بتاريخ ٢٣/ ٥/ ١٤٤٦ هـ
لسماع المحاضرة صوتًا
( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )
زينة الإيمان
نبحر اليوم في ظلالِ حديثٍ عظيم علّمه النبي عليه الصلاة والسلام لصاحبه عمار بن ياسر رضي الله عنه،
ويروي هذا الحديث الصحابي السائب بن مالك رضي الله عنه فقال: عن السائب بن مالك قال: صلَّى بنا عمَّارُ بنُ ياسرٍ صلاةً ، فأوجزَ فيها ،
فقالَ لَهُ بعضُ القومِ : لقد خفَّفتَ أو أوجزتَ الصَّلاة! فقالَ :أمَّا على ذلِكَ فقد دعوتُ فيها بدعواتٍ سمعتُهنَّ من رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّه عليه وسلم-
فلمَّا قامَ تبعَهُ رجلٌ منَ القومِ هوَ أبي غيرَ أنَّهُ كنى عن نفسِهِ فسألَهُ عنِ الدُّعاءِ ثمَّ جاءَ فأخبرَ بِهِ القومَ
(اللَّهمَّ بعلمِكَ الغيبَ وقدرتِكَ على الخلقِ أحيِني ما علمتَ الحياةَ خيرًا لي وتوفَّني إذا علمتَ الوفاةَ خيرًا لي وأسألُكَ خَشيتَكَ في الغيبِ والشَّهادةِ
وأسألُكَ كلمةَ الحقِّ في الرِّضا والغضَبِ وأسألُكَ القصدَ في الفقرِ والغنى وأسألُكَ نعيمًا لاَ ينفدُ وأسألُكَ قرَّةَ عينٍ لاَ تنقطعُ وأسألُكَ الرِّضاءَ بعدَ القضاءِ
وأسألُكَ بَردَ العيشِ بعدَ الموتِ وأسألُكَ لذَّةَ النَّظرِ إلى وجْهكَ والشَّوقَ إلى لقائِكَ في غيرِ ضرَّاءَ مضرَّةٍ ولاَ فتنةٍ مضلَّةٍ اللَّهمَّ زيِّنَّا بزينةِ الإيمانِ واجعلنا هداةً مُهتدينَ) [صحيح النسائي]
يعدُّ هذا الدعاء من جوامع الكلم، وهي ميزةٌ أعطيت لنبي الله عليه أفضل الصلاة والتسليم وجوامع الكلم ، جملاً قصيرة تحمل معان عظيمة.
ولهذا الحديث العظيم معان نتطرق لأهمها :
اللهمَّ بعِلْمِكَ الغيبَ:
يعلم الله عزوجل مافي خواطرنا ومصير أقدارنا ويعلم الغيب كله ما نعلمه ومالا نعلمه عن أنفسنا .
وقُدْرَتِكَ عَلَى الخلَقِ:
وللقدرة على الخلق معنيان أولهما قدرة الخالق على خلق ما أراد وقتما أراد .
والمعنى الآخر قدرته سبحانه على الخلق وقهرهم بإنتزاع أرواحهم وقتما شاء وكيفما شاء ،
وقدرته سبحانه على رزق من شاء من الذكور والإناث ومنعهما عمن يشاء ، وقدرته أيضاً على إهلاك الطغاة وإرسال المرض ليصيب به أحدهم دون سواه،
وقدرته عزوجل على أن يحيي ويميت من شاء من خلقه، وأن يعز سبحانه ويذل من يشاء منهم، فالله عز وجل هو القادر على الخلق ،
وإيمان العبد بهذا المعنى يجعله في غاية التسليم فإن أصابه شيء من كرب الدنيا علم أن بيده كل شيء وهو وحده القادر على تغيير الموازين وقلبها !
