بتاريخ ١١/ ٩/ ١٤٤١ هـ
لسماع المحاضرة صوتًا
( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )
سورةٌ عظيمةٌ من سورِ القرآنِ العظيم، سورةٌ وصفها بعض المفسّرين بأنّها (سورةُ الحفظ) نظرًا لما وَرَدَ فيها من بشاراتٍ كثيرةٍ لحفظِ الله عزّ وجلّ لعبادَه، وهي سورة (الحِجْر).
سُمّيتْ سورة (الحِجْر)؛ نسبةً إلى وادي الحِجر في ديار ثمود، المعروفين بقوّتهم البدنيّة، حيث كانوا يتّخذون من الأرض سهولًا،
وينحِتون الجبالَ بيوتًا، وكانوا يظنّون أنّها تحميهم وتحفظُهم. لكنّهم لم يعلموا أنّه لا حافظَ من أمرِ الله عزّ وجلّ إلّا بإذنه،
وقد أهلكهم الله بصيحةٍ واحدةٍ، فمجرّد ذبذباتٍ دخلتْ أذانهم أردتهم موتى.
بعضُ الوقفَات مَعَ حِفظِ الله عزّ وجلّ:
حِفظُ اللهِ تعالى للقرآنِ الكريم:
قال تعالى: ﴿مَا نُنَزِّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَمَا كَانُوٓاْ إِذٗا مُّنظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾ (الحِجر:7- 8 ).
فمنذ أكثرَ من (1400) سنةٍ، منذ نزول القرآن الكريم على النّبي -عليه الصّلاة والسّلام- في غار حراء إلى يومنا هذا والقرآن محفوظٌ لم يتغيّر منه حرفٌ،
ولم يتغيّر منه شكلٌ، رغمَ كيدِ الكائدين ومكرِ الماكرين.
حِفظُ اللهِ تعالى للسّمواتِ والأرض:
قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ جَعَلۡنَا فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجٗا وَزَيَّنَّٰهَا لِلنَّٰظِرِينَ (١٦) وَحَفِظۡنَٰهَا مِن كُلِّ شَيۡطَٰنٖ رَّجِيمٍ﴾ (الحِجر: 16-17).
فالسّماء التي تُظِلّك والأرض التي تُقلّك محفوظةٌ بحفظ الله عزّ وجلّ، ولو شاء الله عزّ وجلّ أن تقعَ السّماء على الأرض لوقعت، فلا ممسك لها إلا هو سبحانه.
حِفظُ اللهِ تعالى للأرزاق، وتقديرُها بعلمٍ وحكمة:
يقول الله عزّ وجلّ: ﴿وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَآئِنُهُۥ وَمَا نُنَزِّلُهُۥٓ إِلَّا بِقَدَرٖ مَّعۡلُومٖ﴾ (الحِجر: 21). فخزائن الله تعالى ملأى،
إلّا أنّه يَقسِمُ منها لكلِّ عبدٍ ما يشاء. فمهما أنهكت نفسك بالجريِ وراء رزقِك فلن تُحصِّل إلّا ما كتبه الله لك. كما يجب كذلك ألّا تتواكلَ على الله تعالى،
فعليك الأخذ بالأسباب وجوبًا ثمّ التّوكّلَ على الله تعالى وحده، لأنّه هو مقدّر الأسبابِ وحافظُ الأرزاق.
حِفظُ اللهِ تعالى لعبادِه المُخلَصين من الشّيطان الرّجيم:
يقول جلّ جلاله مخاطباً الشيطان الذي توعد بإغواء بني آدم: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٌ إِلَّا مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ﴾ (الحِجر: 42).
الله تبارك وتعالى لن يسمحَ للشيطان بالاقترابِ من العبادِ المخلِصين عبادتَهم لله، فتأمّلْ حفظَ اللهِ العظيمِ لهم.
