بتاريخ ١٧ / ١ / ١٤٤١ هـ
لسماع المحاضرة صوتًا
( كرمًا المحاضرة خاصة بالنساء فقط)
الملخص:
حديثنا هنا عن شخصية ليست عابرة في التاريخ، بل هو علم من أعلام الأمة؛ إمام أهل السنة كانت حياته مليئة بتفاصيل المحن والابتلاء مشهورة بنتائج الثبات وقوة الإيمان.. هو
الإمام أحمد بن حنبل شيخ المحنة الذي كانت حكايات ثباته ثباتًا لكل من يتأسى وكل مُعتبِر.
ونحن حين نستعرض تفاصيل سير هؤلاء العظماء نجد لأنفسنا إلمحاتٍ لكيف أن نحتذي حذوهم ونربي أنفسنا على قوة إيمانية تجذبنا نحو الثبات.
مولده و نسبه
وُلد الإمام أحمد بن حنبل في مرو شرق العراق وأصلُ أسرته من البصرة وقد وُلد يتيمًا تكفّلت به والدته وكفته بمغزلها.
البيئة المكانية لسيرة هذا الإمام كانت في بلاد العراق تحديدًا البصرة والكوفة وبغداد التي كانت حاضرة العالم الإسلامي
و الأم التي ربت هذا الإمام الأمة يقول عنها: “حفظتني أمي القرآن وأنا ابن عشر سنين وكانت توقظني قبل صلاة الفجر وتُحمي لي ماء الوضوء في ليالي بغداد الباردة، وتُلبسني ملابسي، ثم تتخمر وتتغطى بحجابها، وتذهب معي إلى المسجد؛ لبعد بيتنا عن المسجد ولظلمة الطريق”
ظل إمامنا يذكر أمه صفية الشيبانية الصوّامة القوّامة وصنيعها وهو قد جاوز السبعين من عمره كلما تهيّأ لصلاة الفجر. فالنشأة لم تكن عادية لأن الأم لم تكن عادية كانت في نفسها قدوة صالحة له، كانت توقظ ابنها قبل الفجر ليُصليا سويًا وردهما من الليل ثم تُوقظه مرة أخرى لصلاة الفجر.
اعتنت أمه بتفاصيل حياته من مطعم وملبس وحاجيات ثم إن المتوقع لكل هذا الاهتمام بابنٍ يتيمٍ ووحيدٍ هو التمسك بقربه وحُب ملازمته لها، لكنه ما إن بلغ السادسة عشر من عمره حتى أوصته أمه بالسفر لطلب العلم قالت : يا بني اذهب فتجهّز وقد كفيتك بمغزلي و أُوصيك بتقوى الله والإخلاص في الطلب . وكأنها اعتنت به كل هذه العناية لتهيّأه لنفع المسلمين .
اجتمعت في الإمام أحمد أمور قلَّ أن تجتمع لإنسان إلا ويعلو ذكره، أولها اليُتم الذي علمه تعوّد الاعتماد على نفسه فليس له أبٌ يكفيه مؤونة الحياة، وثانيها شرف الحسب والنسب فكان من قبيلة شيبان وهي قبيلة معروفة، والأمر الثالث أنه فصيح اللسان، والأمر الرابع الفقر غير المدقع فقد عاش كفافًا لم يتعود طعامًا معينًا ولا لباسًا بعينه ، الأمران الأخيران من الصفات التي كونت شخصية هذا الإمام الفذّ؛ تقواه التي ملأت قلبه ، وما امتاز به من عقل ألمعي .
قالوا عنه :
نأتي إلى ما قيل عنه من أقرانه وعلماء زمانه، يقول إبراهيم الحربي: عشتُ مع الإمام أحمد وصحبته عشرين سنة صيفًا وشتاءً حرًّا وبردًا ليلًا ونهارًا فما لقيته في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس.
