بتاريخ ١٦ / ٣ / ١٤٤٢ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )


    الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وبعد:

حديثنا اليوم عن أحد أبناء الصحابة الذين عاشوا طفولتهم في أكنافِ عهد رسول الله ﷺ

وهو الصحابي الجليل عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وعن والده- حيث عاش طفولته وشبابه في هذا العهد المبارك

وحين توفي الرسول ﷺ كان عبد الله قد بلغ اثنتين وعشرين سنة، فشب على نهج رسول الأمة ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم وشابَ عليه.

دقَّةُ نقله:

كان رضي الله عنه دقيقًا في النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يرضَ بالزيادة أو النقصان، فقد رُوِي عنه أنَّ رجلًا عطس وقال: الحمد لله وزاد عليها

(والصلاة والسلام على رسول الله)، فقال له عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وأنا أقول: (الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، لكن ما هكذا علمنا رسول الله)، نلاحظ هنا قول ابن عمر -رضي الله عنهما – (ما هكذا علمنا رسول الله)

دليل حرص على النقل الدقيق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ولسكوته، وهذا سبيل لنقاء السنة من التراكمات التي تؤدي إلى تغيير هذا الدين.

حبه امتثال: كان له السبق في امتثال الآيات واستشعارها، فحينما تأتيه آية: (لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ)

سورة آل عمران ، آية 92

استشعرها وعمل بها، فما أعجبه عبدٌ ولا دابة يركبها إلا أعتقهم لوجه الله، وقد كانت له دابة تدعى نجيبة يحبها

فلما أعجبته تنحى عنها وقال لمولاه: ” خذها وأشعرها مع البدن هدية إلى البيت العتيق”.

وفي المقابل نجد في زماننا الكثير إذا أعجب بتحفة أو قطعة ثمينة احتفظ بها وورثها أبناءه وأوصى بالمحافظة عليها.


وما يدريك! :

“جاء رجل إلى ابن عمر فقال له: “

أبقاك الله للإسلام”. فقال عبد الله بن عمر: “

وما يدريك على ماذا أغلق علي بابي؟”

وهذا من تواضعه رضي الله عنه، ونحن إذا أثنى علينا أحد، تطرق تلك الابتسامة أبواب وقلنا لو تعلم عني كذا وكذا لزدت في المدح والثناء!


وكانت ” لا ” فتياه:  

كان ابن عمر كثير ما يرد الناس –أي لا يجيبهم- فيقول: “الله أعلم أو لا علم لي به”، وحين سُئل عن مسألة

طأطأ رأسه -لم يعرف الإجابة – فقال  السائل:

يرحمك الله أجبني ، فقال ابن عمر: “نعم ولكن أتظنون أن الله ليس بسائلنا عن هذه المسألة اتركنا حتى نفهم مسألتك فإن وجدنا جوابًا وإلا فلا نعلم”.


شبَّ على اقتداءه:

“يقول نافع (وهو مولى عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما):

سمع عبد الله يومًا مزمارًا فوضع إصبعيه في أذنه ومشى بعيدًا، وقال لي: يا نافع أتسمع شيئًا؟

قلت له: لا، فرفع إصبعيه عن أذنيه وقال: فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا”. وهذا من أدلة تحريم الموسيقى.  

هو يحكي فقط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وضع إصبعيه في أذنيه ومشى بعيدًا وقال: فعل كذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.


ثباته عند الحجَّاج:  

من أعظم ما يميز عبد الله بن عمر بن الخطاب أنه متمسك بالسنة، وقد عاش إلى زمن الحجَّاج، وتصادمت بينهم المواقف، فالحجَّاج كان

أميرًا على الحجِّ وكانوا في عرفة فزالت الشمس –

والمفترض أنه أول ما تزول الشمس يدفعون إلى مزدلفة-

إلَّا أنَّ الحجَّاج في خيمته لم يتحرك إلى الآن، وأراد عبد الله بن عمر التحرك ولزم الأمير ذلك حتى يتحركون جميعهم

(وكما نعلم أن الحجاج ذاع في خبره أنه قتل كثير من التابعين وحتى الصحابة لم يسلموا منه)

فصرخ عبد الله بن عمر عند سرادق الحجَّاج –عند خيمته- وقال: أين هذا؟  فخرج له الحجَّاج فقال: نعم يا أبا عبد الرحمن،  فقال عبد الله:

الرواح إن كنت تريد أن تصيب السنة. ( ولذلك كان شديدًا على أهل البدع)


 عابدًا تقيًّا:

كان رضي الله عنه يحيي ما بين الظهر والعصر لأنه وقت غفلة مثل المغرب والعشاء فهي أوقات تحيا بها الناس

وليست كمثل وقت قيام الليل الذي ينام فيه الناس.

