بتاريخ ٨/ ٧/ ١٤٤٤ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )

كان السلف إذا انتهى رمضان يسألون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم، ثم يسألونه الستة أشهر التي تليها أن يبلغهم رمضان القادم،

وبعضهم منذُ أن ينتهي رمضان وهو يستعد لرمضان الذي يليه!

أين نحنُ من هؤلاء؟ كيف أشغلتنا الدُّنيا فور انتهاء رمضان؟ كيف هي قلوبنا مع الله الآن؟

الإنسان يضع البذرة ثم يسقيها ثم يجني ثمارها كما هو معلوم، والأمر نفسه ينطبق على عبادتك، فرمضان هو وقت بلوغ النتائج التي كنت تعمل عليها منذ أشهر.

لذلك أتى شهر رجب متفردًا عن باقي الأشهر الحرم؛ لأنه تمهيدٌ لشهر الله العظيم “رمضان”.

فرجب شهر البذر، وشعبان شهر السقيا، ورمضان شهر الحصاد بإذن الله.  لذلك فإنَّ أي فرصة للفلاح أو للفوز أو للعتق في رمضان يبدأ التمهيد والاستعداد لها من الآن.

إنَّ من أول الاستعدادات التي يجب أن نبدأ بها، هي تخلية المكان. وليس المقصود أن نفرغ المكان الذي حولنا فقط، إنما نفرغ قلوبنا مما يشغلها، ومما كان يملؤها خلال أيام السنة دون توقف. 


ويجب أن نستعرض ونتفق على قواعد قبل أن نبدأ بكيفية تخلية المكان، وهي: 

١- القاعدة الأولى: الإيمان يبلى:

كما يبلى كل شيء في الدنيا، قال النبي ﷺ:” إن الإيمان ليبلى في جوف أحدكم كما يبلى الثوب الخلف” (أخرجه الطبراني في معجمه، وقال الألباني صحيح)،

أي: مثل الثوب الذي يستخدم كثيرًا فيبلى. كذلك الإيمان يبلى، فلا يبقى حاضرًا متجددًا دومًا،

فهناك أشياء كثيرة تؤثر عليه، لذلك يجب أن نفعل بعض الأمور حتى تعيد تجدد الإيمان في قلوبنا.

شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: “إني أجدد إسلامي في كل يوم، وبعد لم أسلم إسلامًا جيدًا”.

وهو شيخ الإسلام ابن تيمية! فهو بذلك جاوز التوبة والاستغفار، بل هو يجدد إيمانه بالله كل يوم، وكأنه يدخل الإسلام من جديد!

هل هذا الشعور حاضر في قلبك كل يوم؟ إن لم يكن كذلك فراجع نفسك وقلبك وعقلك. 


٢-القاعدة الثانية: أن الإيمان هو مصدر الطاقة، والحارس الذي يحرس:

صام النبي ﷺ 3 أيام بلياليها، فواصل الصيام ولم يفطر لمدة ثلاثة أيام، فسمع الصحابة ذلك فظنوا أنَّ هذا شيئًا من السنن المستحبة،

فأصبحوا يتبعون ما فعله النبي ﷺ، فعندما علم النبي ﷺ بذلك نهاهم عن فعلهم

وقال: “لَا تُوَاصِلُوا، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ ‌يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي” ((أخرجه البخاري في صحيحه)

والمعنى: أنَّ من حلاوة ما كان يجد النبي ﷺ من لذةٍ في مناجاته مع الله عز وجل، كان ينسيه ما فيه من شعور الجوع والحاجة. 

كما أنه كل ما كان الإيمان أشد في قلب الإنسان كلما ثبت أمام الفتن، وأصبح إيمانه هو حارسه الشخصي الذي يبعد عنه الشيطان. 


٣-القاعدة الثالثة: الإيمان يزيد وينقص:

 يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذه وصفة لمنهج الحياة، ومعتقد لدى أهل السنة والجماعة.

فالواجب على الإنسان أن يعرف أنَّه إن لم يكن في علو فهو في نزول، لا يوجد ثبات على الخط في الدين! 

 فعن ابن عون-رحمه الله- أنَّه يقول: “صاحبت الإمام أحمد-رحمه الله-عشرين سنة ليلاً ونهاراً صيفاً وشتاءً فما وجدته في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس”.

كذلك يجب أن تعلم بأنَّ الإيمان لا يرتبط فقط بالجوارح، فلا يكون فقط زيادة في عدد الركعات والذكر والصدقات وغيره،

لكن الأساس في أعمال القلوب، فقد يزيد الإنسان في أعمال جوارحه لكنَّ قلبه على حاله! فلا يزداد خشوعًا ولا رهبةً ولا قربًا من الله.


