بتاريخ ٢٠ / ٨ / ١٤٤١ هـ
لسماع المحاضرة صوتًا
( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط)
الملخص:
عن جابر رضي الله عنه قال: “غَزَوْنَا مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غَزْوَةَ نَجْدٍ، فَلَمَّا أدْرَكَتْهُ القَائِلَةُ، وهو في وادٍ كَثِيرِ العِضَاهِ، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ واسْتَظَلَّ بهَا وعَلَّقَ سَيْفَهُ، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ في الشَّجَرِ يَسْتَظِلُّونَ، وبيْنَا نَحْنُ كَذلكَ إذْ دَعَانَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَجِئْنَا، فَإِذَا أعْرَابِيٌّ قَاعِدٌ بيْنَ يَدَيْهِ، فَقالَ: إنَّ هذا أتَانِي وأَنَا نَائِمٌ، فَاخْتَرَطَ سَيْفِي، فَاسْتَيْقَظْتُ وهو قَائِمٌ علَى رَأْسِي، مُخْتَرِطٌ صَلْتًا، قالَ: مَن يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلتُ: اللَّهُ، فَشَامَهُ ثُمَّ قَعَدَ، فَهو هذا قالَ: ولَمْ يُعَاقِبْهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.”
(صحيح البخاري)
تخيلوا هذا الموقف والنبي يفتح عينه ويرى الذي فوقه وبيده السيف مصلتاً على رأس النبي ﷺ والصحابة رضوان الله عليهم متفرقون عنه ﷺ ، ولم يلتفت عليه الصلاة والسلام يطلب النجدة أو الإنقاذ وعلى رقبته سيف بل أجاب بكل ثقة وبكل هدوء وهو ينظر في عين الرجل وقال له: الله. كلمة واحدة فقط.. فسقط السيف من يد الأعرابي!
ثقة النبي عليه الصلاة والسلام واطمئنانه بأن الله سيكفيه، لا يكفيه فقط من همٍّ معنوي أو حسي وإنما قد يكون خطر حقيقي كالرجل الذي سلّ السيف على رقبته فقال له من يمنعك مني فقال: الله.
يقول تعالى: ((أليس الله بكافٍ عبده ويخوفونك بالذين من دونه))
سبب نزول الآية:
قال قتادة: قال لي رجل: “قالوا للنبي ﷺ لتكفنّ عن شتم آلهتنا أو لنأمرنّها فلتخبلنك فنزلت (ويخوفونك بالذين من دونه)”
يعني يا محمد كف عن شتم آلهتنا, والنبي ﷺ لم يشتم آلهتهم وإنما فقط قال قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، لكنهم رأوا دعوته لهم استصغاراً لأصنامهم، أو سنأمر نحن هذه الأصنام وما حولها من جن وغيرها فترمي بالخبل والجنون عليك، فنزلت الآية.
حديثنا اليوم عن اسم الله الكافي:
الاسم هذا لم يرد في القرآن إلا مضافًا وهو في هذه الآية: (أليس الله بكافٍ عبده)
ماذا تعني أن يكفي الله عبده؟
كفاية الله عز وجل تأتي بمعنيين:
– كفاية عامة: للعباد وهي تسع المؤمن والكافر، أي أنه يرزقهم ويحفظهم ويصلح لهم شؤونهم؛ وهذا من ربوبية الله العامة على جميع عباده، لأن الله هو الخالق وهو الرزاق لجميع المخلوقات.
– كفاية خاصة: كفايته للمتوكلين عليه والمنيبين إليه، المطيعين، المستعينين به، فيكفيهم الله عز وجل بذلك
هؤلاء حينما لجأوا إلى الله عز وجل وتوكلوا عليه في شؤونهم جزاهم الله بالكفاية (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) أي: كافيه أموره الدينية والدنيوية.
وهذا هو المقام الذي يعنينا والذي نريد أن نصل إليه من خلال اسم الله الكافي
كفايات الله لعباده المؤمنين:
كفايات الله لعباده تأتي في مواطن لم يكن يتخيلها المسلمون.
