بتاريخ ٢٢ / ٠١ / ١٤٤٣ هـ


لسماع المحاضرة صوتًا

( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )


سنستعرض في مقالنا هذا سيرة شيخ من شيوخ الإسلام؛ والذي يتم ذكره من حينٍ لآخر لنرى مدى فضلهم

وأثرهم على الدين. فهم مع فارق أكثر من ٧٠٠ سنة إلا أننا مازلنا متأثرين بهم ذلك لأن سيرهم تعتبر نجومًا نستهدي بها. هم ليسوا أنبياء ولا من الصحابة

بل مجرد أشخاص ولدوا في القرن السادس أو السابع لكن لحسن صنيعهم لإسلام لا يزال الناس يدعون لهم ويذكرونهم إلى وقتنا هذا.
 قال عنه تلميذه ابن القيم -رحمه الله- : شيخ الإسلام والمسلمين القائم ببيان الحق ونصرة الدين، الداعي إلى الله ورسوله

المجاهد في سبيله الذي أضحك الله به من الدين ما كان عابسًا، وأحيا به من السنة ما كان دارسًا.

 قال عنه الذهبي -رحمه الله-: أحيا به الشام بل والإسلام بعد أن كاد ينثلم -بمعنى ينكسر-. 

 قال عنه محمد السكي-رحمه الله-:

والله ما يبغض ابن تيمية إلا جاهل أو صاحب هوى فالجاهل لا يدري ما يقول وصاحب الهوى يصدّه هواه عن الحق بعد معرفته به.

 قال أبو الحجاج المزي -رحمه الله-:

ما رأيت مثل ابن تيمية ولا رأى هو مثل نفسه وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله منه ولا أتبع لهما منه.


اسمه ونسبه..وكيف نشأ؟  

شيخنا هو شيخ الإسلام:

أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبدالله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الدمشقي -رحمه الله-، ولد في حران سنة ٦٦١هـ.

وفي هذا القرن تسلط المغول والتتر على المسلمين. وعندما بلغ  سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق هربًا من الغزاة التتار.

الشيخ ابن تيمية لم يرث العلم عن كلالة بل كان في بيت علم وفقه ودين. فحينما تسعى الأم في تزويج ابنها

يجب ألا يكون اهتمامها الجمال فقط وإنما يجب أن تكون مهتمة في البيت الذي تربت فيه، فكلما كان العلم والدين

متأصل فيه ظهر الأثر على الأطفال والأحفاد أيضًا. كما يجب أيضًا على الفتاة أن تتخير الرجل الذي سيكون شريك حياتها وأب لابنا ها متربِّ

في بيئة علم ودين حتى يظهر ذلك في الأبناء. فكلما كان الصلاح موجود في الأب والأم كلما كان متعدٍّ للأبناء.


ماذا يعني ابن تيمية؟

تيمية هي جدة أبوه، وسميت بذلك لأن أبيها ذهب إلى الحج وأمها حامل بها وهو راجع مر على تيماء ورأى بها خيام

وظهرت له فتاة صغيرة من بين الخيام.. وعندما ذهب إلى أهله فإذا امرأته وضعت فتاة فإذ أنها تشبه الفتاة الصغيرة التي ظهرت له

فيه قرية تيماء فأخذ يلاعبها: تيمية يا تيمية، حتى سميت بذلك. 

والدته هي الشيخة الصالحة ست النعم بنت عبد الرحمن، كانت تصرف عليه من مالها لحفظه القرآن والحديث، فلما بلغ سن الشباب

وأصبح يُدرس انشغل عن أمه، فأرسل لها يومًا رسالة اعتذارٍ، رد أمه بمثابة جواب علينا عندما نتساءل عن الأسباب

التي كونت أمثال هؤلاء العظماء؛ ردت عليه أمه: فإني والله لمثل هذا ربيتك ولخدمة المسلمين نذرتك

وعلى شرائع الدين علمتك ولا تظنن يا ولدي قربك مني أحب إلي من قربك من دينك وخدمتك للإسلام في شتى الأمصار، بل إن غاية رضائي عنك لا يكون إلا بقدر ما تقدمه لدينك. 


