بتاريخ ٦ / ٩ / ١٤٣٩ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط)


الملخص:

      بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

   نبدأ حديثنا بكلمات للحسن البصري رحمه الله:

“إنّ الله جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا “

دعونا قليلاً نلتفت إلى الأعمال وأصحابها في هذا الميدان، هناك أناس تعمل أعمال فيحبها الله – عزّ وجلّ-، وأناس تعمل أعمالًا فيعجب منها الله –عزّ وجلّ-، وأناس تعمل أعمالاً فيضحك منها الله –عزّ وجلّ-  فالأعمال تتفاضل.

نحن الآن في شهر رمضان، وفي هذا الميدان نتنافس، فالقضية هي كيف تعمر هذه الدقائق، لا أقول تعمر الساعات! بل كيف تعمر هذه الدقائق الرمضانية بعملٍ صالح بحيث لا تصل إلى نهاية يومك الرمضاني إلا وامتلأت شعورًا بالرضا، بقبول الله لك، ورضاه عنك.

ولكي نكون لله أقرب، فنحن لن نبحث عن أي عمل عادي، وإنما سيكون جلّ بحثنا على وجه الخصوص عن تلك الأعمال التي يضحك منها الله-جلّ وعلا- ويُعجب بها.

ففي الحديث قال عليه الصلاة والسلام: ((وإذا ضحِك ربُّكَ إلى عبدٍ في الدُّنيا فلا حسابَ عليه))

[أخرجه أحمد، قال الألباني: صحيح]

فالله -عزّ وجل- إذا ضحك لعبد في موطن في الدنيا فلا حساب عليه.. بين كل الأهوال وجموع البشر يوم القيامة، تدخل أنت وكأنك في مسار خاص من قبرك، إلى أين؟ إلى الجنة مباشرة! ليس بالعمل الهيّن، وعلينا الاجتهاد في التسابق عليه. منذ سنوات ونحن نعرف الأعمال الفاضلة في رمضان. الآن نود أن نضيف لها مزيداً من التميز، ونكون أحرص على تلك الأعمال التي تأخذنا بمسار مباشر إلى الجنة، من غير حساب ولا عقاب- بإذن الله-.

[ 1 ]

      ((أنَّ رجلًا سأل رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أيُّ الشُّهداءِ أفضلُ؟ قال: الذين إن يَلْقَوا في الصفِّ لا يلْفِتون وجوهَهم حتى يُقتَلوا))

[أخرجه أحمد، قال الألباني: صحيح]

لاحظوا الصحابة -رضوان الله عليهم- دائمًا كان سؤالهم عن الأفضل والأحسن في العمل، ولم يكن اهتمامهم في كون العمل يسير وسهل في الأداء، بل جلّ تركيزهم على الأفضل.

وهنا هل كان يسأل الصحابي عن أي الصلاة أفضل؟ أي الصيام أفضل؟ لا، بل أي الشهداء أفضل؟ بمعنى أن نية الموت في سبيل الله موجودة في قلبه، وعازم عليها، لكنّه أراد أن يتنافس حتى في مماته.

((قال الذين إن يَلْقَوا في الصفِّ لا يلْفِتون وجوهَهم حتى يُقتَلوا)). انظروا للميزة البسيطة، أنك إن رأيتهم بالصف الأول لا يلتفتون يمينًا أوشمالًا، متفقّدين ماذا يحدث في المعركة، وماذا حلّ بأصحابهم؟ بل يمضون قُدُمًا، حتى ينتصروا أو يُقتلوا في سبيل الله.