إنّ المرء في طبيعته متذبذب بين الصعود والنزول، لكن الإمام أحمد ما فتئ في علو!, ,
والعبارة الشهيرة تقول:
[ إذا لم تكن في علو فأنت في نزول ]
فعلى المرء أن يتفحص وجهته فالنفس البشرية ليس من طبيعتها أن تسكن وتثبت في مكان ما، لا بُدّ أن تتحرك هذا التحرك إن لم يكن في علو فهو في نزول والمرء لا يعرف النهاية متى تحين فينتهي سعيه فعليه أن يحرص دائمًا أن يكون في علو.
ومن صفات الإمام أحمد
أنه كان متواضعًا لين الجانب، أكثر ما يرى بشوشًا متبسمًا إلا إذا كان المساس بالدين فإنه يغضب غضبًا شديدًا، وهذا الجانب يذكرنا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كأنه يتمثل خطى هديه وسمته في كل ما يقرؤه عنه من صفات في الضراء والسراء.
ومما يُحسب للمرء أن يشهد له أقرانه -الذين يرونه في كل حالاته- بالفضل والمناقب؛ هذا يحيى بن معين يشهد بتواضعه فيقول: ما رأيت مثل أحمد صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الخير.
يقول الإمام أحمد: كتبتُ عن ابن مهدي نحو عشرة آلاف حديث. ويقول ابنه عبد الله قال لي أبي: خذ أي كتاب من كتب وكيع فإن شئت أن تسألني عن الكلام أحدثك بالإسناد وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك عن الكلام.
بمعنى أنه لا يحفظ الحديث فقط وإنما يحفظ إسناده وليس حديثًا واحدًا وإنما عشرة آلاف حديث .
يقول الحسين بن إسماعيل عن أبيه: كان يجتمع في مجلس الإمام أحمد أكثر من خمسة آلاف شخص، خمسمئة يكتبون عنه فتاويه وأحاديثه والبقية يتعلمون منه أدبه وسمته وأخلاقه وتعامله مع الناس.
طلب الإمام أحمد العلم في العراق ولم يترك مكانًا يُطلب فيه الحديث إلا وذهب إليه يسمعه بنفسه, في إحدى رحلات الإمام أحمد نفذت نفقته في منتصف الطريق وهو خارج من بغداد يريد اليمن وليس معه إلا ثلاثة أو أربعة دراهم فاستأجر نفسه لقافلة يحمل عنهم متاعهم مقابل درهم أو درهمين إلا أن وصل وجهته ,فطريق العلم لم يكن سهلا ممهدًا .
فجمع الإمام أحمد في مسنده كل أحاديث أهل الشام والحجاز واليمن وأهل العراق. ولما انتهى من هذا كله رأوه تلاميذه وهو يقارب السبعين عامًا يجري مشمرًا ثوبه ومعه قلمه ومحبرته، فقالوا له إلى متى يا إمام فقال: مع المحبرة إلى المقبرة. ونُقل عنه أنه قال: لعل الكلمة التي ستنجيني عند الله لم أسمعها بعد.
يقول ابنه صالح: ربما رأيتُ أبي ربما رأيت أبي يأخذ الكسر من الخبز عليها غبار فيضعها في قصعة فيبللها بالماء ثم يضع عليها قليلًا من الملح ثم يأكلها، فكان يتقوّت بذلك أيامًا. ويقول: والله ما رأيته اشترى يومًا رمانًا ولا سفرجل ولا فاكهةً إلا أن تكون بطيخةً يأكلها بالخبز أو التمر.
فكان زاهدًا في الدنيا وحريصًا على ألا يستكثر منها. وكان يقول لا أفرح بشيء مثلما أفرح بالفقه ولا أعدل به شيئًا. وكان متأثرًا بسنة النبي عليه الصلاة والسلام ويعلم أنّ النبي عليه الصلاة والسلام عاش حياته وكان يدعو رزق آل محمد كفافًا.