ويقول نافع: “كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا فاتته صلاة العشاء في جماعة أحيا بقية ليله “

فهو لا يعذر نفسه أكان سبب فواتها اتباع جنازة أو زيارة مريض بل كان يقوم الليل طلبا لمغفرة الله بأن فاتته صلاة العشاء في جماعة.


إغفاء طائر:  

يقول محمد بن زيد: كان لابن عمر مهراسٌ فيه ماء –مثل الصخرة المجوفة وفيها ماء- فيصلي ما قدر الله له ثم يصير إلى الفراش

فيغفى إغفاء الطائر ثم يقوم فيتوضأ ويصلي فيرجع إلى فراشه فيغفي إغفاء الطائر ثم يقول: فيتوضأ ويصلي

(يفعل ذلك في الليل أربع مرات.)

ويفهم من هذا الكلام مجاهدة نفسه على قيام الليل ويستشعر هذا المعنى مَنْ يقاوم النوم في صيفٍ أو شتاء يجدد وضوءه بعد كل غفوة وكأنه صراع بين نفسه ورغبته في التعبد.


تورعه وزهده:  

يقول ميمون بن مهران: دخلت على ابن عمر رضي الله عنهما فقوَّمت كل شيء في بيته من فراش أو لحاف أو بساط

أو شيء عليه فما وجدتها تعادل إلا مئة درهم!

قدم عبيد الله بن عدي –وهو مولى لابن عمر- من العراق فجاءه يسلم عليه وقال له:

أهديت إليك هدية، فقال: ماهي؟ قال: جوارش، قال: وما الجوارش؟

قال: تهضم الطعام، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: ما ملأتُ بطني طعامًا منذ أربعين سنة فما أصنع به؟!  

نسأل الله أن يعفُ عنا على هذا النعيم الذي لا نشكره ولا نعطيه حقه.


ثوبٌ من خرسان:

جاءه عمر بن محمد يومًا وقال: “رأيت عليه ثيابًا خشنة”

فقلت له: “يا أبا عبد الرحمن إني أتيتك بثوب لين مما يصنع وتقر عيناي أن أراه عليك”

فقال رضي الله عنه: أرني إياه، فلما لمسه بيده قال: “أحرير هذا؟ “

 فقلت له: “لا إنه من قطن “، فقال رضي الله عنه:

“إني أخاف أن ألبسه، وأخاف أن أكون مختالًا فخورًا، والله لا يحب كل مختال فخور”

 فالملاحظ هنا أنه لم يمنعه من أن يشتريه لنفسه لكنه خشي على نفسه من أن يدخلها شيء من الكبر والخيلاء

فالخيلاء والتكبر لا يكون في ارتداء الأفضل ولكن ما اختلطت به النفس من عجب وتفاخر في المظهر والاستعراض بها، كقول:

أنا اشتريت هذا بكذا وغيرها.

فالزهد لا يعني الظهور بمظهر رث أو غير ملائم بل هو وقاية حتى لا يدخل هذه النفس ذرة كبر وتفاخر وخيلاء.


ولن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه:  

جاءه رجل وقال له:

“يا ابن عمر يا خير الناس وابن خير الناس” فقال له ابن عمر رضي الله عنهما:

“كف ما أنا بخير الناس ولا ابن خير الناس ولكني عبد من عباد الله عز وجل أرجو الله وأخافه ولن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه

فهو لم يدفع عن نفسه بل عن نفسه وعن أبيه رضي الله عنهما.


كان شديد الاتباع لرسول الله عليه الصلاة والسلام:  

لما كانت غزوة بدر كان عمره ١٣ سنة وعُرِض على النبي عليه الصلاة والسلام ١٣ سنة فردَّه لأنه كان صغيرًا

ونحيلًا في ذلك الوقت، فلما جاء في أحد أصبح عمره ١٤ سنة فعُرِض على النبي عليه الصلاة والسلام

فردَّه وكانوا يعرضون عليه الصغار فيردهم، ثم لما جاءت غزوة الخندق أصبح عمره ١٥ سنة

عُرِض على النبي عليه الصلاة والسلام فأجاز له في القتال، وعاش عمر مراهقته مع الرسول فشبَّ في حبه وشاب عليه، فلم يزل يتتبع الخطى

التي كان يمشي عليها النبي عليه الصلاة والسلام مشيًا معنويًا وماديًا فما كان يذهب إلى المدينة ولا يذهب إلى الحج إلا

ويتلمس الأماكن نفسها التي كان يمشي فيها النبي عليه الصلاة والسلام حتى بلغ الثمانين من عمره.