أحْيِني ما علِمْتَ الحياةَ خيرًا لِي، وتَوَفَّنِي إذا عَلِمْتَ الوفَاةَ خيرًا لي:
للعلماء وقفة في شكل الدعاء الذي أمر العبد أن يدعو به ربّه.
الأول: أن يسأل خيرًا محضًا و يستعيذ من شر محض كأن يقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار،
ولا يمكن أن يدخل في سؤال الجنة شر أو في سؤال النار خير فيكون الدعاء بدوره هنا جزمًا.
قال عليه الصلاة والتسليم: (لا يقولُ أحدُكم اللَّهمَّ اغفِر لي إن شِئت اللَّهمَّ ارحَمني إن شِئت ليعزِم المسألةَ فإنَّه لا مُكرِه لهُ)[صحيح الترمذي].
وليس في غفران الذنب شر بل إن كل الفوز فوز العبد بمغفرة خالقه.
هذا النوع من الدعاء يحتاج لعزم في المسألة وإلحاح في السؤال ورغبة عظيمة في نيل المطلب فلا يقول العبد “إن شئت يا رب” فإن الله يفعل ما يشاء ولا مُكره له،
ولا يعجز سبحانه عن تحقيق مطالب العبد وأن كانت في نظر العبد القاصر بعيدة، فدعى الله عبده أن يسأله الفردوس الأعلى وهي منزلة ينالها الأنبياء والصديقون والشهداء ،
يوجه الله عبده أن يدعوا بتلك المنزلة والعبد يعلم أن بينه وبينهم بُعدًا شاسعًا ولكنّه سبحانه لا يتعاظمه شيء.
والثاني: ألّا يعلم العبد الخير من الشر فيه، ولذلك أرشدنا النبي عليه الصلاة والسلام الاستخارة في كل أمر من أمور الدنيا،
في الوظيفة والزواج والدراسة والبيت وغيرها مما لا يعرف العبد المصلحة بها.
الاستخارة هي الدعاء بكلمات أوصى بها نبيه كما جاء في الحديث( اللَّهُمَّ إنِّي أسْتَخِيرُكَ بعِلْمِكَ، وأَسْتَقْدِرُكَ بقُدْرَتِكَ، وأَسْأَلُكَ مِن فَضْلِكَ العَظِيمِ؛ فإنَّكَ تَقْدِرُ ولَا أقْدِرُ،
وتَعْلَمُ ولَا أعْلَمُ، وأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هذا الأمْرَ خَيْرٌ لي في دِينِي ومعاشِي وعَاقِبَةِ أمْرِي – أوْ قالَ: عَاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ –
فَاقْدُرْهُ لي ويَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لي فِيهِ، وإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هذا الأمْرَ شَرٌّ لي في دِينِي ومعاشِي وعَاقِبَةِ أمْرِي – أوْ قالَ: في عَاجِلِ أمْرِي وآجِلِهِ –
فَاصْرِفْهُ عَنِّي واصْرِفْنِي عنْه، واقْدُرْ لي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أرْضِنِي قالَ: «وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ»)[صحيح البخاري].
لفظ (أستخيرك) يعني أن يضع العبد كل الخيارات بين يدي من هو أعلم بها ومن سوى خالقه أعلم، سواء أكان الأمر (في ديني ومعاشي وعاقبة أمري)
فإما أن يقدرها لمصلحة أو يصرفها عنه وإن كان متعلقًا بها قال تعالى :(وَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُوا۟ شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّوا۟ شَيْـًٔا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة –٢١٦]،
ويختم قوله عليه الصلاة والتسليم بالرضا في كل الأحوال على ما يقدره الخالق له أو يصرفه عنه.
ومما لا يعلم العبد الخير من الشر فيه هي الحياة، فالحياة ليست خيرًا لجميع الخلق،
وليس كل من طال عمره ازداد واستكثر من الصالحات، بل إن من الخلق من يرتد على عقبه في كبره.