وهل هذا مما يُطيقه الإنسان؟ يقول يحيى بن معين: والله ما كنا نطيق ما كان يطيقه الإمام أحمد.
كانوا يعرفون مدى انصرافه عن الدنيا لذلك أحبّه الناس وكان لا يرضى أن يأخذ الأعطيات من الخلفاء وحين يُرغم على أخذ شيء منهم كان لا يبيت ليلته تلك حتى ينفقها على المحتاجين
تمسك الإمام أحمد بالسنة تمسكًا شديدًا فلا يمرُّ عليه هدي في حديث من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام إلا وفعلها احتجم مرة فأعطى الحجّام دينارًا _ والدينار كان كثيرًا _ لكنه أعطاه لأن النبي عليه الصلاة والسلام احتجم فأعطى الحجام دينارًا.
امتحان الفتنة
نأتي إلى الحديث عن الفتنة التي امتحن بها الإمام أحمد وقد كان أول ظهور لها قبل عشرين سنة من أيام الخليفة هارون الرشيد، فقد ظهرت فرقة من المعتزلة تزعم أن القرآن مخلوق خلافًا لعقيدة أهل السنة والجماعة الذين يؤمنون أن القرآن كلام الله لقوله تعالى:” وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ”
التوبة (6)
فهو كلام الله نزل به جبريل _عليه السلام _على النبي _عليه الصلاة والسلام_ وحيًا فبلغنا به.
وقد كان أول من تكلّم بهذا الاعتقاد الخاطئ شخص اسمه بشر بن غياث المريسي في عهد هارون الرشيد، وهارون الرشيد كان سليم المنهج فقال: لأن ظفرت به لأقتلنّه قتلًا شديدًا.
فلما مات هارون الرشيد جاء بعده الأمين ثم المأمون الذي ما إن وصل إلى الخلافة حتى جاءه أصحاب هذا الفكر يلتفون عليه ويزينون له هذه الفكرة حتى ظنّ أنها حقّ وأن خلافها الباطل وجعل يمتحن الناس بتشجيع من أصحاب هذا الفكر ليقولوا جميعًا أن القرآن مخلوق.
وكان أوّل من بدأ بهم سبعة من كبار العلماء كان منهم الإمام أحمد أرسل إليهم الخليفة شرطته وهو في عاصمته ليمتحنهم أن يقولوا إن القرآن مخلوق وليس كلام الله ومن لم يقل بذلك يجزّ رأسه. فأجاب خمسة منهم بالموافقة تقية وبقي من السبعة اثنان هما أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح وقد رفضا القول بخلق القرآن
وحبس الامام أحمد و جلد وهو في الستين من عمره مع ذلك الإمام صامد ويقول: أعطوني شيئًا من كتاب الله أو سنة رسوله يثبت هذا الكلام , وظل هذا الوضع حتى خلافة المعتصم ثم فرج عنه بعد فتح عمورية وفرح المسلمون بهذا الفتح فقال الإمام أحمد إني قد جعلت المعتصم في حل من ضربه إن الله يقول: ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)
النور (22)
فماذا ينفعك إن عذب الله أخاك المسلم بسببك؟
بعد الإفراج عنه لايزال الكلام بفتنة خلق القرآن موجودًا، ثم تأتي خلافة الواثق ويكون أشد ممن سبقوه ويمتحن الناس ويمتحن الإمام أحمد فيُؤتى به ويُجلد وهو ثابت لا يتحرّك ويقولون له: من وقف من أصحابك مثل موقفك علام تفعل ذلك في نفسك؟ وهو يقول: والله لا أفعل أمرًا وهو ليس بدين الله بشيء.
لذا قال أصحابه: لو لم يقف الإمام أحمد ذلك الموقف لكان عار علينا أهل الإسلام. أي إن الدين سيتغيّر لولا أن الله قيض له الإمام أحمد.