قال الله عزوجل للمؤمنين في بدر: (بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) في لحظة كانوا يخافون فيها من المشركين الأكثر عدد وعدة، كانوا يخافون من هذه المعارك الغير متكافئة في بدر، في أحد، وفي غيرها من المعارك يقول الله عز وجل هذه الآية، فلله جنود السماوات والأرض, ففي تلك المواطن التي كان يلجأ فيها المسلمون كان الله ينزل لهم كفايته.
يستلزم أن نعرف أيضًا أن العبد بنفسه ووحده لا غنى له عن ربه طرفة عين.
فمن أوائل الأذكار التي يستفتح المؤمن يومه بها
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا خرج الرجلُ من بيتِهِ فقال : بِسْمِ اللهِ، توكلتُ على اللهِ، لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ . قال : يُقالُ حِينَئِذٍ : هُدِيتَ وكُفِيتَ ووُقِيتَ، فتَتَنَحَّى له الشياطينُ، فيقولُ شيطانٌ آخَرُ : كيف لك برجلٍ قد هُدِيَ وكُفِيَ ووُقِيَ ؟)
صححه الألباني
بسم الله
البسملة لها ثلاث معانٍ: الاستعانة بالله ، وتتبرك باسم الله ،وأنك تستصحب معية الله لك في هذا الأمر
توكلت على الله : التوكل هو قرين اليقين
لا حول ولا قوة إلا بالله : أن تتبرأ من حولك وقوتك, فلا تحوّل لحال المؤمن ولا قوة إلا بقوته ففيها كمال التفويض والاستعانة على الله.
فالرابط بين الثلاث جمل أنها اجتمعت على طلب الاستعانة وطلب المدد من ذي المدد.
الكافي الذي يقيم أمرك على أكمل وجه لذلك في اللغة العربية حين يمتلئ الكوب يقال يكفي اي أنك وصلت حد الامتلاء.
فحين تقرأ (أليس الله بكافٍ عبده)
ليست القضية أن الله يقضي لك ما تريد وإنما الله سيكفيك إياها ابتداءً قبل أن تطلب وفوق ما تطلب.
حاجات الإنسان الأساسية
ذكر علماء النفس أن الإنسان بحاجة لخمسة أمور أساسية:
حاجة الإيمان:
يذكر ابن القيم -رحمه الله- قبل أكثر من ألف سنة أن حاجة الإنسان للإيمان أعظم من حاجته إلى طعامه وشرابه، فإنه إن تأخر طعامه و شرابه عطب جسده وحياته، وأقصاها أن يموت الإنسان وأما حاجته إلى الإيمان والتوحيد فإن فيه خسارة روحه وفساد دنياه وآخرته، فتخسر الدنيا! وتخسر الآخرة!
~ لنا حاجات تتراوح بين هذه الأقسام كلها، بين الحاجات الإيمانية، الحيوية، نفسية ..الله الكافي سيكفيك كل ما أهمك.. كل حاجاتك
كيف يكفيك الله؟
الإنسان مطالب بأن يبذل السبب حتى يبطل السبب!
بالدعاء، والمحافظة عليه، وأن تعلم يقينًا بأن الله سيكفيك.
فالكافي قد يكفيك أمرك من باب مغلق ؛ لم تكن تتوقع في يوم من الأيام أنه سيفتح. وعينك ما جاءت أصلًا في ذلك الاتجاه، فأنت تمشي بخططك وجداولك وتذهب في اتجاه ليس فيه نفع لك في الدنيا والآخرة؛ فلم يعطيك الله عزوجل حاجتك من خلال السبب الذي أنت بذلت السبب فيه، وإنما الله هيأ لك سببًا آخر لم تكن تتوقع أن الله سيرزقك إياه.
هذه ثمرة التوكل على الله.
لا تتعامل بالتجربة!
من المهم أن لا تتعامل مع الله على سبيل التجربة!
هل الله سيرزقني أم لا ؟ هل سيعطيني أم لا ؟
تعامل مع الله باليقين؛ فأنت تدعو الله وتتضرع إليه وفي نفس الوقت تبذل السبب وأنت متوكل تمام التوكل على الله.
فلا تكشف ضعفك إلا لله عزوجل، فالذي تعلن حاجتك له هو الله فقط، لا تعلنها لأحد، فالمشكلة حينما تظهر احتياجك وضعفك لغير الله!
