بتاريخ ١٣ / ١ / ١٤٤١ هـ
لسماع المحاضرة صوتًا
( كرمًا المحاضرة خاصة بالنساء فقط )
الملخص:
منذ أن خلق الله عز وجل الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها والخير والشر في صراع مستمر، وكل الأحداث التاريخية وكل النوازل تبدأ بالشر أولًا ثم لا بد أن تكون العاقبة والنهاية هي الخير. كما قال الله عز وجل:
(وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)
القصص:83
إن أكبر وأعمق مثال على انتصار الخير على الشر هو هجرة النبي عليه الصلاة والسلام، وسبب مراجعة أحداث هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام في بداية السنة الهجرية أنها مجرد عادة درجت بين الناس بسبب ارتباط الحدث بالتاريخ، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرّخ هذا التأريخ الهجري بهجرة النبي عليه الصلاة والسلام، والقصة معروفة لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه حينما أرسل كتابًا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال له: إنه تأتينا منك كتبًا- يعني تأتينا منك رسائل مكتوبة- ليس لها تأريخ فلو أرّخت، ، فأعجبت عمر رضي الله عنه الفكرة وشعر بأهميتها، وما كان له أن ينبتّ بقرار لوحده، فجمع الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا، فقال لهم إنه لا بد من تأريخ فبماذا نؤرّخ؟ فاختلفوا على ثلاثة تواريخ، مولد النبي عليه الصلاة والسلام، ووفاته، وهجرته صلى الله عليه وسلم التي هاجر فيها من مكة إلى المدينة. ويظهر هنا العقل والتفكير العميق لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلو كنا نحن أمة تقديس لذات الشخصيات لأرّخ الصحابة بمولد النبي عليه الصلاة والسلام، ولو كنا أمة استجرار للأحزان والمآسي، لكانوا أرّخوا بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكنهم اتفقوا على أن أعظم حدث حصل هي
هجرة النبي عليه الصلاة والسلام، حينما أذن الله عز وجل لنبيه أن يهاجر من مكة إلى المدينة.
لماذا كان هذا أعظم حدث؟ قال عمر بن الخطاب: الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فالهجرة كانت هي الحدث الفاصل بين لحظة الحق وبين لحظة الباطل، فمنذ أن هاجر النبي عليه الصلاة والسلام تاركًا مكة إلى المدينة وأمر الإسلام في علو، فمازال دين الله عز وجل هو الغالب، ومازالت أعداد المسلمين في تزايد، ولايزال هذا الدين في علو إلى قيام الساعة. وإذا ما نظر البعض إلى حال المسلمين المستضعفين في كثير من البلاد، وجدهم إما مقتلين أو محاربين ،كحال المسلمين في ميانمار أو في كشمير ، سيشعر الإنسان أن هذا الدين في ضعف، لكن هذه الصورة ليست الصورة الكلية، فلو اطلعنا على جميع الأحداث وليست المآسي فقط، سنجد أن الإسلام أكثر الأديان انتشارًا رغم كل ما يواجهه من حرب إعلامية وكل تلك الأخطاء والمغالطات التي تحصل عليه.
سبعة دروس من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
جلس عليه الصلاة والسلام ثلاث عشرة سنة في مكة يحارب أهل الشر وحده، فلم يكن معه صولة من جيش، أومن عتاد ، فكان يأمر المسلمين الجدد بإخفاء دينهم ،تعرض النبي عليه الصلاة والسلام حينها إلى العديد من المفاوضات ،فقد عُرض عليه المال ، والرئاسة ، والزواج ممن يرغب من النساء ،ثم تخاذل عن نصرته أقرب الناس إليه قومه وعشيرته ، وبعدها ذهب للطائف طلبًا للنصرة فطُرد منها صلوات ربي وسلامه عليه، بل حرّضوا عليه الصغار حتى قذفوا النبي عليه الصلاة والسلام بالحجارة فدميت عقباه صلى الله عليه وسلم. تتسلسل الأحداث حتى يصل النبي عليه الصلاة والسلام إلى طريق مسدود، وتضيق الدائرة عليه وعلى أصحابه، حتى أذن الله عز وجل لرسوله بالهجرة .
الدرس الأول: الاستسلام والامتثال لأمر الله
أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما هاجر لم يفعل ذلك طلبًا للسلامة، ولم يهاجر طلبًا للملك، وإنما هاجر امتثالًا لأمر الله، ولذلك ظل المسلمون ثلاث عشرة سنة صابرين في مكة، لأن الله لم يأذن لنبيه بالهجرة بعد، لم تكن الهجرة بالشيء السهل في ذلك الوقت، أن تهاجر يعني أن تخرج من قبيلتك وانتمائك وسندك، فالقبيلة في ذلك الوقت هو كل شيء في حياة العربي، وفي مثل هذه الثقافة يهاجر النبي عليه الصلاة والسلام، ويمتثل لأمر الله عز وجل، ويغادر مكة قائلًا:” والله إنك لأحب البقاع إلي، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت” فهذا الامتثال هو ما يجب علنا استحضاره في كل شيء نفعله .