ثم جاءت خلافة المتوكّل فأُفرج عن الناس وانتهت هذه الفتنة بأخذ الخليفة المتوكّل بالمنهج الصحيح وعرف الناس أن القول بخلق القرآن كان فتنة ما أنزل الله بها من سلطان فرجعوا إلى معتقدهم الصحيح.
يقول الإمام أحمد ما سمعت كلمة هي أقوى من كلمة أعرابي كلمني فثبت بها قلبي، قال يا أحمد إن قتلك الحقُّ مت شهيدًا وإن عشت عشت حميدًا فاثبت .
و لما سجن الإمام أحمد ثلاث سنين وهو ما بين تعذيب وجلد جاءه أصحابه فكانوا يزينون له أحاديث التقية “من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان” _فهم يطمعون بخروجه والاستفادة من علمه_ فيسكت الإمام أحمد ثم يقول: ما تصنعون بحديث خباب يقول قال النبي عليه الصلاة والسلام : «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، …» (أخرجه البخاري، صحيح)
وحين جاءه أصحابه يُقايضونه على الكلام فقال لهم: إذا اجاب العالم تقية وأجاب الجاهل جهلًا فمتى يتبيّن الحق؟ فيأسوا منه.
ولم يُفتتن هذا الإمام في الضراء فحسب وإنما امتحن في السراء فلما كانت خلافة المتوكّل وقد أفرج عن الإمام أحمد وأراد أ ن يُعلي شأنه وأرسل له بأموال طائلة حتى يعوّض ما حصل له مع من سبقه فرفض الإمام أحمد هذا الإكرام من الخليفة وما كان يأتيه من أموال فما كان يُدخل منها لبيته شيئًا وكان يقسمها على أحفاد المهاجرين والأنصار ويتصدّق حتى بالكيس الذي جاؤوا به
وقال إسحاق بن إبراهيم صاحب الشرطة للأمير إذا حل إفطار أبي عبدالله فأرني، فوجده يُفطر على كسرة خبز وخيار فلما رآه قال: هذا لا يُجيبنا إن كان هذا يعفه.
وفاة الإمام أحمد
نختم بوفاة الإمام أحمد وقد مرض بحمّى شديدة والناس يدخلون عليه أفواجًا يعودونه، فرأى رجلًا منهم قد تخضّب بالحناء فتبسّم الإمام أحمد وقال لابنه إني لأفعل بالرجل يفعل السنة. وقال لابنه وضئني للصلاة وخلل أصابعي. فما كان يتوضأ أي وضوء وهو مريض على فراش موته!
وفي نهار يوم الجمعة مات الإمام أحمد عن سبعٍ وسبعين عامًا أوقفها لله ولنصرة دينه فضجّ الناس بالبكاء والدعاء له وتعطّلت الأسواق وأُغلقت الدكاكين وامتلأت السكك والشوارع بالمشيعين له حتى فتح الناس بيوتهم للصلاة عليه واجتمع الناس في الفلاة من كثرة ما اجتمع من الخلق للصلاة عليه وقام الناس حتى على ظهور السفن يصلون على أحمد بن حنبل ,وقد بلغ عدد المصلين على جنازة الإمام أحمد ألف ألف وسبعمئة ألف، ذلك الذي قال لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز!
وقد قيل إنه لم يُشهد لا في تاريخ الجاهلية ولا تاريخ الإسلام جنازة مثل جنازة هذا الإمام العظيم أحمد بن حنبل وما هذا إلا غيض من فيض من سيرته فحري بالإنسان أن يتأسى به. نسأل الله تعالى أن يحشرنا في زمرة النبي صلى الله عليه وسلم وزمرة من أحبّه وسلك طريقه.
هذا الحمد لله رب العالمين والصلاة
والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* تنويه: مادة المحاضرة جُمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.
Thanks for your blog, nice to read. Do not stop.