بتاريخ ١٨ / ٥ / ١٤٤١ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط)


الملخص:

في كل مرحلة يظل لدى الإنسان هاجس

ماذا أفعل في حياتي؟ وما هو الشيء المهم الذي يجب ألَّا يتصرم العمر قبل أن أفعله؟

جواب هذا السؤال حينما تقلب المصحف من البداية حتى تصل إلى أول أمر يأتي في سورة البقرة وهو أمر عليه مناط كل الحياة وهو قول الله عزّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ 

 كلمة العبادة هنا لابد أن نضع عليها ألف خط لأنها أول أمر سيصادفك وسيلتقي بعينك حينما تفتح المصحف، هذا الترتيب مهم جدًا ولذلك حينما تقلب في صفحات القرآن وفي آياته ستجد أن الله عزّ وجل يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ هذه الكلمة العامة تجيب على سؤال: ما هدف الحياة؟ لمَ الله خلق الإنسان؟ لمَ خلق الجن؟ لمَ خلق الله الكائنات الحية؟ لمَ خلق الله الجنة والنار؟

الآية هذه ببساطة تضيف لك هذا المعنى أن الله لم يخلق الجن والإنس إلا ليعبدوه ولتتحقق العبودية.

عندما نأتي لهذا المعنى نتخيل أن هذا معنى بسيط وفطري وواضح للجميع، فالأكيد أننا عباد لله سبحانه، لكن هل بعمرك حملت الهمّ في كيف تحقق بالفعل هذه العبودية؟ كيف من الممكن أن تكون عبدًا يثني الله عزّ وجل عليه في الملأ الأعلى؟ العبد الذي يعيش حياة مباركة؟ الذي يعيش حياة عريضة وليست حياة طويلة؟

أركان العبودية

العبودية لا تتأتى إلا بثلاثة أركان وهذه الأركان الثلاث هي:

الحب والخوف والرجاء 

فلو تخلف واحد منها لم يكن ذلك تعبُّدًا، فلو عبدت الله خائف من النار طوال الوقت لكن ليس عندك مشاعر الرجاء ولا تشعر بالحب لله عز وجل، فهذه ليست عبودية، لذلك نحن نخشى من الأسد ونهرب منه لكن هل نحبه؟ هل نرجوه؟ لا

طيب أنا أحب شخص معين لكن هل أستطيع أن أقول أنا أخافه أو أطيعه؟ لا

من الذي تجتمع فيه المقامات الثلاث؟

الله عز وجل

فله الحب وله الخوف وله الرجاء

الركن الأول: الحب

لا يمكن أن تطيع الله عز وجل من غير أن تحبه، ويكفي أن تعرف أن الله عز وجل هو الذي اعتنى بك ويعتني بك دائماً من قبل أن تعتني فيك أمك اصلًا!

عندما تكون نائمًا من الذي يعتني بكل أجهزتك، هناك أناس يحتاجون دائمًا إلى هذا الضخ للهواء إما بأجهزة صناعية أو غيرها، فهناك جهاز طوال الوقت يساعد على نبض قلبهم وهناك شيء يحرك الرئة طوال الوقت!

تخيلوا لو كنا نحن مسؤولون عن أنفسنا، ومسؤولون عن قلوبنا لئلا تتوقف في لحظة؟ من الذي يعتني فينا؟ ونحن من نكون أصلًا عند الله عز وجل؟  ومن الممكن أن يكون الإنسان قد نام على معصية أو على ذنب ويمكن أنه لم يصلّي ومع ذلك يعتني الله عز وجل بهذا الإنسان، إلى أن تنتهي قصة حياته ثم يحاسب حسابًا عدلًا لهذا الإنسان

فلما نأتي إلى هذا المعنى لا يمكن لهذا القلب إلا أن يحب ربه، لم نره -سبحانه- نعم، لكننا رأينا لطفه ورأينا أقداره ورأينا عنايته بنا قبل أن نراها في غيرنا.

الركن الثاني: الرجاء

الرجاء أن ترجو ما عند الله عزّ وجل وأنت تعمل الخير وهذا الرجاء قد لا تستقبله في الدنيا؛ يعني ألَا ترجو من عملك الصالح رزقًا تراه في الدنيا لكن قد يخبئه الله لك في الآخرة!

