بتاريخ ١٤/ ٩/ ١٤٤۲ هـ
لسماع المحاضرة صوتًا
( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )
ها نحن اليوم نستقبل العشر الأواخر من الشهر الفضيل،
الذي كنا بالأمس نبارك لمن حولنا بلوغه، ونُروض فيه أنفسنا على الطاعات،
ونحذو حذو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم.
فماذا كان يصنع عليه الصلاة والسلام إذا أقبلت عليه العشر الأواخر؟
لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام-يستقبل العشر الأواخر كاستقباله بداية الشهر المبارك؛
لأن فيها ليلة عظيمة وهي ليلة القدر فهو يجتهد في هذه العشر تحرياً لها. تقول عائشة رضي الله عنها: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله”.
“أحيا ليله” أي أنه يحييه بالصلاة والقيام ولا ينام إطلاقاً.
” وشد مئزره” أي أنه ابتعد عن الشهوات فلم يكن له أي حظ من شهوات الدنيا.
لماذا سميت بليلة القدر؟
أولاً: سميت بليلة القدر لأنها ليلة ذات مكانة عالية عند الله -عز وجل-،
فعندما نقول عن شخص أنه ذا قيمة وذا قدرٍ رفيع، أي أنه ذا هيبة ومكانة عالية.
فهي الليلة التي أنزل فيها الوحي على النبي عليه الصلاة والسلام، وبها ابتدأ مشوار النبوة والدعوة إلى الإسلام، وبها أنزلت أول سورة من القرآن الكريم.
ثانياً: سميت ليلة القدر لأن الأرض تزدحم بالملائكة،
فهي ليلة تضيق بها الأرض من كثرة الملائكة التي تتنزل فيها، فنجد معنى القدر في قوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} (الطلاق:7)
قدر عليه رزقه أي ضيق عليه، فلذلك سميت بليلة القدر لأنها تضيق من شدة نزول الملائكة فيها،
فالملائكة لا تدع شبراً بين الخلائق إلا كانت فيه لترفع أعمال العباد الذين يعبدون الله عز وجل في تلك الليلة.
ولليلة القدر خصائص عظيمة منها:
-بمراعاتها صار ذا قدر: ليلة القدر ليلة شرف ونيل المغفرة. يقول أبو بكر الوراق: “من لم يكن له قدر صار بمراعاتها ذا قدر”،
فمن لم يكن كثير العبادة أو كثير الصلاح وحرص على هذه الليلة واعتنى بها وقدرها، بُدل حاله إلى الأحسن ونال من فضلها العظيم ومن الأجور والقبول عند الله -عز وجل-.
-زينوا بالطاعات: يقول ابن رجب “إذا كانت ليلة القدر، أمر الرب تبارك وتعالى الملائكة بالنزول إلى الأرض لأن العباد قد زينوا أنفسهم بالطاعات وبالصوم والصلاة “.
-أعمارٌ مضاعفة: من عظمة هذه الليلة أن الله -عز وجل- جعلها بمقدار ألف شهر!
قال -عز وجل-: {ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر} (القدر : 3). إذن هذه الليلة تساوي عند الله ثلاث وثمانين سنة!
فمنذُ غروب شمس تلك الليلة يتبدل حساب العمر ويتضاعف معها الأجر. ومن رحمة الله وكرمه أن منحنا هذا الفضل، لأن أعمار أمة محمد عليه الصلاة والسلام قصيرة مقارنة بأعمار الأقوام السابقة.
-{فيها يفرق كل أمرٍ حكيم}: ومن خصائص هذه الليلة أن تنزل فيها آجال العباد والمقادير من ليلة القدر إلى ليلة القدر من السنة التي تليها،
فما أجملها حين تكتب وتنزل هذه الآجال ونحن نتعبد الله وندعوه ونرجوه.
-{سلامٌ هي حتى مطلع الفجر}: قال قتادة: “السلام هو الخير والبركة ،
فكل ليلة القدر هي سلام لا يستطيع الشيطان أن يفعل فيها شيئاً من الشر لبني آدم الذي يتعبد الله -عز وجل- إلى مطلع الفجر”.