واستثنى الله -سبحانَه وتعالى- من الحفظ الفئةَ التي ستتّبعُ الشّيطانَ وتعصي الله، وهذا قرارُ الإنسان الشّخصي،
لكنّك ما دمتَ عبدًا طائعًا صادقًا فلا يمكن أنْ يتركَك الله عزّ وجلّ للشيطان.
حِفظُ اللهِ تعالى للمؤمنينَ في الدّنيا وفي الآخرة:
إنّ حِفظ الله -عز وجل- يرافقُ المؤمنين إلى لحظةِ دخولهم الجنة، فيقول الله عزّ وجلّ: ﴿ادۡخُلُوهَا بِسَلَٰمٍ ءَامِنِينَ﴾ (الحِجر: 46)،
فاللهُ يحفظ عبادَه في الدّنيا وفي الآخرة حتى يدخلهم جنّته آمنين.
حِفظُ اللهِ تعالى لعبادِه، وتكفَلُّهم بسلامٍ:
يقول الشّيخ السّعدي -رحمه الله- في اسم الله (الحفيظ): “هو الذي حفظَ ما خلقَ، وأحاطَ علمُه بما أوجدَه، وحفظَ أولياءَه من وقوعِهم في الذّنوب والهَلَكات”.
يا له من تعريفٍ! فحفظُ الله تعالى للعبد لا يقتصرُ فقط على حمايتِه من الأذى، وإنّما يحفظهم من وقوعهم في الذّنوب والمهلكات، ويلطفُ بهم في حركاتهم وسكناتهم.
حفظُ الله تعالى كلَّ مخلوقاتِه، وعباده المؤمنين والكفّار:
ويتمثّلُ حفظُ اللهِ عباده بنوعين:
الأوّل: حِفْظُ الله تعالى عبادَه بكلِّ ما عملوه: فكلُّ ما يعمله العبد موجودٌ في الكتاب المحفوظ، من خيرٍ وشرٍّ،
وطاعةٍ ومعصيةٍ. فأوكلَ الله ملائكةً يتعاقبون على عباده، ويسجّلون كلَّ أعمالهم.
الثّاني: حِفظُ الله تعالى عبادَه من جميع ما يكرهون من شرورٍ، أو ابتلاءاتٍ، فيهم أو في ذريّتهم أو من يحبون.
وهو نوعان:
عامٌّ: يشترك في هذا النّوع المسلمُ والكافر، والبَرُّ والفاجر، ويشتركُ فيه الإنسان والحيوان،
فحتّى الحيوانات لم يتركها الله تعالى تائهةً لا تعلم ماذا تفعل.
خاصٌّ: وهو الحفظُ الذي يذوبُ له القلب، حيث يشمَل حفظُ الله تعالى لأوليائه مما يضرّهم في دينهم ودنياهم،
فيحفظهم ممّا يهدّد إيمانَهم ويزلزل يقينَهم من شبهاتٍ أو شهوات.
حِفظُ الله تعالى لعبادِه الصّالحين من كلّ مكان:
قال الله سبحانه وتعالى: ﴿لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٞ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ ….﴾ (الرّعد: 11).
فحفظُ الله لعبده يكون من كلّ الجهات: من بين يديه، ومن خلفه، وفي آيات أخرى: عن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته.
ربّما يتبادرُ إلى ذهنك أنّ الحفظَ يكون من لدغةِ عقربٍ أو أفعى، أو عينٍ أو سحرٍ، أو مرضٍ… إلّا أنَّ حفظَ الله تعالى أشملُ وأوسعُ من ذلك، فهو يحفظ لأوليائِه دينَهم.
حِفظُ الله تعالى عبادَه في دينِهم ودنياهم:
بعضُ هذا الحفظِ يتوالى للإنسان سواءٌ في نفسِه أو في ذريّته، وبهذا تتبلورُ فائدةُ الصّلاح؛ فاللهُ يحفظُك ويحفظُ لك بصلاحك.
ونستذكرُ -في هذا المقام- في سورةَ الكهف ما قاله الخِضر لموسى -عليهما السّلام- لمّا أرادوا بناء الجدار،
قال تعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صالِحٗا﴾ (الكهف: 82).