يقول النبي عليه الصلاة والسلام : أُولَئِكَ يَتَلَبَّطُونَ فِي الْغُرَفِ الْعُلَى مِنَ الْجَنَّةِ، وَيَضْحَكُ إِلَيْهِمْ رَبُّكَ، وَإِذَا ضَحِكَ رَبُّكَ  إِلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا فَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ

([أخرجه أحمد، قال الألباني: صحيح])

الحديث لا يخص الشهداء فقط، وإنما في ثباتك أنت في اللحظة التي يلتفت فيها كل الناس، الميزة التي لهم أنّهم أُنَاس لم تلتفت في طريقها إلى الله لمن يجاورهم- هل الناس معنا أم لا؟ هل كثير يمشون في هذا الطريق مثلنا أم قليل؟ هل شكلي يتوافق مع الغالبية أم غريب؟

[ 2 ]

“أنَّ رَجُلًا أتَى النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَبَعَثَ إلى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: ما معنَا إلَّا المَاءُ ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن يَضُمُّ أوْ يُضِيفُ هذا، فَقالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: أنَا. فَانْطَلَقَ به إلى امْرَأَتِهِ، فَقالَ: أكْرِمِي ضَيْفَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَتْ: ما عِنْدَنَا إلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، ونَوِّمِي صِبْيَانَكِ إذَا أرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، ونَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فأطْفَأَتْهُ، فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أنَّهُما يَأْكُلَانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أصْبَحَ غَدَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ، أوْ عَجِبَ، مِن فَعَالِكُما فأنْزَلَ اللَّهُ: {وَيُؤْثِرُونَ علَى أنْفُسِهِمْ ولو كانَ بهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ()

[أخرجه البخاري]

خصاصة : أي شِدّة وَ فَاقة.

 نَحنُ هنا لا نتحدّث عن أغنياء المدينة؛ بل نَتَحدّث عن عائلة تَمضي عليهم الأيام واللّيالي لا يجدون ما يَسد جوعهم، هل تَظنون أَنّه حينَما قدم هذا الإيثار، كان ينوي حين يصبح أن يذهب للرّسول-عليه الصلاة والسّلام- و يُخبِره بعَظيم ما صنع لضيفه و أَنّه آثَره على أَطفاله؟  أَبدًا! هو فعلها وهو يرى أنه لم يفعل شيئًا، لكن الذي فعله كان قمة في الإيثار.

أن تبيت أنت وزوجتك بل وصغارك جوعى من أجل من؟! من أجل ضيف ليس ضيفك ولا تعرفه، لكنه ضيف رسول الله – صلى الله عليه وسلم-

تأمّل!

[ 3 ]

       يقول النبي-عليه الصلاة والسلام- في حديثٍ آخر: ((ثلاثةٌ يُحبُّهم اللهُ ويضحكُ إليهم ويستبشِرُ بهم، الَّذي إذا انكشفت فئةٌ قاتل وراءَها بنفسِه للهِ عزَّ وجلَّ فإمَّا أن يُقتلَ وإمَّا أن ينصُرَه اللهُ ويكفيه فيقول: انظُروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسِه))

       والثاني : ((والذي له امرأةٌ حسنةٌ وفِراشٌ لَيِّنٌ حسَنٌ، فيقوم من الليلِ [فيقول] يذَرُ شَهوتَه ويذكُرني، ولو شاء رقدَ))

      الثالث : ((والذي إذا كان في سفَرٍ وكان معه ركبٌ، فسَهِروا ثم هجَعوا، فقام من السَّحَرِ في ضراءَ سِرًّا))

[أخرجه الطبراني، قال الألباني: حسن]

      هؤلاء الثّلاثة مختلف كل واحدٍ منهم عن الآخر، لنتأمّلهم واحدًا واحدًا: الذي في سَريّة، وانهزمت جميعها، فَلم يبق منهم إلّا وَاحد يَلقَى العَدُو، وأَمَامه خيَارَان: يُهزَم مع أَصحابِه، أو يَلقَى العَدُو وَحُده، وحينها إمّا أن يُقتَل وإمّا أن يَنتَصِر!  فيقول الله -عَزَّو جَل-: ((انظُروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسِه)) فَيَضْحَك الله -جَلّ جَلالُه- له

وهذا الثّبات عزيز، وليس بالأَمر الرخيص الهين، فالثّبات على المَبادئ حين ينكشف كل الناس، وحين لا تجد مَن يشجعك، – نقول عنه مجازًا- في أرض معركة يقاتل وحده.

