بتاريخ ٢٩/ ٢/ ١٤٤٦ هـ
لسماع المحاضرة صوتًا
( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )
هذا هو الجزء الثاني من حديثنا عن الآية الكريمة قال تعالى: “وَتَحۡسَبُونَهُۥ هَیّنًا“ سورة النور آية ١٥.
من خلال هذا الدرس نريد أن نعرّج على كثير من الأمور التي اعتادها الناس في حياتهم اليومية ويحسبونها هيّنة،
يظنونها شيء من الصغائر أو من الذنوب التي سيعفو الله عز وجل عنها، وكل الذنوب تحت المشيئة ما خلا الشرك.
لكن القضية هي أن أيًّا من هذه الذنوب التي تعايشت معها قد تتحول إلى كبيرة دون أن تشعر!
في القاعدة الشرعية يقول العلماء: لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار. أي ذنب تتوب منه إلى الله عز وجل مهما كان كبيرًا فإن الله يغفره،
لو كان زنا ولو كان قتل، ويقبل الله سبحانه التوبة من الصادق بتوبته، بل إن الله يحب التوابين،
وليست القضية أنها صغيرة بل القضية إصرارك عليها يوميًا، يوميًا تجترئ على الله عزوجل وتفعلها، متعايش مع هذا الذنب.
ولذلك نريد من خلال هذا الدرس أن نعرف ما هي هذه الذنوب التي تعايشنا معها.
أولاً: الذنوب القلبية:
1-الحسد، فهي أعمال في القلب يجب أن ننتبه لها لأنها قد تكون من الأمور التي اعتدنا عليها، وهي ليست بشيء عادي عند الله عزوجل.
2-اليأس والقنوط، وهذه ليست مشاعر عادية، فكونك تيأس أو تقنط من رحمة الله عز وجل هذا ذنب. بل بعض العلماء يعتبرها كبيرة من الكبائر.
نماذج من اليأس في حياتنا اليومية: اليأس قد يأتيك من نفسك، فأنت يائس من أن الله سيرحمك من نفسك أو أن الله سيمدك بالقوة على تترك هذا الذنب، أو أنك تفعل هذه الطاعة.
اليأس من هداية شخص آخر مثًلا أنت ترجو له الهداية، وطال دعاؤك له ثم توقفت،
فأنت في هذه اللحظة خامرك اليأس وشعرت أن من تدعو له لن تصيبه الهداية و قد يموت على سوء خاتمة و العياذ بالله .
قيل أن من سوء الأدب مع الله أن تيأس، أن تيأس من تفريج كرب معيّن، تيأس من شفاء أحد معيّن، أي شيء في حياتك استطلت فيه البلاء ثم يئست.
يقول الله عز وجل في سورة يوسف ما قاله يعقوب عليه السلام، قال تعالى: “یَـٰبَنِیَّ ٱذۡهَبُوا۟ فَتَحَسَّسُوا۟ مِن یُوسُفَ وَأَخِیهِ وَلَا تَا۟یۡـَٔسُوا۟ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا یَا۟یۡـَٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ“سورة يوسف، آية ٧٨.
فمعناه أن من علامات الكفار وأهل الضلال أنهم ييأسون من رحمة الله، ولذلك مباشرة ينتحرون، مباشرة يتناولون مضادات اكتئاب،
مباشرة يحتوشه الحزن من كل لحظة لأنه لا يمكن أن يرى أن هناك بارقة نور!
حينما نتأمل قصة النبي يعقوب عليه السلام، فقد شدد البلاء عليه قبل أن يأتي الفرج،
مع ذلك ظل ملتمسًا رحمة الله عز وجل ولم ييأس ولم يقنط، وفي الآية الأخرى يقول الله عز وجل:” قَالَ وَمَن یَقۡنَطُ مِن رَّحۡمَةِ رَبِّهِۦۤ إِلَّا ٱلضَّاۤلُّونَ“سورة الحجر، آية ٥٦.