فالله تعالى سخّر لهما نبيًّا؛ لصلاحِ أبيهما، وسخّر الخضرَ معه ليذهبوا إلى القرية فيبنوه لولدَيه، فحفظَ الله تعالى لهما مالَهما بحفظِ أبيهما الصّالح.
فالله عزّ وجلّ يحفظ أبناءَك من بعدك إذا وكّلتهم له.
حِفظُ الله تعالى يُريح قلبك، ويُجنّبك الوقوع في المعاصي:
قال أحدُ السّلف: “لا تقلْ أذنبتُ، وإنّما قلْ أعرضَ عنّي الحافظ”، والمقصود: إنّ امتناعَك عن فعل ذنبٍ ما،
وإحساسَك بالسّكينة تجاه هذا الامتناع هو ليس قرارك الشّخصيّ، ولكنّ الله حفظك بحفظه.
أمّا إذا شعرت أنّ نفسك تنازعك وتحضك على المعصية والذّنب فاعلمْ أنّ الله الحافظ أعرض عنك، لسببٍ ما أو لتقصيرٍ منك،
ولذلك فإنّ من الضّرورة أن تراجعَ نفسَك وتبحثَ عمّا يُعثِّرك.
حِفظُ الله تعالى حمايةٌ لك:
عن قتادة بن النّعمان، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: “إذا أحبَّ الله عبدًا حماه الدّنيا كما يظلُّ أحدُكم يحمي سقيمَه الماء”.
فالله تعالى يحفظك ويحميك فلا يعطيك الدّنيا. فلا تظنَّ أنّ كلَّ من أُعطي الدّنيا محبوبٌ عند الله تعالى، لأنّ الله عزّ وجلّ يعطي الدّنيا من يحبُّ ومن لا يحبّ،
ولكنّه لا يعطي الدّين إلّا من يحبّ. ففتحُ أبوابِ الدّنيا عليك قد يفسدك، لأنّ العطاءات المتكرّرة أحيانًا ما تكون استدراجًا أو ابتلاءً للإنسان.
حِفظُ اللهِ تعالى يشمَلُ حفظكَ من شرِّ النّاس:
فيمنعك أن تلتقي بهم، لأنّه يعلم أنّك بمجردُ أن تلتقي بهم تندفعْ إلى ما هم عليه، فتضيع ويضيع معك عملك الصّالح.
فمن حفظِ الله عزّ وجلّ لك أنّه يصرفك عن هؤلاء بظرفٍ أو انشغالٍ معيّنٍ، وهذه التّدابير قد نجهلها ونجهل الخير الذي يكمنُ وراءَها،
ولو كُشِفت لنا لذابت قلوبُنا لشدّةِ حبِّ الله تعالى لنا وحرصه علينا.
حِفظُ اللهِ تعالى يستوجبُ أعمالَ القلبِ والجوارحِ معًا:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “«استحيوا من الله حقّ الحياء»، قال: إنّا نستحي والحمدُ لله، قال: «ليسَ ذاك ولكنْ من استحيا من اللهِ حقَّ الحياءِ فليحفظِ الرّأسَ وما وعى،
وليحفظِ البطنَ وما حوى، وليذكرِ الموتَ والبلاءَ فمَنْ فعلَ ذلك فقد استحيا من اللهِ حقَّ الحياء».
ومن هنا نستنتج أنّ حِفظَ الله تعالى لا يُأتَى بالتّمنّي، وإنّما بالإيمان الثّابت بالقلب ودقّة العمل بالجوارح معًا؛ كأنْ (تحفظَ بطنك) من أكل الحرام،
(وما حوى) كنايةٌ عن الزِّنى، (ورأسُك ومصبّاته): أي العينين والأذنين واللّسان، لأنّ القلبَ لا يُحفَظ إلا بحِفظِ أدواتِ البصر والسّمع والكلام.
