بتاريخ ١٦/ ٦/ ١٤٤٤ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )


أثناء هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- برفقة أبي بكر- رضي الله عنه- حينما اختبأ في غار حراء،

ووصل فرسان المشركين الذين أرادوا رأس النبي -صلى الله عليه وسلم- ومروا بجانب هذا الغار، عندها نظر أبو بكر وقال:

“يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ ‌رَفَعَ ‌قَدَمَهُ رَآنَا…”([1]) كما ظن أبو بكر في تلك اللحظة الحاسمة،

إما أن يبقى الرسول -عليه الصلاة والسلام- على قيد الحياة ويُكتب عمر وعهد جديد، وإما أن يموت ويموت معه الإسلام.

أجابه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال له: [يا أبا بكر مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا]([2]).

في هذا الوقت العصيب، أنزل الله السكينة وكأنها جند خفي، وجعل كلمة الله العليا وكلمة الكفر السفلى.قال تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا}(التوبة، 40).

سنتحدث في هذا المقام عن تلك السكينة التي نحن بحاجتها اليوم أكثر من أي وقت في مضى، في زمن بات الإنسان يتقلب فيه من حال إلى حال،

والأحداث تتوالى وراء بعضها البعض، فالنفوس مجروحة مكلومة، فيها شيء من الاضطراب والحزن والاكتئاب.


ما هي السكينه؟

السكينة كما يعرفها ابن القيم -رحمه الله-: “هي الطمأنينة والوقار والسكون، الذي ينزله الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة الخوف والقلق”

فهي منة من الله، وليست سكوناً عادياً، بل تحدث في لحظة يرتجف بها القلب. يقول ابن القيم: “ينزلها الله في قلب عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج لما يحصل له بعد ذلك،

وتوجب له زيادة الإيمان وقوة اليقين والثبات”.

يقول الشيخ بن عثيمين -رحمه الله-: “السَّكينةُ هي: عدَمُ الحركةِ الكثيرةِ، وعدَمُ الطَّيشِ، بل يكونُ ساكنًا في قلبِه، وفي جوارحِه، وفي مقالِه،

ولا شَكَّ أنَّ هذين الوصفينِ -الوقارُ والسَّكينةُ- من خيرِ الخصالِ التي يمُنُّ اللهُ بها على العبدِ؛

لأنَّ ضِدَّ ذلك: أن يكونَ الإنسانُ لا شخصيَّةَ له ولا هيبةَ له، وليس وقورًا ذا هيبةٍ، بل هو مَهِينٌ، قد وضَع نفسَه ونزَّلها، وكذلك السَّكينةُ ضِدُّها أن يكونَ الإنسانُ كثيرَ الحرَكاتِ، كثيرَ التَّلفُّتِ،

لا يُــرى عليه أثَرُ سكينةِ قَلبِه، ولا قولِه ولا فِعلِه، فإذا مَنَّ اللهُ على العبدِ بذلك فإنَّه ينالُ بذلك خُلُقينِ كريمينِ”.


آيات السكينة في القران: ذُكرت السكينة في ستة آيات من القرآن الكريم.

واحدة في سورة البقرة، في قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُ}(البقرة، 248)

والثانية جاءت في سورة التوبة عن المسلمين، يقول الله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}(التوبة، 26)

والثالثة في سورة التوبة، قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها}(التوبة، 40)

أما الآية الرابعة، في سورة الفتح، قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ}(الفتح، 4)

والآية الخامسة كانت في بيعة الرضوان، قال تعالى: {لقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبً}(الفتح، 18)

والآية السادسة، حين قال الله عز وجل: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}(الفتح، 26)

نزلت نصف آيات السكينة في سورة الفتح، تلك السورة التي تتحدث عن فتح مكة وصلح الحديبية، حينما كان المؤمنون قادمون لأداء العمرة،

فردهم الكفار وطلبوا منهم أن يأتوا في السنة القادمة. وفي طريق عودتهم للمدينة نزل قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}(الفتح، 1).

 ففي هذه السورة منّ الله بالسكينة على النبي -صلى الله عليه وسلم- وربط جأشهوثبته.