هل لليلة القدر أيام معروفة؟
قال ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى»
أي ليلة الواحد والعشرين «في سابعة تبقى» أي ليلة الثالث والعشرين «في خامسة تبقى» أي ليلة الخامس والعشرون. [رواه البخاري]
إذاً ليس لها وقتٌ ثابت محدد، ولذلك كان السلف رحمهم الله يتحرون هذه الليلة حتى في الليالي الزوجية،
ولا يقتصر اجتهادهم على الليالي الفردية، واتبعوا فيها هدي النبي عليه الصلاة والسلام واحتذوا حذوه.
علينا أن نستشعر معانياً عظيمة تُعيننا على بلوغ الأجر في ليلة القدر:
أولاً – النية: يقول ابن المبارك رحمه الله: “رب عمل صغير تعظمه النية ورب عمل كبير تصغره النية”.
فالنية أمرها عظيم، فمنذ دخول الشهر الفضيل نحتسب بلوغ هذه الليلة ونلح بسؤال الله بلوغها.
ثانياً – استفراغ الوسع والطاقة: فبه دليل صدق هذه النية وإخلاصها،
أن تصدق جوارحك ونواياك وتوافقها بكثرة العبادة، بإطالة التلاوة والسجود والركوع، بالإكثار من الدعوات، وبعدم التكاسل عن الصلوات.
ثالثاً – التبتل لله: وهي من أشرف العبادات التي نتعبد الله -عز وجل- بها، والتبتل هو التملق واشتداد العبادة والتنوع في الطاعات.
رابعاً – جهاد النفس والاصطبار عليها: قال العلماء: “من أراد أن تواتيه نفسه على الخير فسينتظر طويلاً فلابد من حمل النفس على الخير قهراً”،
فالنفس تميل إلى الكسل فلا نخضع لها بالاستجابة بل نُحييها بعلو الهمة للعبادة.
خامساً – هذا زمن سباق فلا ترض بالخسارة: فمنذ دخولنا ليلة الواحد والعشرين ونحن في سباق،
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعود مريضاً ولم يكن يحضر جنازة في هذه الأيام، لأنه دخل في وقت الانقطاع إلى الله -عز وجل-.
سادساً – الإكثار من التعوذ من العجز والكسل: فقد تتوفر الصحة ويتوفر المال وتتوفر راحة البال وتُفقد العزيمة،
وهذا من الحرمان والعياذ بالله، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ». [رواه البخاري]
سابعاً – الحذر من الغفلة: اغتنام الأوقات الفضيلة كأوقات الضحى والثلث الأخير من الليل يقينا من الغفلات والفتور.
ثامناً – أحسن ظنك بالله: فإن سوء الظن بالمعبود يمنع الجود! فلا نتوقع عدم مغفرة الذنوب أو نشك في استجابة الدعوات،
بل نحسن الظن بالله فهو لطيف بعباده غفور يجيب المضطر إذا دعاه.
تاسعاً – تعاهد عملك بالإصلاح فاجمع بين الكم والكيف: فقد نُكثر من الركعات الخفيفة، وقد نطيل الركعات والسجود ونكثر بها من الدعوات الملحة.
والأجمل أن نمزج هذا الكم بالكيف فنكثر من الركعات التي نفرغ بها ما بأنفسنا من دعوات ودمعات تقربنا لله -عز وجل-.
عاشراً – علامة قبول العمل عدم رؤيته: لا تمن على الله بعملك، وتظن بأنه لا مثيل له، فهذا من الكبر، بل تواضع في رؤية عبادتك تواضعاً يليق بالمعبود.
ماذا نفعل في ليلة القدر؟
أولاً – نحيي هذه الليلة: كما أحياها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهجد والقيام وما بعدها من الطاعات.
ثانياً – تعين أهلك على العمل الصالح: قال الله تعالى: }وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا{ (طه :132).