حِفظُ الله تعالى لكَ يصرفِك عن الشّرِّ والأذى:
فاللهُ تبارك وتعالى يحفظ سمعَك وبصرَك من أنْ يتلطّخا بما لا يرضيه، ويُهيّئ الأسبابَ لك من حيث لم تحتسب.
لا شيءَ يُغني عن حِفظُ الله تعالى لك:
بالفعل؛ إنّ الله عزّ وجلّ إذا أرادَ الحفظَ تحقّقَ ذلك مهما كانت احتمالات النّجاة معدومةً في نظر البشر.
فهذا سيّدُنا موسى-عليه السّلام- أوحى الله تعالى إلى أمّه أن تلقيَه في اليمّ بعد أن تضعَه في تابوتٍ، فلم تستطع الأمواجُ العاتيةِ والبحرُ الهائج أن يضرّوه شيئًا أمام حفظ الله الكبير.
وبالمقابل فإنّ من لا يحفظْه الله لن ينقذه أيُّ شيء، فابن سيّدنا نوح -عليه السّلام- ظنّ أنّه سينجو بفِطنته واعتماده على ذاته،
لكنّه تجاهلَ حقيقةَ أنّه لا عاصمَ من أمر الله إلّا من رحم، وبالتّالي لم يشملْه حفظُ الله فكان من المُغرَقين.
حِفظُ اللهِ تعالى قد يكون بدعوةٍ أو بصدقةٍ:
فأيُّ عملٍ صالحٍ تسعى إليه أو صدقة تؤديها ستكون سببًا في حِفظِ الله عزّ وجلّ لك. فإذا حَفِظَك الله جلّ في علاه بحفظه،
حَفِظَ ذريّتك، وسخّرَ لك من الأشخاص من يدعوا لك ويعمل لك أعمالًا عظيمة بعد وفاتك.
حفظُ الله تعالى عباده بالنية الصّالحة:
فأحيانًا تَبْلُغُ بنيّتك الطيّبة ما لا تبلغه بالعمل الصّالح. والشّواهدُ كثيرةٌ على ذلك؛ ومنها قصّةَ الرّجلِ الذي قتلَ تسعًا وتسعينَ نفسًا،
ثم أراد التوبة فأراد الذهاب إلى قوم صالحين ليساعدوه على الالتزام بالتوبة، لكنّ المنيّة وافتْه وهو على الطريق قبل الوصول،
فاختصمتْ ملائكة العذاب والرحمة في أمره؛ فوجدوا أنه أقرب للبلاد التي ذهب يتعبّد الله فيها من البلاد التي كان مُجرِمًا فيها بشبرٍ واحدٍ، فهذا الرجل غفر الله تعالى له لِمَا احتواه صدره لا بعمله.
الله تعالى يُدافع عن المؤمنين:
قال الحق جل جلاله: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٖ كَفُورٍ﴾ (الحج: 38).
يُفسّر الشيخ السّعدي -رحمه الله- هذه الآية الكريمة بأنّ الله جل جلاله يحفظ عباده الصّالحين من وساوس الشّيطان، ومن هوى الأنفس،
ومن سيّئات الأعمال، وإذا نزل بهم البلاء الشّديد تحمَّل اللهُ عنهم ذلك، فيجد المؤمنُ في قلبه سكينةً وطمأنينةً لم يعرفْها من قبل.
حِفظ الله تعالى في الصلاة:
تأمّل قول الحق عز وجل: ﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ﴾ (العنكبوت: 45).
إنّ المُصلّي الحقيقي الذي يقيمُ صلاتَه بعبوديّةٍ تامّةٍ، وبقلب خاشعٍ لربّه، يجب أنْ تنهاه صلاتُه عن الذّنوب والمعاصي، وإلّا فهناك خللٌ فيها يجبُ علاجُه،
لأنّك متى ما أقمتَ صلاتَك على النّحو الصّحيح تغمّدَك الله بحفظه العظيم، وهذا من أعظم مقاصد الصّلاة على الإطلاق.
أسألُ الله عزّ وجلّ أن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أَيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا ومن تحتنا، ونعوذ به أنْ نُغتَال من تحتنا.
* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.