ما جاء في السنة عن السكينة:

أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ-: [إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ، ‌

عَلَيْكُمُ ‌السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا]([3])أي لا تأتوها تركضون، لأن الركض للحاق بالركعة الأولى يُذهِب الخشوع، والخشوع والطمأنينة والسكينة أولى في حقيقة الصلاة.

في يوم عرفة في الحج، حينما سمع النبي -عليه الصلاة والسلام-على الناس جلبة وهم يدفعون من عرفة، ويرفعون الدواب وغيره،

فقال -عليه الصلاة والسلام- بعد ما أشار بسوطه إليهم: [أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ فَإِنَّ البِرَّ ‌لَيْسَ ‌بِالإِيضَاع]([4])والإيضاع كثرة الجلبة والسرعة، وبرّ الحج يكون بالسكينة.

وأيضًا عن البراء بن عازب قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْقُلُ التُّرَابَ يَوْمَ الخَنْدَقِ- حَتَّى أَغْمَرَ بَطْنَهُ، أَوْ اغْبَرَّ بَطْنُهُ، ويقُولُ:

[وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا، فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا، وَثَبِّتِ ‌الأَقْدَامَ ‌إِنْ ‌لَاقَيْنَا]([5]).

وقد كان المسلمون في يوم الخندق ينتظرون عشرة آلاف مقاتل من المشركين، وكانت خطتهم أن يحفروا خندقاً،

فما كان من النبي -عليه الصلاة والسلام- في هذه اللحظات إلا أن يطلب السكينة والتثبيت من الله -عز وجل-.

هذه السكينة التي نزلت على النبي -عليه الصلاة والسلام- في الغار، وعلى المؤمنين في بيعة الرضوان، وفي فتح مكة، ويوم الخندق.

ونزلت على الأنبياء من قبلهم، فنزلت على إبراهيم -عليه السلام- يوم أن ألقاه قومه في النار،وحينما أراد أن يذبح ابنه إسماعيل -عليهما السلام-.

وأُنزلت على موسى -عليه السلام- لما تراءى الجيشان، موسى وأصحابه وفرعون وجيشه، فالبحر من أمامهم، وفرعون من خلفهم، حينها أنزل الله السكينة على موسى وثبته بها.

تأتي المعجزات والمنح لتلك القلوب الثابتة التي تسكن إلى رضا الله -عز وجل- وحكمه وقدره.

حينما نقرأ ونسمع عن تلك السكينة، ثم نتأمل في حالنا، نرى أننا نفتقدها في حياتنا، فالقلوب تتقلب كلمة تأخذ بها وأخرى تجيء بها، وموقف يثورها وآخر يهدئها.

 فتجدنا نبحث عن السكينة في كل مكان إلا في المكان الذي أخبرنا الله عنه وأرشدنا إليه.

“القرآن والسنة”التي نزلت من الله الذي خلقنا، وهو أعرف بنا، وبما يُصلحنا. خلقنا بتركيبة معينة، وبمشاعر معينة، فدلنا على ما يعيننا.

فإذا ماأردنا إيجاد السكينة والسلام وجب علينا الاتجاه نحو القرآن والسنة، لا أماكن الشتات التي لن نجد بها شيئاً.


مواطن السكينة كما جاءت في القرآن والسنة:

السكينة في قراءة القرآن:قال النبي عليه الصلاة والسلام: […وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، ‌يَتْلُونَ ‌كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ،

إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ …] ([6])سواء كانت تلك القراءة فردية أو جماعية،

فإن كل من يتدبر القرآن ويقرأه يجد حلاً لمشكلاته، أو زوالاً لجهالاته، أو جواباً لسؤاله.

السكينة على حلق الذكر:

وفي هذه المجالس يجد الإنسان السكينة والطمأنينة، كشعوره حينما يدخل بيوت الله والمساجد. ذلك الشعور الذي لا يجده في أي مكان آخر،

وحتى لو كان الإنسان حاضراً بجسده أو مكرهاً فإن السكينة تشمله.

السكينة في البيت:

قال الله عز وجل:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} (النحل، 80) من المواطن التي يفترض أن السكينة تتنزل عليها هي البيت،

وهو موطن السكن الأساسي الذي يشعر فيه الإنسان بالأمان والانتماء والاطمئنان. ومع ذلك نعيش اليوم تلك الحالة التي لا يكاد يرجع الإنسان إلى بيته،

فينام ثم يصحو ويسأل أين سنذهب اليوم، وإذا مر اليوم كله عليه وهو في المنزل ضاق صدره. فما الذي طرأ على البيوت حتى فقدت معنى السكون، ولم تعد موطناً للسكن والاطمئنان.

