بتاريخ ٩/ ١١/ ١٤٤٤ هـ
لسماع المحاضرة صوتًا
( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )
حديثنا اليوم يدور حول موقفِ يمرُّ به كلُّ واحدٍ منّا، ولو سألتك:
“هل سبق لك أنْ اتخذت قرارًا، ودرست هذا القرار من كافّة جوانبهِ، والتزمت به في حياتك، سواءً بالإتمام أو بالتّقصير”؟
هل سبق لك أنِ التزمت بقرارٍ لمدة شهرٍ أو ستّة أشهرٍ أو سنة، وبلحظة ضعفٍ ما؛ تلقّيت دعوةً للمشاركة بمناسبةٍ ما، واستسلمت في المرة الأولى
وفي المرة الثانية، وهكذا حتّى نسيت تدريجياً قرارَك الذي اتّخذته سابقًا؟
ولربّما تتغيّر فلا تجدك كما أنت في السنة نفسها، فأنت في شوال مختلفٌ عما كنت عليه في رمضان، أو في مكانك الحالي كنت على حالٍ، وعندما سافرت لمكانٍ آخر اختلفت باختلافه.
إنّ كلّ هذا التّقلّب الذي تشعر به وكأنك شخصٌ مختلفٌ، يجعلك تشعر بعدم فهمك لنفسك، ولهذا نحن نحاول في هذه الدروس فهم أنفسنا، وما يدور فيها، لنجد مفاتيحَ حياتنا، ونتعلّم
كيف نعيشها بسلام، والطّريق إلى ذلك بالعودة إلى كتاب الله -عزّ وجلّ- إذ يقول:
﴿أوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ (التوبة: 126).
يبتلي الله عباده ليظهر الإيمان الحقيقي في قلوبهم، فتارة يمنحهم السعادة وتارة يختبرهم بالحزن.
الفتنة كالذهب تُصهره النار ليصبح نقيًا. يقول الإمام ابن الجوزي:
“تأملت الناس وهم يسيرون ويتعثرون، فعلمت أن النفس مجبولة على النظر إلى أخطائها”
ولذلك يجب على الإنسان أنْ يسألَ نفسَه ماذا كانت فتنتي العامَ الماضي؟
ما الفتنةُ التي تعرّضت لها فغيّرت كلّ جوانبِ حياتي؟
أسبابُ فتنةِ الإنسانِ لنفسِه:
السّبب الأوّل: اعتقادُ الإنسان بعدمِ وجودِ فتنةٍ أساسًا:
بعض الناس ينكرون وجود الفتنة، كمن يبررون العلاقات المحرمة بزعم الزمالة أو الصداقة
هؤلاء لا يرون خطر الفتنة حتى تغلبهم. يقول الله: ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾
فالإنسان إذا غلبه هواه لم يعد يسمع أو يرى.
السّبب الثّاني: مخافةُ النّاس أشدُّ عنده من مخافةِ اللهِ عزّ وجلّ:
فإذا سألته من تخافُ أكثر، اللهَ عزَ وجلَ أمِ النّاس؟ لقال: “أنا لا أرى الله، بينما أرى كل من حولي من الناس ومن أقاربي”، وهذا من اختلالِ موازينِ التّفكير.
السّبب الثالث: عدم طهر القلب، وتلوثه بقذارة الدنيا:
يَفتن الإنسان نفسه حينما لا يكون قلبه طاهراً نظيفاً، بل معلقاً بتفاهات الحياة وآثامها، من حسد وكبر وغيبة ونميمة، وهوى النفس، وخواطر السوء، وغيرها.
يقول الله تعالى: ﴿وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾
(المائدة: 41).
السّبب الرّابع: التّلاعب في دينِ الله:
يبتعد البعض عن المحكمات من آيات الله ويتبعون المتشابه بحثًا عن مبررات لأهوائهم. يقول الله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾، وهذا تلاعب خطير بالدين.
السّبب الخامس: ضَعفُ الإنسان وعدمُ ثقتِه بنفسِه:
وبعضهم يُفتَن عند رؤيته لشخصٍ آخر واقعًا في فتنةٍ معينةٍ، فيتم استجرارهم بسهولة، ولا يستطيعون المقاومة، ذلك لأنّهم
ضُعفاء الشخصيّة، عُدماء الثّقة بالنّفس، دعونا نرى الفرق بينهم وبين الفئة السابقة:
يقول الله عز وجل عن المنافقين: ﴿ومنهم من يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي ۚ أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ (التوبة: 49).