في الأثر عن ابن مسعود يقول: أكبر الكبائر، الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله.
يقول الشيخ السعدي أن الله سبحانه يخبر عن طبيعة الإنسان بأنه جاهل ظالم، وأن الله إذا أذاقه منه رحمة كالرزق والولد والصحة ونحو ذلك ثم نزعها منه فإنه يستسلم لليأس،
وهذا اليأس ليس من صفات المؤمنين يقول الله عز وجل: ”وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَیِّئَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَیۡدِیهِمۡ إِذَا هُمۡ یَقۡنَطُونَ“ سورة الروم، آية ٣٦.
إنسان هش عند المصيبة
احذر أن تكون إنسان هشّ للمصيبة، هشّ للبلاء، لا تملك القوّة أو الجَلَد في التحمّل.. لابد أن نراجع أنفسنا أكثر من مرّة من أين يدخل لنا هذا اليأس؟
هذا اليأس ذنب، لأن فيه تكذيب لله ورسوله، قال القرطبي: اليأس من رحمة الله فيه تكذيب للقرآن، لماذا؟
لأن الله عز وجل يقول: ((وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء ٍ)) غافر (7) فمن رحمته وسعت كل شيء أيعقل أن لا تشملك رحمته؟!
ولذلك من أعظم العبادات في يومنا هذا هو إحسان الظن بالله.. تحسن الظن بالله أن لا شيء على الله مستحيل.
وكيف تقنط ولك رب عزيز قدير مقتدر يكشف كربك في لحظة!
فكلما ارتفعت عن قضية اليأس والقنوط كلما كان الفرج إليك أقرب، وكلما كنا لليأس أقرب فإن ذلك فيه سوء أدب مع الله عز وجل،
وأيضا هذا اليأس هو سبب في الوقوع في الهلاك. يقول عبيدة السلماني في تفسير قول الله عز وجل: ((ِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) [البقرة:195] قال التهلكة: القنوط.
فقد يكون الفرج قريب منك ولحظات السرور التي تنتظرها قريبة جدا لكنها لحظة بعد هذا الاختبار.
3-أن لا تحب الله سبحانه:
ممكن أي شخص نسأله أتحب الله؟ فتكون الإجابة بالتأكيد نعم لا شك في ذلك! لكن لو سألته اذكر لي موقف خلال هذا الأسبوع آثرت الله على هواك؟
فحقيقة الحب الإيثار، وحقيقة الحب التضحية، حقيقة الحب كما هو مشهد أبو بكر رضي الله عنه حينما كان مسافرًا مع النبي ﷺ
وفيه من الظمأ ومن التعب ما في النبي ﷺ، يقول أبو بكر رضي الله عنه: لَمَّا خَرَجْنَا مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ مِن مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ مَرَرْنَا برَاعٍ،
وَقَدْ عَطِشَ رَسولُ اللهِ ﷺ، قالَ: فَحَلَبْتُ له كُثْبَةً مِن لَبَنٍ، فأتَيْتُهُ بهَا فَشَرِبَ حتَّى رَضِيتُ. المصدر: صحيح مسلم
كلاهما على دابّتيهما وكلاهما في طريق حار والشمس فوقهم، فلما نام النبي ﷺ ذهب أبو بكر رضي الله عنه يحلب من الشاة،
فأخذ لبنها وقام بتبريده وظل ممسكاً به طوال الوقت، لم يشربه ولم ينم رغم ألم التعب والعطش،
فلما قام النبي ﷺ أعطاه أبو بكر رضي الله عنه اللبن، فشرب النبي ﷺ، فقال له أبو بكر اشرب يا رسول الله، فشرب النبي ﷺ،
فيقول أبو بكر فشرب رسول الله ﷺ حتى ارتويت. من شرب؟ رسول الله ﷺ، من ارتوى؟ أبو بكر رضي الله عنه، وهو الذي لم يذق شربة من هذا اللبن، لكن هذا حقيقة الحب.