فعلى قدر المستطاع حث أهلك على الطاعة واستنهض في نفوسهم حبها.
ثالثاً – طلب العفو والمغفرة: فعندما نتحرى هذه الليلة نتحرى معها قبول الدعوات،
ومن أفضل الدعاء طلب المغفرة والعفو من الله -عز وجل-. وعلينا أيضاً أن نزاحم هذه الدعوات بدعاء ما نحب وما نرجو من نعيم الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
رابعاً – تطهر ظاهرًا وباطنًا: وفي هذا معنى جميل كان السلف يحتذونه،
يقول ابن جرير رحمه الله: “كانوا يستحبون أن يغتسلوا في كل ليلة من ليالي العشر”. فهذا للظاهر فكيف كانوا يصنعون بتطهير الباطن؟
فهم يدخلون هذه العشر بطهارة كاملة ليستقبلوا هذه العبادة بطهارة حسية ومعنوية في كل ليلة.
خامساً – الاعتكاف: وهي من السنن المؤكدة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أعظم العبادات في أيام العشر،
وعليها تترتب أجور كثيرة وهي:
-مع كل خطوة إلى المعتكف تكتب بها حسنة وتمحى بها سيئة.
-وبها أجر الصدقة.
-وأجر الرباط في سبيل الله أثناء انتظار وقت الصلاة.
-ومنذ الخروج من البيت إلى رجوعه وهو في صلاة.
-يبشر بالنور التام يوم القيامة.
-يطهر من الذنوب كيوم ولدته أمه.
-وفي كل يوم يذهب فيه إلى المعتكف يصنع الله -عز وجل- له نزلاً في الجنة.
-ويكون في ضمان الله وحفظه.
-الهدية الكبرى هي أن من مشى إلى صلاة مكتوبة في جماعة فهي كحجة.
كيف كان اعتكافه النبي صلى الله عليه وسم الاعتكاف في هذه الليالي؟
كان النبي علية الصلاة والسلام يضرب له الخباء، والخباء مثل الخيام الصغيرة التي تضرب على قدر حجم الإنسان،
فيجلس فيها ولا يخرج منها إلا في أوقات الصلوات. فيتعبد الله -عز وجل- يدعوه ويتضرع له، فلا عين تراه ولا أذن تسمعه.
ما هو أقل الاعتكاف؟
قال الشيخ ابن باز: “أقل الاعتكاف ليلة، ثمَّ سُئل ولو ساعة؟ فقال الشيخ ابن باز: ولو ساعة”.
وهذا جواب يعين النساء اللاتي انشغلن بتربية أبنائهن والاعتناء ببيوتهن وبعولتهن بأن لهن نصيب من الأجر.
ما هو أجر الاعتكاف؟
لم يذكر للاعتكاف أجر محسوس خاص، لكن قالوا في الاعتكاف: “مثل المعتكف مثل الذي عدت عليه ساعاته حسنات”، فكأن دقائق وساعات الاعتكاف صنبور أجر يصب في موازينك.
فضل النوافل
أولاً – التقرب من الله -عز وجل-: فيقول الله -عز وجل-: {واسجد واقترب} (العلق : 19)
ثانياً – مرافقة النبي عليه الصلاة والسلام في الجنة: يقول عليه الصلاة والسلام حينما جاءه ربيعه ابن كعب وسأله مرافقته في الجنة: «فأعني على نفسك بكثرة السجود». [رواه مسلم]
لذلك نجد السلف رحمهم الله يتسابقون في كثرة الركعات والتنفل.