وقد كانت هناك شجرة أناخ عندها النبي عليه الصلاة والسلام وقضى حاجته عندها

فما كان يمر عندها عبد الله بن عمر إلا وينيخ دابته ويقضي حاجته عندها، امتثالًا كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام رغم

أن هذه من العادات وليست من العبادات. وهي ليست من الأشياء التي نتعبد الله باتباعها لكن من حبه لنبي عليه الصلاة والسلام امتثل بها ومن ذلك قول أنس بن مالك رضي الله عنه:

“ما زلت أحب الدباء من حب النبي عليه الصلاة والسلام” فكان يتتبع القرع في الصحفة.


أنت من سمحت فقتلت!:  

كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه لا يهاب الحجَّاج، ويدافع عن السنة وذلك في مواقف كثيرة ولذلك حصل بينه

وبين الحجَّاج خصومه وكانت سببًا في استشهاده رضي الله عنه.


فكيف مات عبد الله بن عمر في نهاية حياته؟

كان لا يسمح بدخول السلاحِ في المطاف حتى سمح الحجَّاج بذلك لغايةٍ في نفسه.

وبعد كثرة الخصومات التي دارت بين عبد الله والحجَّاج فكَّر الحجَّاج بالتَّخلُّص منه دون أن يشهر

في وجهه السلاح فتنقلب عليه الفتنة بأنه قتل أحد الصحابة، فأرسل أحد جنوده للطواف وكان معه سيفًا مسمومًا ومع الزحام في الطواف

ذهب يقترب من عبد الله بن عمر ويحتك به ويحتك به حتى جرح قدمه بالسيف المسموم فسمَّ عبد الله بن عمر فمرض ومات منه، ومع ذلك جاء الحجَّاج

يعوده وكأنه لم يفعل شيئًا، وقد قال له عبد الله بن عمر:

“أنت الذي أصابني يوم أمرت بالسلاح في مكة”

وبالفعل مات عبد الله بن عمر شهيدًا وعمره ٨٦ سنة.


قالوا من بعده:

قال عبد الله بن مسعود: “أملك شباب قريش لنفسه عن الدنيا ابن عمر رضي الله عنهما”. فهذا صحابي شهادته في صحابي.

وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: “مات ابن عمر رضي الله عنهما يوم مات وما من الدنيا أحد أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منه”.

قال طاووس بن كيسان رحمه الله: “ما رأيت رجلًا أورع من ابن عمر، ولا رأيت رجلًا أعلم من ابن عباس”.

وهذه مجرد لمحات من سيرة هذا الصحابي الذي عانق شبابه

عهد محمد صلى الله عليه وسلم وعاش بعد زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابتًا على

ما شبَّ فيه من حبٍّ لنبيه ودينه وإتباع سنته، مكث ثابتًا رغم التقلُّبات والفتن

التي ظهرت على هذه الأمة من طوائف متشعبة وهو يحارب هذه البدع بثباته وإعلانه للحق يعَقبُ قول بـ:  

(ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم )

إلى أن كان ثباته سبب استشهاده رضي الله عنه، فهو لم يكن من الصحابة فقط بل كان صحابي

وابن صحابي، ونتعلم من هذا كله أن يثبت الإنسان على المنبع الصافي، وأن يتمسك بالسنة، وأن يحرص

ما استطاع على ذلك سبيلًا، وأن يتلمس المنبع الصافي لا يزيد عليه ولا تطرف فيه ولا يغلوا فيه ولا يتخلى عنه، هذا التمسك

هو الذي أخبرنا عنه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ»

[أخرجه مالك في الموطأ، وقال الألباني: صحيح]

وقال في رواية أخرى، قال: «…، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، …»

[أخرجه ابن ماجه في سننه، وقال الألباني: صحيح]

أي عضو عليها بالنواجذ بشرعة الإسلام، إذًا هذا الثبات هو الأهم لأنه

لا يثبت الناس إلا بثبات الواحد، ونحن في زمن نحتاج فيه إلى هذا الثبات

فإنك لا تعلم قد يثبت الله عز وجل المئات والألوف من هذه الأمه بثباتك أنت

فلا يستصغرن أحد منكم نفسه، فلا تعلم ما هو أثرك الذي يمكن أن تتركه سواء للجيل

الذي تعيش فيه أو للأجيال التي بعدك، يكفي أنك تأتي الله عز وجل بصفحة بيضاء، وأنك صدقت الله ما عاهدت عليه

لم تغير ولم تتغير ولم تبدل عن ذلك تبديلا، هذا وأسال الله أن يجعلني وإياكم من المتمسكين بشرعه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.



* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.

1 عدد التعليقات
  1. vorbelutrioperbir says:

    I’m impressed, I need to say. Really hardly ever do I encounter a weblog that’s both educative and entertaining, and let me inform you, you’ve gotten hit the nail on the head. Your concept is excellent; the issue is something that not sufficient individuals are talking intelligently about. I’m very comfortable that I stumbled across this in my search for something regarding this.

التعليقات مغلقة