فمتى ما كشفت احتياجاتك وأنزلتها عند البشر وتطلب منهم المعونة في غير ما يقدرون عليه، وتكشف لهم نقاط ضعفك، عندها لا تسأل عن مدى الخسارة التي ستخسرها.
هنا قد تتحول إلى إنسان لاهث، فبدلاً من أن يكون شخصاً يجد راحته في فتح المصحف ويقرأ سورة البقرة أو أن يصلي ركعتين أو حبة من طبيب نفسي، إلى إنسان يبحث عن معالجة روحه بوسائل محرمة!
من المهم أن تعرف أن الدنيا جبلت على النقصان، وأن ما يكف الإنسان من حاجة قد يكون ظمآن من الجهة الأخرى
فالدنيا بالأصل جبلت على كدر وجبلت على نقص .
من المهم أن تعرف أن المستكفي بالكافي لن يذل من نقطة ضعفه ولن يكون ظمآن لأنه يملك التعويض ولأن الله يعوضه بأمور أخرى، التعويض قد يكون أن الله يشغلك عن زوايا ضعفك من فقر أو غيره!
فالدنيا جُبلت على نقص، النبي وهو رسول الله كان ينام على حصير ولكنه كان مكفياً في دنياه وآخرته.
كيف تجد التوازن؟
الذي يعيش -في هذا كله-بميزان شبه متوازن؟ هو الإنسان الذي يعبد الله باسمه الكافي والذي يعلم أنه لن يكفيه حاجاته إلا الله عز وجل فهو مستكفي فعليا بالله ويعلم أن الله سيدبرها له وليست بتدبير البشر
ميزة هذا الإنسان أنه ينظر إلى الدنيا بعين مليئة، فالدنيا موجودة في يده لا في قلبه لا يتنافس مع منافسات الناس في دنياهم ولا تستهلكه هذه الدنيا لأنه يعلم أن الحاجات الحقيقية والمهمة ليست هنا فقط.
كفاية الله لك أفضل من تدبيرك لنفسك
نعلم أننا ضعفاء دون الله عز وجل، وأن الأمور لا تجري وفقا لما نخطط وما نوازن وإنما لابد من الاستعانة بالله عز وجل
ولذلك يقول الله عز وجل (ونيسره لليسرى) أي أن حياته طول الوقت ميسرة، بينما غيره حياته معسرة فالله ييسره للعسر فتكون حياته كدر تلو كدر وعسر يتلوه عسر والدنيا معاكسة له.
فالواجب على المسلم إذا مرت به تلك المنعطفات أن يقف مع نفسه ويسأل نفسه: هل أنا متبع للطريق الصحيح، على ماذا أقدمت، هل عصيت الله في أمر؟ هل في حياتي مالا يرضيك يا رب؟
إذا وصل العبد لهذا الطريق الكدر ولم يتوقف ليسأل نفسه، فهو هنا لم يفهم سر الحياة وسر الاستعانة بالله عز وجل
لذلك حين قال العلماء في تفسير آية (أليس الله بكاف عبده) قالوا:
كلما ازدادت عبودية العبد، كلما ازدادت كفاية الرب.
فكلما عرفت الله أكثر، وكلما تغير جدول يومك بزيادة في السنن والتسبيحات والصدقات، كلما زادت كفاية الرب لك، فالله يملِؤك ويشبعك بنعمه ويكفيك في همومك الحسية أو المعنوية.
ولذلك قيل: من قرت عينه بالله، قرت به كل عين .
يكفى همه ويغفر ذنبه
قال أبيُّ بنُ كعبٍ : “قلْتُ يا رسولَ اللهِ إِنَّي أُكْثِرُ الصلاةَ عليْكَ فكم أجعَلُ لكَ من صلاتِي فقال ما شِئْتَ قال قلتُ الربعَ قال ما شئْتَ فإِنْ زدتَّ فهو خيرٌ لكَ قلتُ النصفَ قال ما شئتَ فإِنْ زدتَّ فهو خيرٌ لكَ قال قلْتُ فالثلثينِ قال ما شئْتَ فإِنْ زدتَّ فهو خيرٌ لكَ قلتُ أجعلُ لكَ صلاتي كلَّها قال : إذًا تُكْفَى همَّكَ ويغفرْ لكَ ذنبُكَ “.