مـا هو العصر الذي عاش فيه ابن تيمية؟

 بالإضافة إلى أنه العصر الذي تسلّط عليهم المغول، فهو أيضًا العصـر الذي ابتدأت فيه الحملات الصليبية

على بلدان المسلمين، فكانت تتساقط واحدًا تلوَ الآخر. وحيـنَ نقول أن هناك ضعف على

مستوى الدول والخلافة في ذلك الوقت، فبالتأكيد أنّ عنـدهم قابلية لاستضعاف المسلمين، فنحنُ نتكلم عَن القرنين السادس والسابع

الذي نزلَ فيه المسلمين في حضارتهم، وانتشرَ فيـه الشرك والشعوذة والصوفية وغيرها. نشأ شيخ الإسلام

ابن تيمية -رحمـه الله-، في وقت افترقت فيـه الأمة على مذاهب شتى، فلم يكُن يعرف أهل السنة والجماعة إلا بشيء قليل. 

وحين نقول أن شيخ الإسلام ابن تيمية نشأ في ذلك العصر فنحنُ نتكلم عن شخصية غير طبيعية

تلمع كالذهب في عـالم ملطّخ بالطين، ففي عالم ممزق كان ابن تيمية كسيف مسلول أمـام تلك البدع.


 صفاته الخَلقية: 

كـان شيخ الإسلام -رحمة الله- أبيضَ اللون، أسودَ الرأس واللحيـة، قليل الشيب، شعره إلـى شحمة أذنيه

يبتغي بذلك سنة النبي ﷺ، كأنّ عينيه لسانان ناطقـان، حادّ الذكاء، متوسط القامة، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت، فصيحًا سريع القراءة، تعتريه حدّة لكنه يقهرها بالحِلم.


علمه ومناقبه:

ختم القرآن وهو في سنٍ صغير، وختم كتب الحديث واللغة العربية حتى برع فيها، فحفظ

الدواوين الستة بأجمعها، ثم ابتدأ بكتب علم اللغة والنحو حتى بزغ وصار مؤلفًا فيها. 

بلغ من سمع عنهم ودرس على يديهـم مئتي شيخ مع ملازمة مجالس الذكر وسماع الحديث. 

أتقن العلوم من التفسير والفقه والحديث والأصول والعربية والتاريخ والجبر والمقابلة والمنطق

والهيئة وعلم أهل الكتابين (اليهودية والنصرانية) والمِلل الأخرى وعلم أهل البدع كلها وهو ابن بضعة عشر سنة، وجلس في الإفتاء

وهو ابن 16 سنة، وجلس في حلق التدريس -بشهادة القضاة- وعمره اثنين وعشرين سنة.

تولى ابن تيمية في عمر 22 سنة دار الحديث السكرية بالقصاعين في الشام، فاجتمع عنده أئمة

المذاهب في حلقة واحدة، وهذا الأمر لم يكن معروف بعهدهم فكان كل أهل مذهب يذهبون إلى مكان، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية من غزارة

علمه ومن توفر علمه في المذاهب الأربعة كلها، يأتي بالمسألة فيأتي بالمذاهب كلها فكانوا هم المذاهب الأربعة يأتون إليه فيحضرون عنده.

كانت قدرة الحفظ لدى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قوية، يقول جمال الدين السرمري -رحمه الله-:

من عجائب ما وقع في الحفظ في أهل زماننا: شيخ الإسلام أبو العباس، فإنه كان يمرُّ بالكتاب مرةً مطالعة فيُنقَش في ذهنه، وينقله في مصنَّفاته بلفظه وعبارة المؤلف وبمكانه!

كما أنه حين سُجن في مصر، ألف مؤلفات عدة صغارا وكبارا، وذكر فيها من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء وأسماء المحدثين

والمؤلفين ومؤلفاتهم بلا أي خطأ. إذن القضية ليست فقط ذاكرة حفظ، وإنما إتقانه فن ترابط العلم، وهذا أصعب بكثير من مجرد إتقان الحفظ.

قال النبي ﷺ:”المؤمنُ القويُّ خيرٌ منَ المؤمنِ الضَّعيفِ وفى كلٍّ خيرٌ واحرص علَى ما ينفعُك واستعن باللهِ ولا تعجز”

المصدر : تخريج كتاب السنة


ما هو مصدر قوة ابن تيمية؟ وما هـي مواطن القوة التي تـجمعت فـي شـخص واحـد؟ 

اللهج والثبات على ذكر الله تعالى ونصرة الإسلام والسنة بهذا الذكر.

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”

(الأنفال:٤٥).

فالعلماء الذين ترجموا حياته أخبروا عن أن سر قوة الشيخ هي في كثرة ذكره لله ولأنه كثير الذكر أعطاه الله قوة لا يمكن أن يقوم له أحد. 

 رزقه الله تعالى قوة في بدنه وجهارة في صوته فكان قوي الحفظ، مفرط الذكاء و سريع الإدراك، قال -رحمه الله-:

كنت أقرأ مائتي تفسير فلا يبدو لي منها شيء، أي ليس بهكذا تفسيرها، فلا أزال أقول: يا معلم إبراهيم علمني ويا مفهم سليمان فهمني، حتى يفتح الله علي ما تقر به نفسه. 