الركن الثالث: الخوف

 وهو أن لا تخاف أحدًا دون الله، فخوفك الحقيقي هو من الله عز وجل فلا تخاف من رئيس أن يقطع عنك راتبًا أو أن يقطع عنك رزقًا ولا تخاف من كلمة الحق أن تقولها، ولا تخاف أحدًا دون الله لأن أمرك بيد من؟

بيد الله عز وجل

“…، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ”([أخرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح.])

طيب.. هذه الثلاثة إذًا لا تجتمع إلا لله عزّ وجل.

ليست مشاعر قلبية فقط

العبودية ليست في القلب فقط، فالرجاء والخوف والمحبة لا يمكن أن تكون فقط مشاعر قلبية !

فيأتيك من يقول أنا أحب ربي وأنا أحب النبي عليه الصلاة والسلام وأحب الخير وأحب الإسلام لكني لا أطيع الله ولا أقوم بأي شيء من أوامر الله عز وجل، وأفعل أي أمر منهي عنه، هذا يؤدي للعن هذا يؤدي للطرد مع ذلك أقوم به!

حتى في مفاهيم البشر لا يمكن لإنسان يصدُقُك في أحواله يقول لك أنا أحبك لكن لن أقوم بأي شيء من الذي تريده، بل على العكس سأنكّد عليك وسأتمرد عليك وسأضربك وسأطعنك في ظهرك! ما هذا الحب؟

وكما أن أي إنسان يأتي ويقول: أنا متعبد لله بجوارحي، لكن قلبي أفسد قلب ولا يوجد أي مشاعر بالخوف أو الرجاء أو حتى الحياء من الله عز وجل، بماذا سينفعك مظهرك من غير أن يكون الداخل أيضًا طاهرا ونقيا؟

إذًا المعادلة من كفين، أنت كعبد مطالب أن تأتي بالاثنين قدر استطاعتك قال تعالى:

﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾

نظف قلبك الداخلي ونظف خارجك فأنت بالاثنين، وهذا الكلام مهم بأن يستحضره الإنسان طوال الوقت لأن هناك خاتمة ستحصل وهذه الخاتمة لا يعرف أي أحد متى ستكون

عبودية النبي صلى الله عليه وسلم

لننظر في حياة النبي عليه الصلاة والسلام ونرحل في عبودياته عليه الصلاة والسلام وكيف كان يتعبد ربه، أولًا:

يعرف النبي عليه الصلاة والسلام أنه صاحب المقام المحمود وأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ليست الذنوب السابقة فقط وإنما الله عزّ وجل غفر له الذنوب القادمة، فتأتي عائشة -رضي الله عنها- إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو قائم حتى تفطرت قدماه! نحن لا نستطيع أن نستوعب إلى أي درجة كان يقوم النبي عليه الصلاة والسلام إلى درجة كانت تتشقق رجله من الأسفل! فتقول عائشة -رضي الله عنها- كان يقوم فيطيل الوقوف فقالت له يا رسول الله تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر!

فيقول: «يَا عَائِشَةُ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»

([أخرجه مسلم، صحيح])

هذا شكره لربه يقف ويطيل الوقوف في صلاة الليل شكرًا فقط!

عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ»

([أخرجه مسلم، صحيح])

كانوا يعدون للنبي عليه الصلاة والسلام في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة يستغفر الله عز وجل، وهو الذي لا يجلس إلا وهو داعٍ أو يدعو أحدًا أو يتناقش مع أحد، وفوق هذا كله يطعِّم هذا باستغفار بينه وبين الله عز وجل.

عبودية الصحابة

امتدح الله عز وجل صحابة النبي عليه الصلاة والسلام قال عنهم:

﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ﴾

والسمة العلامة وهي ليست التي على الجبين المنطقة السوداء الخشنة ربّما، هذه ليست المقصودة لكن السمة في الوجه كما قال مجاهد: هو الخشوع والوقار والتواضع 

في معركة أحد كان طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يصد عن النبي عليه الصلاة والسلام كل ضربات الأسهم ولما سقط رمى طلحة بجسمه كله على النبي عليه الصلاة والسلام فجاءت الأسهم كلها على ظهره فتحول ظهره إلى مثل القنفذ، فقاموا يبحثون عن أي مكان آخر فهو الآن رمى نفسه على النبي عليه الصلاة والسلام لئلا تأتِ السهام في ظهره ولا تُصيب النبي عليه الصلاة والسلام.