الثاني: ( رجل كان له امرأة حسناء وفراش لين حسن). هنا يظهر توفر سبل الراحة والنعيم لهذا الرجل، ورغم أنه كان يستطيع أن ينام تلك الليلة مرتاحًا، قام يتعبد الله يصلي في جوف الليل، فيقول الله – عز وجل-  من فوق سبع سماوات: (يذر شهوته فيذكرني ويناجيني ولو شاء رقد).

لنلاحظ وصف الله عز وجل ( ولو شاء )، أي أننا مخيرون في كثير من أوقاتنا بين العبادة والراحة، وهنا يكمن المحك، فالكثير منا يختار ما هو أسهل، كالجلوس أمام التلفاز، أو تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وأحيانًا نختار ما هو أمتع، كالخروج مع الأصدقاء أو اللعب أو الكثير من الاختيارات الأخرى. نريد أن نعيش هذه الدنيا فنختارها، ونختارها دائمًا.. فالإنسان الذي يختار ما عند الله – عز وجل-، ويؤثر الدنيا على الآخرة، الذي يستطيع أن ينام ولكنه يختار الوقوف للصلاة، الذي يستطيع الخروج ولكنه يختار قراءة القرآن؛ هذا الاختيار للعمل الصالح له عند الله مكان.

أما الثالث فتفرد بالطاعة. نحن نسافر الآن ممددين في الطائرات، وبعد أن نصل يكاد يغشى علينا من التعب، فكيف بأولئك الذين ساروا يومًا وليلة فما مست جنوبهم الأرض، ثم توقفوا للراحة، فنام رفقته من التعب إلا هو، كانت راحته في أمر آخر، كان طوال اليوم والليلة وهو في مشاق السفر، يشتاق قلبه للعبادة، رفقته ينتظرون متى يتوقفون ليرتاحوا، وهو ينتظر متى يتوقفون ليصلي.

يقول طلاب الشيخ ابن باز رحمه الله ممن كانوا معه في هذه القصة، أنهم كانوا في طريق سفر بالسيارة، وكان قد جاوز الثمانين من عمره، وعندما تمكن منهم التعب توقفوا في مكان ما على الطريق ليناموا فيه، فطلب منهم الشيخ أن يدلوه على القبلة، ويجهزوا له وضوءه، ثم استلقوا كلهم على الأرض ومعهم الشيخ. يقول راوي القصة: من شدة التعب بمجرد ما استلقى غط في النوم، ولم يستيقظ إلا على صوت الشيخ وهو يوقظهم لصلاة الفجر، فيقول أصحابه بأن الشيخ لم ينم أصلاً؛ بل انتظر حتى هدأت أصواتهم، وغطوا في النوم، فعزل نفسه عنهم، وبدأ يصلي، واستمر حتى صلاة الفجر. هذا وهو أعمى وقد جاوز الثمانين من عمره. فلا نتعذر بأن أمثال هؤلاء الرجال هم من قصص الأولين فقط.

عندما نتكلم عن هؤلاء الناس الذين أشواقهم إلى مناجاة الله – عز وجل- مثل أشواقنا نحن للنوم والراحة، يقول الله – عز وجل- عنهم: (فقام يتملقني ويتلوا آياتي)

[أخرجه الترمذي، قال الألباني: ضعيف].