ثانيًا: الذنوب الحسية:
1-أذية الناس بالكلام، وهذا الإيذاء وزنه عظيم عند الله وهو ليس بالهين.
لا تستهين بذنب لسانك، ولذلك لما قال رجلٌ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فُلانةَ يُذكَرُ مِن كَثرةِ صَلاتِها وصَدقَتِها وصيامِها،
غيرَ أنَّها تُؤذي جيرانَها بِلِسانِها؟ قال: هيَ في النَّارِ. خلاصة حكم المحدث: صحيح
وهذا أمر موجع! تفعل كل هذه الطاعات لكن لم تمسك لسانها، وآذت الناس بكلامها فانحطّت أعمالها الصالحة بسبب الايذاء المتعدي، فقال النبي ﷺ هي في النار.
2-ترويع المسلم للمسلم: هناك جيل كامل له قنوات على يوتيوب وغيرها يقومون بتصوير مقاطع مضحكة (مقالب)
فيها ترويع للآخرين من أجل رفع نسبة المشاهدات، وهذا أمر حذر منه النبي ﷺ (لا يحلُّ لمسلمٍ أن يروِّعَ مسلمًا). المصدر: صحيح أبي داود
3-لا يتناجى اثنان دون الآخر وهذه توصية فيها مراعاة لمشاعر الإنسان وعدم حزنه، يقول النبي ﷺ: (إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجى اثنان دونَ الثالثِ إلا بإذنِه فإنَّ ذلك يُحزنُه) صحيح أخرجه أحمد
ولننظر إلى عكس هذا الفعل، الناس التي مثل البلسم يمشون بين الناس ويزيلون الأذى ويصلحون القلوب وإذا رأوا بين اثنين شحناء أصلحوا بينهم،
فما لهم عند الله من الأجر والثواب؟ يقول النبي ﷺ: «لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ، فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ »[أخرجه مسلم ، صحيح ]
4-التهاون في الستر و العفة وهذه خاصة بالنساء، ربّى النبي ﷺ زوجاته وبناته ونساء المؤمنين على الحياء والستر والعفة،
وشعارنا كمسلمات بين الأديان هي هيئتك، لباسك، حجابك، وهو شعار المرأة، فحينما نقرأ عن عائشة رضي الله عنها أنها تقول
كنت أدخل بيتي و فيه قبري زوجي رسول الله ﷺ وأبي أبو بكر رضي الله عنه، فكنت أضع ثيابي ولا أحترز منهم، فلما دفن عمر رضي الله عنه فوالله ما دخلته إلا وأنا مشدودة بثيابي حياءً من عمر.
أين عمر؟ ميت تحت الأرض! هذا الحياء للأموات فكيف كان حياؤهم من الرجال الأحياء!
فاطمة رضي الله عنها كانت تتكلم مع إحدى صاحباتها فأوصتها بثلاثة وصايا:
1- لا يغسلها إلا عليّ زوجها رضي الله عنه.
2- أوصت أن تدفن ليلاً، حتى إذا حُملت على الأكتاف ووُضعت بالقبر لا تنكشف، وهذا من حيائها وسترها.
3- الوصية الثالثة حينما جائتها أسماء بنت عميس فقالت لها فاطمة إني أستقبح ما يصنع بالنساء، يطرح على المرأة الثوب فيصفها
فقالت لها أسماء: يا ابنة رسول الله ألا أريك شيئاً رأيناه بالحبشة، فقالت بلى، قالت فأخذت بجرائد رطبة فَـحَـنَـتْـها ثم طَـرَحَـتْ عليها ثوبا،
فقالت فاطمة رضي الله عنها: ما أحسن هذا إذا مت فاصنعي ذلك لي. تستعد للحظة سقط عنها التكليف، الله لن يسألها عن شيء من هذا،
لكن الذي عاش على هذا الستر وهذه العفة وستر الجسم لا يمكن أن يرضى أن ينكشف.