الدرس الثاني :التضحية
النبي عليه الصلاة والسلام ضحى بأرضه، وماله فهاجر على ناقة هو وأبو بكر، تاركًا زوجته، وبناته، وكل ما عنده قد ضحّى به من أجل الدين الذي جاء به. فالذي نتعلمه من هذا الدرس أنه لابد أن تضحي بكل شيء من أجل دينك، ولا تضح بدينك لأجل أي شيء، من أجل ترقية، صيت، أو لأن هذا الشكل ليس له قبول لدى الناس، فنغير شكلنا وعباداتنا ونحول طاعتنا من طاعة الله إلى طاعة الناس.
الدرس الثالث : أن لا نيأس
فالنبي عليه الصلاة والسلام مكث ثلاث عشرة سنة، دون أن ييأس من دعوة أناس كانوا مثل جلاميد الصخر أمامه لا تتحرك منهم قلوبهم، كانوا يستهزؤون به، يصمون آذانهم، يضعون سلا الجزور على ظهره عليه الصلاة والسلام ويؤذونه، وفوق هذا كله لم ينطفئ الأمل في قلب النبي عليه الصلاة والسلام، ظل الأمل موجودا في قلبه صلى الله عليه وسلم، وهو لا يعلم ان كان سينتشر دينه أم لا، فعرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على خمس عشرة قبيلة، وهو يقول ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشًا قد منعوني أن أبلّغ دعوة ربي، إلى أن فاز بهذا الشرف الأوس والخزرج من الأنصار، فلا تيأس فإن الله ناصر دينه ولو بعد حين، لا تيأس ولو طال عليك الطريق، فلقد مر على النبي عليه الصلاة والسلام ثلاث عشرة سنة، وهي أمد طويل من الزمن، فمهما طال الوقت لا تيأس، لا تستسلم لا تتراجع عن مبادئك ،لا تغير ولاتُبدل.
الدرس الرابع: حُسن الصحبة
أبو بكر رضي الله عنه لم يكن رجلًا عاديًا، وفضائلهُ لا تُحصى ،و الذي نريد ذكره هنا هو ما حدث معه في موطن الهجرة فقط، حيث جاء النبي عليه الصلاة والسلام لأبي بكر وكان يحزم حقائبه يريد أن يهاجر- فأذى قريش بلغ حده، والنبي عليه الصلاة والسلام أذن لهم بالهجرة، ولم يبقى إلا قلة قليلة من الصحابة من ضمنهم النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر- فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي- يعني لا تذهب للهجرة انتظر فإني أرجو أن يؤذن لي، فلما جاء النبي عليه الصلاة والسلام الإذن ذهب لأبي بكر في الظهيرة متقنعًا -يعني متلثم- في وقت لم يكن يأتي في مثله النبي عليه الصلاة والسلام، فدخل عليه، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: “إن الله قد أذن لي بالهجرة، فأول كلمة قالها أبو بكر رضي الله عنه : الصحبة يا رسول الله، – ائذن لي أن أكون معك في هذه الرحلة- ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم”، قالت عائشة رضي الله عنها وقد حضرت هذا الموقف: “فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن رجلًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي”، بكى أبو بكر من الفرح لأنه سيصاحب النبي عليه الصلاة والسلام في تلك الرحلة المليئة بالمخاطرة والمغامرة في سبيل الله، فكان أبو بكر يمشي تارة أمام النبي، وتارة خلفه، حتى لا يصيب الرسول أذى، فقريش طلبت رأس النبي صلى الله عليه وسلم بمائة من الإبل، فتكاثر الفرسان وتنافسوا في من يأتي برأسه، وأبو بكر مع النبي لم يخذله في أي لحظه، يخدمه بكل ما يملك، يلتمس له الطريق ويتخير له المكان الذي يرتاح فيه، ويسقيه من اللبن بعد أن يصفيه، فما إن تُذكر الهجرة، إلا وتذكر حسن صحبة أبي بكر لنبيه، وكذلك الآمال والأهداف العظيمة لابُد لها من صاحب حسن الصحبة.