 بالتأكيد أن أي عمل يعمله الإنسان في حين غفلة، هو عمل من أعمال التميز، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (العبادة في الهرج كهجرة إلي)[أخرجه مسلم]، (عبادة في الهرج) أي عندما يكون كل الناس منشغلين بحدث حاصل بينهم، أو بأمر من أمور الدنيا، كغلاء الأسعار، أو السياسة، أو كمن يسهر على شبكات التواصل الاجتماعي يراقب جدلًا في أحد المواضيع. فعندما ينشغل كل الناس بهذا وذاك، تجد المميزين فقط من العباد من ينشغل بعبادة الله – عز وجل-

 [ 4 ]

((شَهدتُ عليًّا رضِيَ اللَّهُ عنهُ وأُتِيَ بدابَّةٍ ليَرْكبَها فلمَّا وضعَ رِجلَه في الرِّكابِ قالَ بسمِ اللَّهِ فلمَّا استوى على ظَهرِها قالَ الحمدُ للَّه ثمَّ قالَ {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبونَ} ثمَّ قالَ الحمدُ للَّهِ – ثلاثَ مرَّاتٍ – ثمَّ قالَ اللَّهُ أَكبرُ – ثلاثَ مرَّاتٍ – ثمَّ قالَ: سبحانَك إنِّي ظلمتُ نفسِي فاغفِر لي فإنَّهُ لا يغفِرُ الذُّنوبَ إلَّا أنتَ ثمَّ ضحِك فقيلَ يا أميرَ المؤمنينَ من أيِّ شيءٍ ضحِكتَ قالَ رأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فعلَ كما فعَلتُ ثمَّ ضحِك فقلتُ يا رسولَ اللَّهِ من أيِّ شيءٍ ضحِكتَ قالَ إنَّ ربَّكَ يعجَبُ من عبدِه إذا قالَ اغفِر لي ذنوبي يعلَمُ أنَّهُ لا يغفرُ الذُّنوبَ غيري.[صححه الألباني في صحيح أبو داوود]

هذا الدعاء البسيط الذي يقال عند ركوب السيارة أو الطائرة، يعجب الله – عز وجل- من هذا العبد وله عند الله مقام عالي.

[ 5 ]

يقول النبي – صلى الله عليه وسلم- : (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها)[أخرجه مسلم]. مجرد حمد الله – عز وجل- على الطعام والشراب، ينال به العبد رضا الله، فيا لهذا الثواب العظيم على هذا العمل اليسير.

[ 6 ]

      الحديث الأخير ونختم به حديثنا: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى ليعجب من الشابّ ليست له صبوة)

[الجامع الصغير، حديث صحيح]

ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله (وشاب نشأ في عبادة ربه)

[أخرجه البخاري]

إن اختيارنا لله في زمن الشباب مهم جدًا، فالناس تغتر بصحتها وقوتها، وتعجبها الدنيا، ولكن هذا الشاب يترفع عن الذنب، ويرى النفس بحاجة إلى المجاهدة، لا تغره قوته، وقدرته على المعصية، بل يظل على صراط الله المستقيم الذي عاهد الله عليه، ولا يشترط موته شابًا فقد يموت معمرًا؛ لكن القضية هي اختيار الله في وقت مبكر يختار فيه أغلب الناس الدنيا، ولذلك يأتي يوم القيامة، فيظله الله يوم لا ظل إلا ظله.

كل هؤلاء الذين اطلع الله عليهم فضحك منهم سبحانه، ما كانوا يعرفون قدر أعمالهم عند الله؛ من قام من فراشه في ليلة باردة، أو الذي انشغل أصحابه بالسفر، كلهم كانوا يعيشون حياة عادية، لكن الله – عز وجل – نظر إلى أعمالهم هذه النظرة.

في كل مرة ترى فيها خيار الدنيا أمامك، تذكر هؤلاء الذين اختاروا الله رغم كل شيء. اختاروا الله لأنه فوق كل شيء، وعالم بكل شيء. اختاروا الله لأنه لا يخيب الظنون، ولا يرد الدعاء، اختاروا الله لأن الدنيا زائلة، ولأن الآخرة خالدة، اختاروا الله لأنه قريب منهم، فكانوا قريبين منه، ودخلوا جنته بغير حساب، ودخلوا جنته بغير عقاب.

      هذا والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


* تنويه: مادة المحاضرة جُمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.