ما معنى تبرج ؟
ولذلك حينما يقول الله عز وجل : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَ } [سورة النور ـ 31]
من الأمور التي تعايشنا معها قضية إبداء الزينة، موضوع التبرج الآن تجاوز قضية الحجاب.
وإذا تأملنا معنى كلمة [ بروج مشيَّدة] فلنٍسأل ماذا يعني برج الفيصلية أو برج المملكة! إذن هو المعلم البارز الذي يُنظر إليه،
وحينما قال الله عز وجل: { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } [سورة الأحزاب ـ 33] أي لا ترجعون إلى ما كنتم عليه في الجاهلية الأولى في التبرج،
فتدخل المرأة مكان عام والكل ينظر لها ملتفتاً لبروزها وهذا البروز في المظهر تعايشنا معه وكأنه أمر عادي وهو أمر ليس بعادي.
تعايشنا مع الكم الهائل من السفور والتبرج، ولو نصف لكم هيئة تبرج الجاهلية الأولى؛ لباس أم لهب أو أم جهل في الجاهلية،
فهي الخمارات التي كانت تضع على الرأس وتسدل للخلف وتظهر القلادة والقيراط مع الملابس الواسعة.
فلكم أن تتخيلوا فتيات متعلمات هيئتها كهيئة أم جهل وأم لهب وهي لا تعلم، ونحن الذين نقرأ في صلاتنا: (تبت يدا أبي لهب وتب) سورة المسد – 1و ونقول بالأخير (حمالة الحطب) سورة المسد – 4
والأعجب بأن حمالة الحطب لم تتبرج بالطريقة والمستوى الذي نراه في تبرج النساء اليوم،
تمشي المرأة بعباءة تحتها بلوزة قصيرة أو ملابس رياضة وكل شي ظاهر من فوق ومن تحت! فهذا لا يمكن أن يرضي الله عز وجل ولا يرضي رسوله.
كل الفكرة أننا نعبد الله بما شرع لا بما نهوى نحن، هذا مفهوم مهم أن نتبناه.
ولا نكون كما يقول الله عز وجل:[ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ] [ سورة البقرة – 85 ]
المقصود في الآية اليهود الذين نبغضهم، فكرة دينهم قائمة على اتباع هواهم،
لكن نحن كمسلمين سلمنا هذا الأمر لله، ولذلك هذه الأمة هي الأمة الخاتمة إلى قيام الساعة.
التخفيف على القواعد من النساء: قال تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ
غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60] (فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن) هنّ العجائز اللاتي لا يُلتفَت إليهن ولا يرغب بهن لكبر سنهن وضعفهن،
هؤلاء لهم الكشف فتكشف عن وجهها وعن يديها لا بأس بذلك واستعفافها وتسترها خير لها وأفضل؛ وهذا التخفيف أصلا من أدلة غطاء الوجه.
آيات غض بصر الرجال نزلت قبل آيات الحجاب:
أمر الله عز وجل قبل آية الحجاب (قل للمؤمنين) قبل (قل للمؤمنات): (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) سورة النور – آية 30،
فغض البصر جاء للرجال ابتداءً، أن تغض البصر ولا تطيل النظر، وفي الجهة المقابلة واجب على النساء أيضا غض البصر،
قال تعالى : (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن) . سورة النور – آية 31
في الختام مهم ألا نتعايش مع فكرة أننا نساء مسلمات هيئتنا ترجع لهيئة الجاهلية الأولى،
قال تعالى :(ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) سورة الأحزاب 33، فمن ذاق النور والهداية أيعود للظلام؟ القرار لكِ!،
والأمر الآخر ألا نتعايش بشكل عام مع الأمور التي قد تكون هي من الحرام وفيها من الجرأة على الله عز وجل ونفعلها يومياً، ظناً بأنها أمر عادي وهي ليست كذلك البتة.
أسال الله أن يحبب لنا هذا الدين ويزيّنه في قلوبنا ويكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان.
هذا والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.