تتمثل قوة الشيخ أيضًا في رفض العطايا والهبات من الأمراء وغيرهم فلو جاءته الأموال لا يمسي تلك الليلة حتى ينفق جميعها في أوجه الخير.

الشيخ لم يتزوج ليس بُعدًا ولا زهدًا في السنة بل شُغل عن ذلك؛ لأن الشيخ عاش في عصر الفتن والفرق والبدع، فقالوا عنه في سيرته:

شغله الجهاد والعلم ومقارعة أهل البدع عن الزواج.

جادًا في حياته بعيدًا عن الهزل، بعيداً كل البعد عن الغيبة والنميمة، فيقولون كان كثير التأله حيث يذهب للمساجد الخربة

التي لا يوجد فيها أحد بل كانوا طلابه يتبعونه ويجدونه يذهب للصحاري والقفار التي لا يوجد بها أحد فيسجد لله تلك السجدات الطويلة التي تكون مليئة بذكر الله واللهج بها. 

كان قويًا في التأليف، بلغت مؤلفاته أكثـر من ٥٠٠ مجلد، ولا يعرف أحد من علماء الإسلام ألّف مثل مؤلفـاته، قيل عنه:

سريعَ القلم سريعَ الكتابة، لا يكاد يسبق، وإن كـانَ خطه مغلقًا، حتى أنه كـان يؤلف المؤلفات في قَعدَة!. بلغ نتاج يومه وليلته ٤ مجلدات. 

زاهداً في المناصب والولايات فكثيرًا ما كان يستشهد في الإمام أحمد-رحمه الله-فيقول عنه: أتته الدنيا فأباها، والولايات فقلاها. 

البذاذة من الإيمان والاقتصاد في أمور المعاش فكان زاهدًا، رغم أن العلماء والأمراء يأتون إلى مجلسه ويتطلعون للتقرب منه ولكنه لا يسمح بذلك.

عالمًا، فتح الله عليه بميراث علم النبوة ما قرع به البدعية والجهمية والمعتزلة، وكل مايرى أن ما عليه هو الحق، ثم يأتي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كحامل ضياء فيكاسر هؤلاء ويكاسر هؤلاء ويرفع به الدين فيناظر هذا تارة ويجادل هذا تارة ويؤذى هو تارة ويسجن تارة.

 قال العمري -رحمه الله-: كان ابن تيمية لا تأخذه في الحق لومة لائم وليس عنده مداهنة وكان مادحه وذامه في الحق سواء لأنه ما يفعل هذا الشيء إلا من أجل الله تعالى. 



كيف كانت عبادة ابن تيمية؟ 

كان يقضي جل وقته في العبادة، حتى أنه لم يجعل لنفسه شاغلة تشغله عن الله تعالى، يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله-:

حضرت ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله إلى قريب من انتصاف النهار ثم التفت إلىّ وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغدها سقطت قوتي. 

كثير الاستغفار، يقول هو عن نفسه: إنه ليقف خاطري في المسألة والشيء أو الحالة التي تشكل علي يعني يحدث الشيء

ولا يكون عندي رأي فيها مسألة مستجدة لا أعرف الحكم فيها يقول: فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر أو أقل حتى ينشرح الصدر فينحل إشكال ما أُشكل.

يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله-: قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية ذات مرة إني لا أترك الذكر إلا بنية

إراحة نفسي لأستعد بتلك الراحة بذكر آخر فمعنى هذا أن  لسانه لا يتوقف عن ذكر الله تعالى. 

ختم القرآن خلال مدة إقامته في السجن ثمانين ختمة، فكان يقرأ سورة القمر إلى إن وصل لقوله تعالى:

“إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ*فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ”

(القمر:٥٥)

وتوفي عندها، كان يقرأ في اليوم الواحد أكثر من ثلاثة أجزاء ويختم في أقل من عشرة أيام.

كثير الخشية والخوف من الله، وبالرغم من أنه كثير التعبد إلا أنه يرجف في صلاته خوفًا وخشية من الله تعالى، قال تعالى:

“إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ”

(فاطر:٢٨)

فكلما كان الإنسان أكثر علما كلما كان أكثر خشية لله تعالى. ولذلك الصلاة التي بلا روح ولا طعم ولا خشوع التي نصليها دليل على جهلنا بالله ودليل أننا ما عرفنا الله تعالى. 