٤- القاعدة الرابعة: الإيمان قول وعمل، قول باللسان وقول بالقلب، وعمل بالجوارح وعمل بالقلب

-قول اللسان: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. 

-عمل القلب: المحبة والخوف والرجاء والتوكل. 

-قول القلب: إذا قال الإنسان أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،

هذا قول باللسان وهذا من مراتب الإيمان. أما قول القلب: فهو التصديق بذلك، أن تصدق وتؤمن حقًا أنه لا إله إلا الله،

وأن لا رب معبود بحق إلا الله جل جلاله، ويكون هذا ما يحرك أفعالك. نحن مؤمنون نظريًا، لكن أين إيماننا في حقيقة أعمالنا؟ 

نحتاج إلى أن نؤمن تحقيقًا كما آمنَّا تصديقًا. فالقلب لو كان مملوءً بتعظيم الله عز وجل لانتهى عن فعل المعاصي. 

جعل الله النجاة يوم القيامة لنوع واحد من القلوب ألا وهو القلب السليم، قال تعالى: “إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” (الشعراء: ٨٩).

فكيف نصل للقلب السليم؟ 

١- أن يكون سليمًا من الشرك: 

ليس المقصود بالشرك شرك اللات والعزى فقط، بل شرك المحبوب أيضًا، أي ألا تخاف أحدًا دون الله ولا ترجي أحدًا غيره،

ولا تتوكل على أحدٍ سواه.. وإنما يكون القلب موحدًا خالصًا لله. 

٢- أن يكون سليمًا من البدعة:

البدعة ليس شرطًا أن تكون مولداً أو أمراً من أمور الشعوذة والخزعبلات،

بل قد تكون البدعة في اختراع طريق يوصلك إلى الله عز وجل لم يأتِ به أحد. فمثلاً تقول: أنا سأعبد الله بثلاث صلوات فقط والصلاتان لا أقدر عليهما!

فلا نكون مثل بني إسرائيل حين يقول الله عز وجل عنهم في قوله تعالى:”أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَـٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡض” (البقرة: ٨٥).

الدين ليس كما ترى، بل كما يرى الله عزَّ وجل.

٣- أن يكون هذا القلب سليمًا من الشهوة التي تخالف الأمر:

فيحرص الإنسان أن يخلي قلبه من الشهوات التي فيها مخالفة لأمر الله عز وجل حتى يرضى الله عليه.

٤- أن يكون هذا القلب سليمًا من الغفلة:

يجب أن يكون القلب السليم سليمًا من الغفلة وسليمًا من الهوى، فهو يذكر الله عز وجل دائمًا.

إذن كيف نعالج قلوبنا؟

يجب أن نتغير قبل أن نعالج قلوبنا! ومعادلة التغيير تشتمل على خمسة أطراف

١- أن يكون لدينا الرغبة. 

٢- أن يكون لدينا الخطة والمنهج. 

٣- أن يكون لدينا العمل. 

٤- أن يكون لدينا القدرة على التطبيق. 

٥- أن يكون لدينا العزيمة على الاستمرار عليه. 

لو تخلفت في أي طرف من الأطراف فلن تتغير! إن كانت لديك الرغبة والفكرة وعملت وطبقت لكنك لم تستمر فهذا لا يعتبر تغيير ولا تحسين!  

بعد أن تغيرنا، كيف نعالج قلوبنا بشكل حقيقي الآن؟ 

لتعالج قلبك يجب أن تقيم هذه الواجبات عليك: 

١- أحط نفسك دائمًا بمن يذكرك بالله:

اجعل لك جدول حلقات ومجالس ذكر مثلًا، ضع في أسبوعك فترات للتزود، لا تدع كل الأسبوع يعتمد فقط على عبادة واحدة،

نوّع في عبادتك لله، وكلما أكثرت كلما كان خيرًا لك.

٢- جدد توبتك من كل أمر لا يرضي الله عز وجل:

جدد علاقتك بالنواهي والأوامر وطريقة تعاملك مع كلٍّ منها، لماذا تفعل الحرام؟ ولأجل من؟

هل يستحق هذا الحرام أن أتعذب في قبري لأجله؟ هل تريد التوبة؟ ما الذي يجعلك تتردد؟ فكر مع نفسك بهذه الأسئلة حتى تتجدد علاقتك بالله. 

٣- أحسن الظن بالله عز وجل:

يقول الله عز وجل في الحديث القدسي:” أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ ‌إِذَا ‌ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ،..” (أخرجه البخاري في صحيحه)

لو ظننت أنَّ الله سيكون معك، وأنَّ الله سيحقق لك مرادك سواء بالدنيا أو بالآخرة، فلن يخيبك الله. 