(قال الألباني: حسن صحيح)
فمجرد الصلاة عليه وهي عبادة واحدة لها هذا الوضع من كفاية الهم ومغفرة الذنب!
الشيطان يعد الفقر.. والله يكفيك
يقول الله عز وجل (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم)
فيقول لك الشيطان: أنت في ضيق والفقر بين عينيك ولا تملك شيء ويُزيّن لك الشيطان طريق الحرام ويعدك بالفقر وأما الله فيعدك بمغفرة منه ولن يجيب ما تريد فقط وإنما الله يعطيك ويتفضل عليك بأكثر مما أردت.
لاحظوا الاسمين في نهاية الآية: والله واسع عليم، عطاءات الله واسعة فوق ما تتخيل.
فالإنسان الذي يتعبد ربه بمثل هذا الاسم لا يمكن أن يشعر بلحظة من اللحظات بالفقر أو يشعر بأنه محتاج أو رزق الله ضيق عليه، لا يمكن.
كفانا وآوانا
لذلك مثلما بدأنا بدعوة النبي عليه الصلاة والسلام في دعائه حين الخروج فانظروا كيف كان يختم يومه: “كانَ إذَا أَوَى إلى فِرَاشِهِ، قالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا، وَكَفَانَا وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لا كَافِيَ له وَلَا مُؤْوِيَ.”
(صحيح مسلم)
عندما تقول هذا الذكر وأنت في فراشك وفي أمن واطمئنان، تذكر من الناس من هم في هذا الوقت لا يملكون ما تملك.
كفاه مؤونة الناس
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: ” منِ التمسَ رضا اللَّهِ بسَخطِ النَّاسِ كفاهُ اللَّهُ مؤنةَ النَّاسِ ، ومنِ التمسَ رضا النَّاسِ بسخطِ اللَّهِ وَكلَهُ اللَّهُ إلى النَّاسِ ”
(صححه الألباني)
قال ابن القيم في تعليقه على هذا الحديث: من اشتغل بالله عن نفسه كفاه الله مؤونة نفسه ومن اشتغل بالله عن الناس كفاه الله مؤونة الناس والعكس من اشتغل بنفسه عن الله وكله الله إلى نفسه ومن اشتغل بالناس عن الله وكله الله إليهم.
عندما تعيش باسم الله الكافي
وعندما تعرف حديث النبي عليه الصلاة والسلام: ” وَمَنِ استكْفَى كفَاهُ اللهُ ”
(صححه الألباني)
تعرف عندها أنه لا يمكن لأي قوة في الأرض أن تكفيك همك ولا أن تكفي ما تريد، إلا الله عز وجل.
حتى الدَّيـن، لما جاء رجل إلى علي رضي الله عنه يطلب منه أن يساعده في دين عليه، فقال له علي رضي الله عنه: “ألا أعلِّمُكَ كلِماتٍ علَّمَنيهنَّ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ لو كانَ عَليكَ مثلُ جَبلِ صيرٍ دينًا أدَّاهُ اللَّهُ عَنكَ ، قالَ : قُل : اللَّهمَّ اكفني بِحلالِكَ عن حرامِكَ ، وأغنِني بِفَضلِكَ عَمن سواكَ”
(حسنه الألباني)
كيف بعبد يدعو الله عزوجل وهو يعلم يقينا أنه يسمعه ويراه؟ كيف ستكون حينها كفاية الله لك؟ وكيف سيجيب الله دعاءك؟ لاشك أنه سيكون مختلف ، ولا شك أنه كلما ازداد الإنسان عبودية كلما ازدادت كفاية الله له ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك ، واجعلنا ممن يكتفي بك ، وممن يجعل حاجته إليك.
نسأل الله أن يبلغني وإياكم رمضان وهو راض عنا وأن يبلغنا فيه توفيقه وتسنيده وأن يجعلنا في أول المعتوقين من النار في أول ليلة .
* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.
جزيتم خيرا وكفاكم الله💜