بتاريخ ٢١/ ٨/ ١٤٤٤ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )

“السَّفيرُ الأوَّلُ”

بسم الله الرحمن الرحيم

حديثُنا في هذه المُحاضَرة عن شابٍّ ليس كباقي الشّباب، عن صحابيٍّ لم يعشْ حياةً عاديّةً، ولم يُسلِمْ إسلامًا عاديًّا، حتّى أنّ موتَه لم يكنْ عاديًّا، حديثُنا عن الصّحابيِّ مُصعَبِ بنِ عُميرٍ الذي كثيرًا ما تحدّث عنه المُؤرّخون في بداية عمره.

1. نشأته وسماته الشخصية:

مُصعَب بن عُمير هو ابن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار القرشي، وُلد في مكة وكان من أبرز شباب قريش. نشأ في أسرة غنية وعاش حياة رفاهية، إذ كانت أمه خناس بنت مالك من أسرة رفيعة المستوى، وقد أغدقت عليه من ثروتها. كان مصعب جميلًا في مظهره، وكان يعطر نفسه بأغلى أنواع العطور، وأصبح حديث النساء في مكة. كما كان فتيان مكة يفتخرون به لشجاعته ووسامته وذكائه.

2. إسلامه:

رغم حياة الترف التي عاشها، كان مصعب يشعر بفراغ روحي ووجود شيء أكبر من الحياة التي يعرفها. عندما سمع عن النبي محمد ﷺ، قرر أن يلتقي به ليتعرف على ما يدعو إليه. رغم أن قريش كانت قد بدأت تروج عن النبي ﷺ بأنه ساحر أو مجنون، فقد قرر مصعب أن يلتقي به ويسمع منه. في اللقاء، قرأ النبي ﷺ عليه القرآن، وكان تأثيره عميقًا. فورًا، أعلن مصعب إيمانه وأصبح مسلمًا.

أخفا مصعب إسلامه خوفًا على أمه، ولكنها اكتشفت الأمر وسعت إلى ردّه عن دينه بكل الطرق، بدءًا من التهديد والتعنيف، وصولًا إلى الحبس والتجويع. رغم كل ذلك، ظل مصعب ثابتًا على إيمانه، مما أدى إلى طرده من بيت أمه، فخرج حافيًا لا يملك شيئًا سوى إيمانه، واتجه إلى دار الأرقم لينضم إلى المسلمين.

3. هجرتُه إلى الحبشة:

عندما اشتد الاضطهاد في مكة، أمر النبي ﷺ المسلمين بالهجرة إلى الحبشة، حيث كان هناك ملك عادل لا يظلم أحدًا. فكان مصعب من أوائل المهاجرين. في رحلة الهجرة، كانت الظروف صعبة، لكنه ظل صابرًا، ورافقه بعض الصحابة، حيث تكبدوا معًا مشقة السفر الطويل والمرهق.

4. حصارُه في الشِّعْب:

بعد عودته من الحبشة، وجد مصعبًا نفسه وسط حصار قريش للمسلمين في “الشِّعب” – وهي المنطقة التي حاصرتها قريش لمدة ثلاث سنوات. كانت ظروف الحصار قاسية جدًا على المسلمين، ولكن مصعبًا ظل صامدًا في إيمانه رغم العذاب الشديد. قيل أنه فقد جزءًا كبيرًا من وزنه، وكان يبدو ضعيفًا بسبب الجوع والعطش، لكنه لم يتراجع عن إيمانه أبدًا.

5. سفارته إلى المدينة:

مع تزايد الاضطهاد في مكة، وفي السنة الحادية عشرة للبعثة، قام النبي ﷺ بتكليف مصعب بن عمير بمهمة عظيمة، حيث أرسله إلى المدينة (يثرب) لتعليم أهلها الدين، فكان بذلك أول سفير للإسلام. قابل مصعب بن عمير في المدينة بعض الأنصار الذين كانوا قد سمعوا عن الإسلام من اليهود، فبدأ بدعوتهم إليه. واجه مصعب تحديات كثيرة، لكن بفضل حكمته وإيمانه العميق، استطاع أن يُقنع العديد من أهل المدينة بالإسلام.

6. بيعة العقبة الأولى:

في موسم الحج من السنة الثانية عشرة للبعثة، جاء ستة من أهل المدينة إلى مكة، وأعلنوا إسلامهم بعد أن استمعوا للنبي ﷺ. في السنة التالية، جاء اثنا عشر رجلًا من الأوس والخزرج، وقد بايعوا النبي ﷺ في “بيعة العقبة”. طلبوا من النبي ﷺ أن يرسل معهم من يعلّمهم الإسلام، فاختار النبي ﷺ مصعبًا بن عمير لهذه المهمة.

7. دور مصعب في المدينة:

قام مصعب بن عمير مع أسعد بن زرارة بتعليم أهل المدينة الإسلام بشكل سري، وقد نجحا في إقناع عدد كبير من الناس بالانضمام إلى دين الله. فكان لمصعب دور كبير في نشر الإسلام في المدينة، حتى أصبح إسلام أهل المدينة في ميزان حسناته.

8. بيعة العقبة الثانية:

في السنة الثالثة عشرة للبعثة، عاد مصعب بن عمير إلى مكة ليبشّر النبي ﷺ بأن أهل المدينة قد أسلموا، وأنهم مستعدون لاستقباله. وعندما علمت أمه بعودته، أرسلت إليه وقالت: “يا عاق! أتأتي إلى بلدي ولا تبدأ بي؟”، فأجابها مصعب: “ما كنتُ لأبدأَ أحدًا قبل رسول الله ﷺ”.

وفي موسم الحج هذا، جاء وفد من يثرب إلى مكة، وتعدّت بيعة العقبة الأولى إلى بيعة ثانية، حيث بايع هؤلاء الأنصار رسول الله ﷺ على النصرة والهجرة. كان ذلك بداية لمرحلة جديدة في تاريخ الدعوة الإسلامية.

لقد كانت حياة مصعب بن عمير مثالًا حقيقيًا للثبات والإيمان، على الرغم من أنه نشأ في حياة رفاهية، إلا أنه اختار طريق التضحية والنضال في سبيل الله. وهو بذلك يُظهر لنا أن الترف والمال ليسا عائقًا أمام الهداية، وأنه يمكن للإنسان أن يختار الطريق الصحيح مهما كانت التحديات.

مُصعَب بن عمير أصبح بحق أول سفير للإسلام، وأدى دورًا أساسيًا في نشر دين الله في المدينة، وأصبح جزءًا من التاريخ الإسلامي العظيم.


* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.