ثالثاً – النوافل تكفر الخطايا: قال النبي عليه الصلاة والسلام «عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة، إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة» [رواه مسلم]
رابعاً – تنقى من الذنوب كيوم ولدتك أمك: يقول النبي عليه الصلاة والسلام عن من توضأ و صلى ركعتين:
«فإنْ هو قَامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه وَمَجَّدَهُ بالَّذِي هو له أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ، إلَّا انْصَرَفَ مِن خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَومَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». [رواه مسلم]
أجر من أحيا ليله
إن ليالي العشر ليالي قيامٍ وصلاة وعبادة، فما هي أجور إحياء هذه الليالي العظيمة؟
أولاً – غفران ما تقدم من الذنب: يقول النبي عليه الصلاة والسلام «مَنْ قَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». [رواه البخاري]
وقد لا يكون معنى القيام بأنه قام الليل كله دون توقف، بل من واسع كرم الله وفضله أن جعل لنا أعمالًا تزن أجورها أجر قيام الليلة،
يقول عليه الصلاة والسلام: «من قام معَ الإمامِ حتَّى ينصرفَ كتب لَه قيامُ ليلةٍ». [رواه الترمذي]
ثانياً – يدخل في زمرة المتقين: يقول الله -عز وجل-: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ *كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (الذاريات : 15-19)
أدخلهم الله -عز وجل- في زمرة المتقين لأنهم كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون.
ثالثاً – يثبت الإيمان في القلوب: قال الله -عز وجل-: {إِنَّ نَاشِئَةَ ٱلَّیۡلِ هِیَ أَشَدُّ وطئًا وَأَقۡوَمُ قِیلًا} (المزمل : 6)،
(أشد وطئًا) أي: أثبت للعمل وأدوم، فهي المعين بعد الله على دوام الأعمال وتثبيت النفس عليها.
رابعاً – يقي من الفتن: اسْتَيْقَظَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتَنِ، ومَاذَا فُتِحَ مِنَ الخَزَائِنِ،
أيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ في الدُّنْيَا عَارِيَةٍ في الآخِرَةِ». [رواه البخاري]
فاستنبط العلماء من “من يوقظ صواحبات الحجرات” أن إيقاظهم وصلاتهم في الليل وتهجدهم يقيهم من الفتن.
خامساً – يكفر السيئات: قال عليه الصلاة والسلام: «عليكُم بقيامِ اللَّيلِ، فإنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحينَ قبلَكُم، وقُربةٌ إلى اللهِ تعالى ومَنهاةٌ عن الإثمِ وتَكفيرٌ للسِّيِّئاتِ، ومَطردةٌ للدَّاءِ عن الجسَدِ».
فضل الذكر للذكر كذلك فضائل عظيمة تُغتنم في مثل هذه الأيام
أولها: التهليل الذي به أجر عتق الرقاب، والتهليل هو قول: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير”.
ثانياً: الاستغفار بتنوع صيغه، التي بها تغفر الذنوب وتتضاعف الأجور.
ثالثاً: نحتسب بهذا الذكر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال لمعاذ وهو يبشره بمحبته:
«يا معاذُ واللَّهِ إنِّي لأحبُّكَ فلا تدَع دُبُرَ كلِّ صلاةٍ أن تقولَ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ». [رواه النسائي، وصححه الألباني]
ولِنهار ليلة القدر نصيب
فإذا بزغ الفجر يلزم من أراد الفضل محرابه ويذكر الله -عز وجل-، فبه إتمام الأجر وصدق النية والعزم في الطلب، والإلحاح بالدعاء.
فكما لليلة القدر شأن، نجد في وقتِ الضحى أجر حجة تامة، وما بها من استغفار الملائكة لمن أحيا ضحاه، وما بها من استجلاب رحمة الله.
وهذا كله من الأمور التي تزين وتحيي أعمال العباد في ليال العشر لبلوغ ليلة القدر. فإذا دخلنا في رمضان بروح مودع لا يعلم أيلقاه مجدداً أم هو الأخير،
فيسابق فيها ويصلح بسباقه نواياه فيبلغ بالنية ما لا يبلغه بالعمل.
أروا الله عز وجل منكم ما يحب، وأروه أنكم تتلمسون مرضاته؛ فلا تنشغلوا فيها عن الله -عز وجل-، وآثروا الله على ما عندكم من الهوى،
واسألوا الله أن يجعل خير أعمالكم خواتيمها وخير أيامكم يوم لقائه.
* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.