بتاريخ ٢/ ٥/ ١٤٤٦ هـ
لسماع المحاضرة صوتًا
( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )
النظر إلى السّماء
عنوانٌ ينقلك من نظرةٍ دنيوية سطحيّة، تحومُ في حدود العقل البشريّ الضيّق، إلى نظرة سماويّة واسعة، تحكمها أقدار العليم الحكيم، الذي وسع علمه ما كان وما سيكون.
*في أعظم آية في القرآن يوجه الله عباده للنظر إلى السماء (له ما في السماوات وما في الأرض) ليخرجك من الحدود الماديّة، ويعلّق قلبك بما هو أسمى وأبعد من ذلك.
*إن مشكلاتنا تكمنُ في أننا لا ندعُ لأنفسنا فرصة لأن نتأمل ونتفكر، نركضُ في زحام الدنيا دون لحظة توقف
نتأمل فيها الكون ونراجع الحسابات ونرى همومنا تصغر وتصغر أمام دقّة هذا الكون المتناهية، أمام عظمة الرب الذي بيده أسباب لا نملكها نحن وليست في حدود تفكيرنا أصلًا!
*ما الفوائد العائدة لنا من التحرر من الماديات؟
1- تجعل لك فرصة للتفكر والاعتبار.
2- إظهار الحاجة والافتقار والضعف لله عز وجل.
3- في النظر للسماء حسن ظنٍ بالله تعالى.
4- نظرك للسماء يعني أن تفرد الله وحده.
5- أنه يزيد في الإيمان.
النظر إلى السّماء
عنوانٌ ينقلك من نظرةٍ دنيوية سطحيّة، تحومُ في حدود العقل البشريّ الضيّق، إلى نظرة سماويّة واسعة، تحكمها أقدار العليم الحكيم، الذي وسع علمه ما كان وما سيكون.
*هداية من قصة إبراهيم عليه السلام مع النمرود:
في سورة البقرة عندما ذكر الله سبحانه مجادلة نبيه إبراهيم عليه السلام مع النمرود، سأل النمرود؟ من ربك،
فأجاب إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت، فقال النمرود أنا أحيي وأميت فأتى برجلين فأعدم أحدها وسرّح الآخر،
فلم يدخل معه إبراهيم في نقاش الحياة والموت المقصود، بل وجهه لتحدٍّ آخر، أنّ الله سبحانه يأتي بالشمس من المشرق،
فائتِ بها من المغرب، فبُهت الذي كفر! لقد غيّر إبراهيم عليه السلام نظرة ذلك الملك من قوانين دنيويّة ووجهه للسّماء بقوانينها الأعظم!
*التأمّل في السّماء يعيد الأمور لميزانها الصحيح.
لما ذكر الله سبحانه وتعالى أعظم آية في القرآن “آية الكرسي” قال: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض) [سورة البقرة : آية 255].
فوجّه نظرك للسّماء، ليخرجك من الحدود الماديّة، ويعلّق قلبك بما هو أسمى وأبعد من ذلك،
حتى يصبح للابتلاء الذي يبتليك به الله عز وجل معنى آخر تفقهه بقلبك، فلا تبقى حزينًا مأسورًا في دائرة ضيقة في همومك بل تنظر إليها بنظرة أوسع!
فحتّى موت الحبيب سيكون له شأنٌ آخر إن آمنت أن لله في ذلك حكمةٌ وتدبير، فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما مات ابنه
قال: (إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون). قالها مع الرضا التام وعدم التسخط فلا أحد في الدنيا مخلّد!
*أين تكمنُ مشكلاتنا؟
تكمن مشكلاتنا في أننا لا ندعُ لأنفسنا فرصة لأن نتأمل ونتفكر، نركضُ في زحام الدنيا دون لحظة توقف نتأمل فيها الكون ونراجع الحسابات
ونرى همومنا تصغر وتصغر أمام دقّة هذا الكون المتناهية، أمام عظمة الرب الذي بيده أسباب لا نملكها نحن وليست في حدود تفكيرنا أصلًا!