كثير التدبر والتأمل في ملكوت الله؛ وهذا أدعى إلى الخشية، أن تنظر إلى السماء في ذكرك و استغفارك كأنك تستنزل رحمات الله تعالى عليك.  

متواضع للصغير والكبير والجليل والحقير، وكان يدني الفقير الصالح ويكرمه ويؤنسه ويباسطه في حديثه زيادة على ذلك على ما يفعل للأغنياء جبرا لخاطره وحملا لحاجته وتقربا إلى الله. 

يقول ابن القيم -رحمه الله-: كان ابن تيمية متسلط على الجن ومردتهم، فكان إذا رأى شخصا مصروعا يمسك بإذنه فقط ويردد آية واحدة، قال تعالى:

“أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ”

(المؤمنون:١١٥)

فيقوم الرجل كأنما نشط من عقال، ويهرب الجني فلا يرجع إليه أبدًا. 

كان يسامح الآخرين، يُذكر أن أصحابِه الأكابرِ يقولُ: وَدِدتُ أنِّي لِأصحابي مِثلُه لِأعدائِه وخُصومِه!

يقول ابن القيم -رحمه الله-:

وجئتُ يَومًا مُبشِّرًا له بمَوتِ أكبَرِ أعدائِه، وأشدِّهم عداوةً وأذًى له، فنَهَرني، وتنكَّرَ لي، واستَرجَع، ثم قامَ مِن فَوْرِه إلى بَيتِ أهلِه فعَزَّاهم، وقال:

إنِّي لكم مكانَه، ولا يكونُ لكم أمرٌ تحتاجون فيه إلى مُساعدةٍ إلَّا وساعَدتُكم فيه.

لم يكن يفرّق بين المذاهب، وكان يجوّز الإمامة مثل أن يكون الشافعي يأتمّ بإمامة الحنبلي أو الحنفي، فكان يقول إن ذلك

هو مذهب الصحابة والتابعين أن جميعهم يأتمون ببعض، فلم يكن بينهم ذلك الخلاف حتى وإن اختلفوا في المسألة.. فهذا اختلاف فقهي لا يقدح في العقيدة ولذلك يجوز الصلة بينهم.. وهو من أشد الناس منعة في التكفير، فكان لا يسمح بالتكفير. رغم أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-

موصوم بأنه شيخ التكفير وشيخ الإرهاب مع أنه أبعد الناس في ذلك! 


سجن ابن تيمية ونفيه

بلغ مجموع سجناته أكثر من ٧ مرات وفي كل مرة تتفاوت ما بين أشهر وسنوات حتى وصل مجموع أيام سجنة إلى ٦ سنوات من عمره. 

سجن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في سجن القلعة في دمشق وكان يقول ابن تيمية -رحمه الله-: ما يصنع أعدائي بي!

أنا جنتي وبستاني في صدري أين ما رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة. وكان يقول -في سجوده وهو محبوس-:

اللَّهمَّ أعِنِّي على ذِكْرِك، وشُكرِك، وحُسْنِ عِبادتِك، ما شاءَ اللهُ. فكأنه في نعمة عظيمة!

وقال مرةً: المحبوس من حُبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.

نُفي إلى الإسكندرية بعد أن سجنوه وما وجدوه يعود فعجزوا عنه.

يقول أخوه شرف الدين وهو ملازم له: خابت أهدافهم وظلوا عند الله وعند الناس معروفين بسود الوجوه -الناس الذين نفوه-

وقد انقلب كافة أهل الثغر إلى الأخ ابن تيمية مقبلين عليه مكرمين له في كل وقت، يعلمهم من كتاب الله وسنة رسوله 

فما زال يمزق شملهم بكتاب الله وتلاوة آياته وبالسنة حتى تاب عدد منهم وتاب رئيس طرقهم وخواصهم إلى منهج السنة والجماعة في ذلك الوقت.

 ولما سُجن ابن تيمية في سجنه الأخير في القلعة يقول أخوه شرف الدين لما دخل ورأى مرض

شيخ الإسلام ابن تيمية من قهره له، جلس يدعو ويبتهل على من سجنوه، فنهره شيخ الإسلام ابن تيمية وأنزل يديه وقال لا تفعل، ادعُ لهم أن ينور الله قلوبهم

بالهداية فإني أحب لهم الهداية أكثر من حبي لهم بالانتقام. 