الدرس الخامس :التوكل على الله عز وجل
وكان هذا التوكل حاضرًا من اللحظة الأولى التي نام فيها علي على فراش النبي عليه الصلاة والسلام، ورجلٌ من كل قبيل واقفًا على باب الرسول صلى الله عليه وسلم يريد قتله، وعلي نائمًا قد عرض نفسه للخطر حبًا للرسول وتوكلًا على الله سبحانه وتعالى فقد وعده الرسول بالنصر، بمثل هذا الإيمان تنتصر الأمم، وبمثل هذا التوكل على الله، التوكل الغير يائس، التوكل الذي ليس تواكلًا، وليس انتظارًا لمعجزات سماوية، وإنما كانوا يفعلون ما بين أيديهم، يبذلون ويخططون ثم ينتظرون من الله عز وجل حسن التوفيق، يقول الله عز وجل عن مواقف حصلت لرسله: “حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم كذبوا جاءهم نصرنا فننجي من نشاء”، لذلك إذا أنت أحسنت و توكلت على الله سخر لك جنود السماوات والأرض، وجنود من حيث لا تحتسب، ويأتي توفيق الله لك من أبواب ما كنت تحسبها، ولذلك تظن في لحظة أن في كل شيء انتهى، وأن أمر الغلبة الآن لا يمكن، وأن الباب موصد، وأن هذا الزمن انتهى، ولا يمكن للنور أن يشرق من جديد، وإذا بالله عز وجل في لحظة يقول كن فيكون ما يريد الله عز وجل.
الدرس السادس :حقيقة الهجرة : الهجرة ليست هجرة الأرض فقط
وإنما يقول النبي عليه الصلاة والسلام:” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه”، فإذا ما هجرت كل ما نهى الله عنه فإنك مهاجر الى الله عز وجل، ولذلك لما يقول الله عز وجل:
(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ)
المدثر:5
فلا ترضى أن تنظر إلى رجز من الأرجاز، وأنت منغمس فيه ولا تهاجر و تنفك عنه، ولا ترضى أن تكون متلبسًا بذنب، ولذلك الهجرة الآن هي هجرة الحرام، وهجرة ما نهى الله عنه، وهي مربوطة بكل الدروس الخمسة الماضية، يهجر الإنسان الحرام وهو متوكل على الله، ويهجر الإنسان الحرام وهو لا ييأس من نصرة الحق، ويهاجر وهو يعلم أن دين الله لا بد أن نمتثله دينًا ولا بد أن نضحي من أجله، إذا أنت تهاجر وتحقق كل تلك الدروس في هجرتك ولذلك لا ترضى أن تفعل الحرام و لا أن تكون من أهله، ولا أن تستلطف ما نهى الله عنه، وأن تبرر الذنب، وإنما افعل كل ما بوسعك وضحّي بنفسك من أجل أن تهجر كل ما نهى الله عنه .
الدرس السابع :قوة الإيمان
كيف فعل النبي عليه الصلاة والسلام ذلك؟
وكيف قدم الصحابة كل تلك التضحيات؟
كيف قاوم الصحابة ذلك المجتمع وكيف استطاعوا أن ينتصروا بذلك الخير في قلوبهم؟ الجواب هو: بالإيمان الذي وقر في قلوبهم، ” أرأيتم لو أني تركت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فدونكم مالكم”. كانوا لا يعدلون بالإيمان شيئًا. ولذلك قال الصحابة :” عشنا برهة كنا نؤتى الإيمان قبل القرآن، فلما أوتينا القرآن ازددنا إيمانًا”، فكان الإيمان يؤتى في قلوبهم أولًا، كانوا يتعلمون علم الإيمان، ولذلك ما هو الإيمان فقط، وإنما هو علم العمل، علم العمل أن تعرف لماذا تعمل ذلك، لماذا أنت تصلي؟ لماذا أنت نأخذ قرارا معينا؟ لماذا نتحجب؟ لماذا نضحي بأنفسنا؟، لقد عرف الصحابة العمل فتعلموا العلم الذي يؤديهم إلى ذلك العمل. كيف نحب الله؟ كيف نترك هذا الحرام؟ لماذا نصلي؟ كيف نصلي؟ إن هذا علم الإيمان، علم العمل، فلما ترسّخ في أفئدتهم استطاعوا أن يأخذوا القرآن و أن يزدادوا إيمانًا، ولذلك من حكمة الله عز وجل وتقديره أنه تركهم يمكثون في البلاء في مكة ثلاث عشرة سنة لم يؤذن لهم بالهجرة، لماذا؟ لأن تلك السنوات كانت سنوات تمحيص وابتلاء، ولا بد أن يكون هناك ابتلاء، والله عز وجل لا يبتلي ليعذب وإنما – كما قال أحدهم – يبتلي ليصطفي ويهذّب ، ولذلك يظن الإنسان في بداية البلاء أنه مجرد عذاب وشر، فإذا به ينقلب إلى اصطفاء من الله عز وجل، وإلى تربية وإلى تهذيب، ويصير الإنسان الذي دخل فيها ليس نفسه الذي خرج منها.
**
هذا كله لنعرف قول الله عز وجل: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)
الرعد:17
أما الزبد فإذا ما شاهدتم البحر في أي يوم انظروا للرغوة البيضاء اللي تغطي سطحه القريب من الشاطئ على مد البصر، رغوة بيضاء (زبد)، يقول الله عز وجل عن الباطل أنه مثل الزبد، موجة وحدة تأتيه فتذهب به كله، فأما الزبد فيذهب جفاء وهباء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض إلى أن يلقى الله عز وجل.
* تنويه: مادة المحاضرة جُمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.