يقول قيس بن حازم رأيتُ يد طلحة التي وقى بها النبي عليه الصلاة والسلام، وقد شلت.

هؤلاء إذًا كان هناك أثر لعبودياتهم لله عزّ وجل وليست القضية أنهم كانوا يسيرون حاملين تلك المعاني دون أي مشاعر قلبية.

فحينما نأتي لخشوع القلب يأتي ذكر عمر رضي الله عنه وكانوا يقولون دائمًا عمر كان في وجنتيه مثل سير النعل من بكائه، عمر بلغ مرحلة في عبودياته لله عز وجل أنه يسمع آية فقط فيسقط عليها أياما بحرارة حُمى! فقط من آية! مر رضي الله عنه وهو يعس بالمدينة فإذا قارئ يقرأ سورة الطور فلما مر بقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾

رجع عمر إلى بيته مريضًا والناس تعوده ولا يعرفون ما به، يعودونه.. ما الذي من الممكن أن يحصل فيزيائيًا إلى درجة أن ترتفع الحمى وترتفع حرارته! فهذا من خوفه وخشيته لله عز وجل فهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم كانوا صادقين في علاقتهم مع الله عز وجل.

ولذلك …السؤال هنا ماذا قدمنا نحن لله عز وجل؟

أختم بهذا الحديث والذي بودي أن تتأملوه معي

الله عز وجل يقول في هذا الحديث القدسي: (…مَن عادَى لي ولِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ.) ([أخرجه البخاري، صحيح])

فلا يوجد شيء من الممكن أن تفعله أحب إلى الله عزّ وجل من الأمر الذي افترضه الله، وفق ما يريده الله عز وجل ووفق سنة النبي محمد عليه الصلاة والسلام فليست هي برأيك الشخصي ولا هي برأي فيه ترخص فقهي! أنت الآن قمت بالفرض أي أتيت بالأساس لكن حتى تصل إلى مرحلة الحب لابد أن تبدأ في عمل أمر آخر يُميزك أنت .. وهو النوافل

ثم ما الذي سيحصل؟

(فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ)

([أخرجه البخاري، صحيح])

انظروا أين وصلت مرحلة الحب إلى أن الله عز وجل يكره أن يسيء لهذا المؤمن الذي يكره الموت.

ولذلك عندما نقول عن سعد بن معاذ أنه اهتز له عرش الرحمن! اهتزّ عرش الرحمن لأجل ذلك العبد الصالح؛ إذًا هناك علاقه تحصل بين هذا العبد وبين ربه (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)

([أخرجه البخاري، صحيح])

النوافل هذه بابها واسع جدًا، وكل واحد منا يُميز نفسه عند ربه..

ما النوافل التي تستطيع أن تقوم بها ومن الممكن أن لا يقوم بها شخص آخر؟ هناك شيء مميز في حياتك وباب من الخير مفتوح لك ليس لأحدٍ آخر، فالله هيأ لك أنت بالذات بابا ليس موجود عند غيرك.

لابد أن تبحث عن ذلك الشيء الذي يُميزك في عبودياتك لله عزّ وجل والذي يرتفع بشكل يومي والذي لا ترضى أن يؤذِّن لصلاة العصر إلا وقد ارتفع لك هذا الخير، ولا يؤذِّن لصلاة الفجر إلا وقد ارتفع لك هذا الخير لكن لا تمضي في حياتك من دون أن تقدم شيئًا في علاقتك بينك وبين الله عزّ وجل.

هذه كلها كانت مجرد إلماحة في علاقتنا مع الله عز وجل، هذه العبودية لابد أن تكون هي وظيفة العمر كله فليست في شأن دون شأن ولا في مرحلة دون مرحلة وإنما كما قال الله عز وجل:

﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾

 أسال الله أن يجعلني وإياكم من هؤلاء وأن يغفر لنا ذنوبنا وخطايانا وأن يجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاه سبحانه


* تنويه: مادة المحاضرة جُمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.