وهو سبحانه يدعونا للتفكر: قال تعالى: (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) [الغاشية: 17: 19].
*ما الفوائد العائدة لنا من التحرر من الماديات؟
1- تجعل لك فرصة للتفكر والاعتبار: فالنظر للسماء عبادة (قل انظروا ماذا في السمٰوات والأرض) ونحن في حاجة للخلوة مع النفس والنظر للعالم العلوي.
2- إظهار الحاجة والافتقار والضعف لله عز وجل: فإذا مررت في موقف وانظلمت فيه تجدك تلقائيًا تنظر للسماء
وتقول: يا رب، فتفتقر إليه بضعفك في هذا الموقف وتستمد النصرة منه، فتطمئن وينصب في قلبك من الطمأنينة حين تتصل بالملأ الأعلى.
3- في النظر للسماء حسن ظنٍ بالله تعالى: فأنت إذا نظرت للسماء ماذا ترجو؟ سترجو من الله ألّا يخيب رجاءك وألا يضيّع خطواتك،
وأن الفرج منه سبحانه، وفي الحديث: “أنا عند ظن عبدي بي، فإن ظن بي خيرًا فهو له وإن ظن بي شرًا فهو له”.
4- نظرك للسماء يعني أن تفرد الله وحده: فيعرف توحيد العبد إذا أصابته ضائقة، يرفع نظره للسماء ويقول يا رب،
قبل أن يفكر في البشر من أب أو أخ أو زوج، فهذه اللحظة من العبد أي اللجأ إلى الله يحبها الله عز وجل، وهذا يذكرنا بقصة زكريا عليه السلام
لمّا حُرم من الولد وكانت أسباب الدنيا لديه حاضرة من كبر في السن وعقم الزوجة، وفي لحظة حينما دخل على مريم ووجد عندها الرزق
وقالت: (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) فـ (هنالك دعا زكريا ربه قال ربي هب لي)
فأعطاه الله في اللحظة التي تحرر فيها من الماديات وعلم أن رزق الله لا ينحصر في أسبابه.
5- أنه يزيد في الإيمان: فتفكرك في ملكوت الله وخلقه العظيم في السماء والأرض مع لسان يلهج بالتسبيح والتهليل سيجعلك تضع همّك وابتلاءك في حجمه الحقيقي،
وفي سورة آل عمران تشاهد أعمق مثال فبعد أن انتصر المسلمون انتصارًا ساحقًا في معركة بدر، جاءت معركة أحد ليخرج منها المسلمون بدرسٍ آخر،
فقال: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ) [آل عمران ١٤٠] فكانت معركة تمحيص ليميز سبحانه الخبيث من الطيب والصادق من الكاذب، ويتخذ منكم شهداء.
وهذه سنة الله في دينه، جعل فيه من المشقة ليحصل التمحيص، فالجنة ليست بابًا يفتح يدخله الجميع بل هي مراتب ودرجات.
*الله سبحانه وتعالى يمتدح المتفكرين:
ذكر الله سبحانه أولو الألباب مرتين في آل عمران في مبدئها وخاتمتها، وهم أصحاب العقول الذي فهموا حقيقة الدنيا
فذكر أن من صفاتهم: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران191]
فهؤلاء توصلوا إلى نتيجة عظيمة عندما أطلقوا عقولهم متفكرة في الكون أنك يا الله ما خلقت الخلق باطلًا،
وأنا واحد في هذا الخلق فلابدّ أني خلقت لأوفّي رسالة ما وأن هنالك دور معين لي في الحياة فلم أخلق عبثًا بلا هدف ولا مهمة،
وهذا يدعوني لأفكر ماذا يريد الله مني؟ وأيُّ الإنجازات التي ستبقى لي وتلحقني للدار الآخرة!