ادعُ الله وأنت موقنٌ بالإجابة، ادعُ الله بقلب منكسر مفتقر له، لكنه قلبٌ واثق برحمة الله، والله سيكرمك بما فيه الخير لك! 

٤- أن تكون على يقين بأن من يعمل سوءً أو حسنًا يُجز عنه: 

كل ذنب نحن نُذنبه سنُجازى به؛ ومعنى ذلك: أننا يجب أن نكون على حذر من ذنوبنا وخطايانا التي ترافقنا كل يوم وليلة.

يجب أن نعلم بأنَّ ذنوبنا التي نتعايش معها إن لم نتركها ولم نتخل عنها ستتخلى عنّا قلوبنا. 

٥- أن تكون على يقين بأن ما أنت عليه إنما هو من قِبل نفسك:

قال تعالى: “وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ” (الشورى:٣٠).

فغالبًا لا يُصاب الإنسان بشيء إلاّ من قِبل نفسه، وبسبب ذنب فعله واستسهله، لكن الله رحيم بنا، ودومًا لنا طريق عودة لله.

لا تختم على نفسك بالفسق والفجور لأنك أذنبت! لا تزيد العبء عليك بذنوبك لأنك ارتكبت العديد منها، وإنما ساعد نفسك على العودة لله والتوبة إليه! 

6-أن تعلم أن المؤمن يطير إلى الله عز وجل بجناحين: جناح الخوف وجناح الرجاء.

الخوف يجعل الإنسان يخاف من أن يفعل الذنب، وحسن الرجاء يجعله يؤمّل على الله الأمل.

لو لم تحسن الرجاء بالله عز وجل لما استطعت أن تقف بين يديه وتقول يا رب! حسن الظن بالله هو الذي يجعلنا ندعوه. 

قال تعالى: “لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ” (الحديد:٢٣). هذه الجملة الربانية تحمل من معاني الرأفة والرحمة بالإنسان.

لا تحزن على ما فات وتشغل نفسك به، ولا تبطر بالواقع وتفرح بما آتاك الله حتى لا تغتر بنفسك.

كن إنسانًا متوازنًا فلا يلتهمك الخوف من الماضي، بل ارجع الأمور دائمًا إلى الله، واجعل حبالك مربوطة دائمًا بالله عز وجل. 

هذه الواجبات لو نريد إسقاطها لعبادات نلتزم بها، سنخرج بهذه العبادات، ويجب أن نتواصى عليها سويًا، وهي: 

العبادة الأولى: أداء السنن الرواتب. 

 قال النبي ﷺ:” مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ ‌سَجْدَةً ‌تَطَوُّعًا، بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ” (أخرجه مسلم في صحيحه)

وقال النبي ﷺ: ” وَمَا يَزَالُ عَبْدِي ‌يَتَقَرَّبُ ‌إِلَيَّ ‌بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ” (أخرجه البخاري في صحيحه)

احتسب النية وأنت تصلي أنك تسجد لله واحتسب رغبتك بالتقرب لله عز وجل. 

العبادة الثانية: أداء قيام الليل. 

الله عز وجل ينزل في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فكن مع قوافل الناس التي تقف على أقدامها في ثلث الليل الآخر،

ولا تترك ليلتك دون قيام، ولو بعشرة آيات حتى لا تكتب من الغافلين. فهذه الركعات في الليل زيادة في حب الله عز وجل،

فاحرص في هذه العبادة أن تجمع بين العمل الظاهر والعمل الباطن.

العبادة الثالثة: المواظبة على صلاة الضحى.

قال النبي ﷺ: ” يا ابنَ آدمَ اكفْني أوَّلَ النَّهارِ أربعَ ركعاتٍ، أكْفِكَ بهنَّ آخرَ يَومِكَ” (أخرجه الألباني في صحيحه).

صلاة الضحى هي العمل الظاهري، ما هو العمل الباطني الذي يمكن أن تحتسبه في صلاة الضحى؟

احتسب أن الله هو الحفيظ، يحفظك عندما تقدم على قرار خاطئ، يحفظك من أن تزل قدمك. هذا الحفظ من الله عز وجل بهذه الركعات،

فمن صلى أربع ركعات في أول النهار حفظه الله عز وجل إلى آخر النهار. 

إذن هي عبادات بسيطة يعملها الإنسان لكن لابد أن يستحضر المعنى القلبي فيها.

هذه كانت مجموعة من الأمور التي يُخلي فيها الإنسان المكان ويهيئ قلبه قبل أن يستشرف رمضان.

هذا والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.