ألّف في  سجن القلعة مؤلفات كثيرة ومن هذه المؤلفات: رسالة اسمها الأخنائية، في الرد على أحد القضاة اسمه فلان الأخنائي في الرد عليه

في مسألة أخطأ فيها، وصله خبرها فلم يتركها، فرد عليه في مجلد، فاشتكى القاضي إلى السلطان فنُزعت منه الأقلام

ونزعت منه كل الكتب التي كتبها، فبُلغ في ذلك الوقت ستين مجلد كتبها، فبدأ يكتب بالفحم -حجر مرمي في السجن-

وبدأ يكتب في أوراق متناثرة فجمعت في كراريس وسميت بالرسائل الفحمية، فلما علموا عنه ذلك أزالوا منه الفحم وأزالوا عنه كل شيء حتى لا يبقى له، فتفرغ بعدها للقرآن وللتعبد وللتهجد وهي التي قال فيها:

أنا لو وزنت هذه القلعة ذهبًا ما وزنتها بما فتح الله تعالى فيها من معرفة آيه وكتابه. 


وفاة ابن تيمية.. 

مرض ابن تيمية -رحمه الله-، ومات في مرضه ذلك سنة 728هـ عن عمر يناهز 67 عامًا. عندما سُجن، نادى منادٍ أنّ من كان على

عقيدة ابن تيمية يُقتل وهو كافر، فكل من اتبعوه وكانوا على عقيدته صاروا ينكرون عقائدهم لكيلا يوصموا بأنهم أتباع ابن تيمية.

أربعة سنين من هذا التهجير المطلق، مع ذلك ما إن خرجت جنازته من السجن ولم تخرج من مسجد كأيّ عالم. وصاح منادٍ من كان يريد أن يعرف أهل السُنة فلينظر إلى جنائزهم.

مات وهو شريد وطريد، وغير مرضي عنه فصودرت كل كتبه بعد ذلك، فلمّا صودرت كتبه شقّ ذلك

على تلامذته، فأرسل لهم أحدهم وهو محمد ابن أحمد ابن مرّي الحنبلي رسالة إلى تلاميذه قرابة الأربعين صفحة يعزّيهم بوفاة شيخهم ويصبّرهم

على الصبر على علمه، ثمّ يقول: واعلموا أنّا قد علمنا من شيخكم من نقاوة قلبه ونقاء سريرته ما نعلم أن الله سيُخرِج لعلمه من يأتي به

ويعلمّه على رؤوس الناس من هم الآن أُناسٌ هم ذراري في أصلاب آبائهم -يعني حتّى آبائهم لم يُخلَقوا بعد. لكنّ الله سيُهيئ بعده بأجيال

من يأتي فينصر ابن تيمية وينصر علمه حتى يخرجه للمسلمين فينتفعون بعلمه بعد ذلك.

مـاتـت كتـب ابن تيمـية ما يقـارب مئتـين سـنة حتى يقيّض الله تعالى لها اثنين، من هما؟ 

محمد عبدالوهاب: فكان يذهب ويتلمّس كتب ابن تيمية، وقع أول مرة على كُتبه فأٌعجِبَ به وباتباعه لمذهب أهل السنة، فأخذ كتابًا

من كتبه وجاء به من الزُّبير، وجاء بالكتاب منزوع الغلاف لئلا يتعرّف عليه أحد، فبدأ يُعلّم بهذا الكتاب حتى انتشر علمه في الجزيرة، وكان من أسس

رجوع الدين صحيحًا هو ما فعله الشيخ محمد بن عبدالوهاب تتلمذًا على ابن تيمية، ولذلك كُتِب في سيرة الشيخ:(وكان إِمامُه ابن تيمية) برغم أن ما بينهم قرابة القرنين.

ابن قاسم: تلميذ من التلاميذ في القرن التاسع عشر، قيّضه الله تعالى لابن تيمية فيذهب يتلمّس كل مخطوطة

كتبها ابن تيمية، ويسافر في كل البلدان، يبحث عنها حتى في الكنائس ويشتريها بالآلاف ودرس خطّ ابن تيمية وأعطاه الله تعالى

هذه الموهبة بأنه يفتح كتب ابن تيمية، فجمع هذه المؤلفات، حتى بلغت كما قيل سبعة وثلاثين مجلّد، وأكثر من أربعة آلاف صفحة.

فيبقي الله تعالى ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية كما أبقى الله تعالى ذكر غيره

من علماء هذه الأمة، ومنهم الإمام البخاري -رحمه الله- ، فقد مات شريدًا طريدًا مصادرًا كتبه، ثم شاء الله تعالى أن يعود كتابه من جديد ويُقال عنه أنه أصحّ كتابًا بعد القرآن.

 أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الذين ينتفعون بسيرة هؤلاء الناس وهممهم.. 


* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.

4 تعليقات

التعليقات مغلقة