وماذا كان رد أولو الألباب عندما توصلوا لتلك النتيجة وأول ما دعوا ربهم؟ هل قالوا ربنا أرِنا ماهي مهمتنا في هذا الكون؟
بل قالوا (سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) فلمّا رأوا هذا الكون الفسيح المخلوق بدقة وأنهم ما خلقوا عبثًا تأكّدوا أنهم بطبيعتهم يخطئون ويذنبون فرَجوا من الله أن يتجاوز عنهم.
ثم قالوا: (رَّبَّنَاۤ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِیࣰا یُنَادِی لِلۡإِیمَـٰنِ أَنۡ ءَامِنُوا۟ بِرَبِّكُمۡ فَـَٔامَنَّاۚ رَبَّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرۡ عَنَّا سَیِّـَٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِ) [آل عمران 193]
ففي زحام الدنيا سمعنا صوتًا ينادي إليك فبحثنا عنه رجاء مرضاتك.
*زاحم مشاكلك وهمومك بهموم أكبر!
ولنا في نبي الله موسى عليه السلام خير شاهد، فعندما قال له سبحانه: (ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ) [طه 24] كيف زاحم عليه السلام هذا الهم؟
قال: (رَبِّ ٱشۡرَحۡ لِی صَدۡرِی * وَیَسِّرۡ لِیۤ أَمۡرِی * وَٱحۡلُلۡ عُقۡدَة مِّن لِّسَانِی* یَفۡقَهُوا۟ قَوۡلِی* وَٱجۡعَل لِّی وَزِیرا مِّنۡ أَهۡلِی* هَـٰرُونَ أَخِی) [طه 25 -30]
ولمَ هذه الطلبات كلها؟ (كیۡ نُسَبِّحَكَ كَثِیرا * وَنَذۡكُرَكَ كَثِیرًا) [طه 33-34] فكأنه يقول يارب إن سبحناك كثيرًا وذكرناك كثيرًا
سنضعُ فرعون ذا الجبروت في مكانه المناسب أمام ملكوتك الكبير حتى كأنه قطة على عرشه، وإلا فمن يتجرأ على فرعون في ذلك الوقت؟!
*أن يأتيك قدرك من حيث لا تحتسب!
إذا أراد الله أمرًا هيّأ أسبابه، فهذا فرعون الطاغي يأمر قومه بأن يقتّل الولدان لرؤيا رآها بأن هنالك من سيأتي ويهدم ملكه،
ثم خفف حكمه فأمرهم بأن يقتلوا الولدان سنة ويتركوهم سنة، فقدّر الله سبحانه أن يولد موسى في السنة التي يقتل فيها الأطفال،
أوليس الله كان قادرًا أن يؤخره سنةً ليحيا؟ ولكن هكذا يمضي قدر الله ليعلم كل أحد أن أمر الله نافد وأن قوانين السماء لا تحتكم بمعادلات الأرض،
ثم يأمر أمه أن تلقيه في البحر ويعدها وعدًا سماويًا أننا سنعيده إليك، مع أن النظرة الدنيوية تؤهل أسباب الموت فإما على يد الطاغية أو غرقًا في بطن اليم،
ثم يقدر الله أن يلتقطه آل فرعون وتُلقى في قلوبهم محبته، فيحصل على استثناء القتل، ثمّ تحرّم عليه المرضعات، فلا يقبل إلا حليب أمه،
فتدلهم أخته على أمه كأنها واحدةٌ من المرضعات، وتستبشر بعودة طفلها لأحضانها.
تعلمنا هذه الحوادث أننا سنزال في ضيق ما دمنا مأسورين بالقوانين المادية الأرضيّة،
وأن الثّقة بربّ السماء والتعلق به وتفويض الأمر له سيقلب الموازين ويغيّر الأحداث، لأن الله وحده عليم قادر.
كان هذا كله حديث عن عبادة النظر إلى السماء وأننا في حاجة لها، أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يعرف الله عز وجل حق معرفته،
وأن يجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاه ولا يجعل فينا ولا معنا شقيًا ولا ضالًا ولا محرومًا،
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.