم راحة البال وانشراح الصدر وأن يجعلنا من المطمئنين بإيمانه

وأسأل الله أن يعلمنا ماينفعنا وينفعنا بما يعلمنا والحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.