هذه الآية العظيمة تتحدّثُ عن المنافقين الذين يطلبون الإذن من محمّد -عليه الصلاة والسلام- لكي يتخلّفوا عن الجهاد
بحُجّة أنّهم يخشَون على أنفسهم الافتتانَ بنساء الرّوم الشّقراوات والبيضاوات، فيقول الله تعالى مُعقِّباً على كلامهم: “ألا في الفتنة سقطوا”
فلا تجعلِ الشّيطان يوسوس لك من مثل هذه الأبواب، فيمكن للإنسان أنْ يجاهدَ في سبيل الله ويحصّنَ نفسه بنفس الوقت، ولا تجعل الشّيطان يسيطر عليك ليُشعرَك أنّك ضعيفٌ ومهزوز.
يقول الله جل جلاله: {ومَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (النساء: 110)
فلا تظنّ أنّ أيّ سوءٍ تقع فيه هو نهاية الدنيا لأنّ المخرج منه _بإذن الله_ أنْ تستغفر ربّك العظيم.
فكن قويًا ولا تسمح لنفسك إذا رأيت منكرًا أو فاحشةً أنْ تنساقَ وراءها، وتصطحب معها أهلها، وأغلقِ الأبواب جيّدًا بوجه شيطانك الذي يوسوس لك
أنّك لن تستطيعَ التّصدي للفتن، وأنّك معذورٌ إن سقطت في فتنةٍ حولك.
السّبب السّادس: رغبة بعض الناس بالفتنة:
يقول الحقُّ جل جلاله: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا﴾ (الأحزاب: 14)
والكلام عن المنافقين الذين يرغبون أن يُفتَنوا، فهؤلاء متشوّقون للفتنة، وأولُّ ما تلوح لهم بالأفق فلن يترددوا ولن يجاهدوا أنفسهم في التّصدّي لها
فالمُسبّب للفتنة _هنا_ (النّفس) المحبّة للفتن، قبل الشيطان وقبل النّاس الآخرين.
السّبب السّابع: النّظر إلى ما عند الخلق:
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ (طه: ١٣1)
وهذه مشكلةٌ شائعةٌ جدًا؛ وهي النظر إلى ما عندَ غيره من ممتلكاتٍ وأرزاقٍ وجمالٍ وقدراتٍ ونِعَم… إلخ، فهذا ممّا يُوقِع صاحبه بالفتنة
ويعرّض الإنسانَ لكبيرةٍ من الكبائر وهي (الحَسَد)، فيجب على الإنسان أنْ يستبدلَ تمنّيه لمتاع النّاس بالخير الذي عنده من الله سواءً في الدنيا أو في الآخرة.
يقول الله جل جلاله: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (القصص:٨٣)
فلا تلتفتْ للدنيا، واطرحها من قلبك.
السّبب الثّامن: عدوّ الله الشّيطان:
الشيطان هو عدو الإنسان الذي يسعى لإيقاعه في المعصية ويُشعره بالغرور بدلاً من الذنب لئلا يتوب. يحوّل الشيطان الإنسان إلى شخص ذليل، كما يثبّط عزيمته
عند الإقدام على الطاعة ويحبّب له المعصية. الله حذّر من الشيطان في قوله:
﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا﴾ (فاطر: 6).
علاج الفتنة
يكمن في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (النحل: 110).
هذه الآية تقدم وصفة علاجية تبدأ بهجر مكان الذنب، كما فعل السفاح الذي تاب بعدما ترك بيئة المعصية وذهب إلى أرض الصالحين.
الصحابة رضي الله عنهم نموذجٌ للتغيير، إذ خلعوا لباس الجاهلية فور دخولهم الإسلام رغم صعوبة التخلص من عادات سنوات طويلة. فالتغيير يتطلب
الهجرة من المعاصي والمجاهدة، كما في مثال ترك الأغاني أو مواجهة وساوس الشيطان التي تحاول منع الإنسان من الطاعة والجهاد. يقول النبي ﷺ:
“إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه كلها” مما يدل على وجوب مجاهدة النفس دائمًا.
كعب بن مالك مثالٌ آخر في الصدق مع الله، فقد اعترف بخطئه عندما تخلف عن الغزوة، وصبر على عقوبة الهجران حتى تاب الله عليه. يقول كعب:
“ما أنجاني الله إلا بالصدق”. فالصبر والمثابرة أساس الوصول إلى الله. ويؤكد الإمام ابن القيم:
“من ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه”.
لذلك، السعي إلى الله يحتاج إلى ترك المعاصي والصبر على مرارتها، والاعتماد على الله الذي يقرب عباده منه برحمته. فلنبادر بخطواتنا الأولى ونثق بوعد الله:
﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
نسأل الله أن يجعلنا من عباده المغفور لهم، إنه غفور رحيم.
* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.