السكينة في الليل:

يقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا}(يونس،67) ومن المواطن التي يسكن فيها الإنسان الليل،

والذي ما عاد سكناً بوجود الكم الهائل من النشاطات والأشغال التي نقوم بها بعد غروب الشمس.بل في أوقات الإجازات ترى الناس تنام النهار وتقوم الليل لتنجز ما عليها،

والله لم يخلق أجسامنا لتعيش على هذا النحو، فالليل خُلِق ليسكن الجسد فيه، وهناك من الخلايا التي لا تصح إلا بسكون الجسد ليلاً.

السكينة في الزواج:

يقول الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (الروم، 21)فمن مواطن السكن، السكن ما بين الأزواج،

فيكون الزوج لزوجته موطن انتماء واطمئنان، وهكذا تكون الزوجة لزوجها، والذي يحدث اليوم أن الزوج يخرج للقاء أصدقائه سعيداً ثم يعود إلى البيت دون لهفة ولا مشاعر، والزوجة كذلك.  

فما الذي حدث حتى انطفأ نور السكينة في هذه المواضع؟!

فوائد السكينة:

السكينة رداء ينزل فيثبت القلوب الطائرة، ويهدئ الانفعالات الثائرة، فنحن ما بين هاتين الاثنتين، فتطير القلوب فرحاً وتطير حزناً أيضاً وقلقاً تارةً أخرى،

فهؤلاء بحاجة لسكينة من الله تتنزل على قلوبهم فتثبتها.

 السكينة إذا نزلت على العبد استقامت وصلحت أحواله وباله، ورحلت عنه الشرور، ودخل فيه السرور والراحة.

 السكينة علامة من علامات رضا الله على العبد، لأن المتسخط الجازع لا حبل بينه وبين الله.

 السكينة توجب حب الله للعبد، فحينما يسكن العبد ويرضى يحبه الله عز وجل.

السكينة تجعل العبد قادراً على تحمل المصائب إذا حلت، وامتصاص الغضب إذا انفعل، فحينما تنزل السكينة على أهل البلايا والمحن،

هدأ القلب وصلح الحال، وأصبح من أهل الثبات واليقين.

    السكينة في الوساوس والأفراح والأحزان:

    يقول ابن القيم -رحمه الله-: “تتنزل السكينة في حالات معينة عند الوساوس المعترضة في أصل الإيمان، ليثبت القلب ولا يزيغ”كالجزع عند الوفاة،

    الذي قد يصل إلى الخروج عن الطاعات والإعراض عن الفروض، أو الخروج من الدين، فنحن بحاجة للسكينة عند الوساوس المعترضة لأصل إيماني.

    ونحتاجالسكينة في لحظات الفرح والأنس كذلك، لئلا يبطر الإنسان ويتكبر، فيفرح بحدود ما أحله الله له.

    قال ابن القيم: “ويحتاج إلى السكينة عند أسباب الفرح، لئلا يتجاوز الحد الذي أُمر به، فينقلب فرحه إلى فرح…”

    ما يجلب السكينة:

    السكينة تُستجلب بصلاح القلب، وصلاح العلاقة مع الله عز وجل، فمتى صلحت نزلت السكينة.

    ومما يجلبها الإكثار من العمل الصالحوذكر الله، قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(الرعد، 28)

    ومما ذكره العلماء في السكينة ملاطفة الخلق، فكن لطيفاً، امسح على رأس اليتيم، وارحم الصغير، فكما تحسن للناس يحسن الله عز وجل إليك، والجزاء من جنس العمل.

    أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أًصحابها، وأن يجعلنا ممن تنزلت عليها السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده.


    [1] أخرجه البخاري في صحيحه

    [2]أخرجه البخاري في صحيحه

    [3]أخرجه البخاري في صحيحه

    [4] أخرجه البخاري في صحيحه

    [5] أخرجه البخاري في صحيحه

    [6] أخرجه مسلم في صحيحه

    * تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.