يقول عليه الصلاة والتسليم: (لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ مِن ضُرٍّ أصابَهُ، فإنْ كانَ لا بُدَّ فاعِلًا،
فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أحْيِنِي ما كانَتِ الحَياةُ خَيْرًا لِي، وتَوَفَّنِي إذا كانَتِ الوَفاةُ خَيْرًا لِي) [صحيح البخاري]
وفي حديث آخر: (لا يتمنَّينَّ أحدٌ منكمُ الموتَ إمَّا محسنًا فلعلَّهُ أن يزدادَ خيرًا وإمَّا مسيئًا فلعلَّهُ أن يستعتبَ) [صحيح النسائي]
فإن كان العبد محسنًا فلعله يزداد إحسانًا، وإن كان مسيئًا فقبض روحه على هذا الحال هلاكاً له ، لذا أمر الله العبد بالدعاء بطول العمر لخير يلحق به وأن يرزق توبة قبل الموت .
وفي الحديث: (أنَّ رجلًا قالَ : يا رسولَ اللَّهِ أيُّ النَّاسِ خيرٌ ؟ قالَ : مَن طالَ عمرُهُ ، وحَسنَ عملُهُ ،
قالَ : فأيُّ النَّاسِ شرٌّ ؟ قالَ : مَن طالَ عمرُهُ وساءَ عملُهُ)
[صحيح الترمذي] طول العمر ليس معقوداً بحسن العمل فكم ممن كبر عمره وتخفف في دينه!
وفي الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَليسَ قد مَكَثَ هذا بعدَهُ سَنَةً قالوا بلى قال وأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصامَ وصلَّى كذا وكذا
من سَجْدَةٍ في السَّنَةِ قالوا بلى قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فما بينَهُما أَبْعَدُ مِمَّا بين السَّماءِ والأرضِ)
[صحيح ابن ماجة] زيادة عمر العبد يوماً واحداً شرف له إن عمر بالصالحات .
ما هي الحالة التي يجوز للمرء فيها أن يتمنى الوت؟
أولًا: تمني الموت لضرٍ نزل بالعبد وهذا منهي عنه، فأنه لا يعلم ماينتظره ويستقبله من أهوال الموت فهي أعظم بكثير مما يلقى من مصائب الدنيا،
ولعلّ البلاء الذي حل بالعبد كفقد عزيز أو مرض يصيبه منجاة وتطهيرًا له من الذنوب حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة واحدة،
وقد سمع ابن عمر رجلًا يتمنى الموت فَقَالَ: لا تتمنى الموت فإنك ميت، ولكن سل الله العافية، فإن الميت ينكشف له عن هول عظيم.
ثانيًا: من تمنى الموت خشية فتن الدنيا، فرأى تغير حال من حوله وتفلت عرى الدين، فخشي على نفسه فهذا التمني جائز.
على المؤمن أن يدعوا بما دعى به نبينا عليه أفضل الصلاة والتسليم: (اللَّهُمَّ اجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لي في كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لي مِن كُلِّ شَرٍّ.)[صحيح مسلم]
اللهمَّ إِنَّي أسألُكَ خشْيَتَكَ في الغيبِ والشهادَةِ:
حين يسأل العبد خالقه الخشية في الغيب والشهادة، فهو يسأله نمو الإيمان في داخله حتى يكون الغيب والشهادة عنده سواسية،
فأن يخشى العبد خالقه في الشهادة (العلن) فلا يرى منه إلا الحسن فهذا سهل، ولكن المناط يكون في الغيب عندما يختلي العبد بنفسه فلا يراه غيره سبحانه،
فالخلوة هي مكان امتحان الله للعبد فإن حسن عمله فهو مع الذين امتدحهم أنهم يخشون ربهم بالغيب فقال عنهم سبحانه: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [سورة الملك – ١٢]
وكان بعض السلف يقول داعياً : زهّدنا الله وإياكم في الحرام زهادة من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه.
وقال أحدهم: ليس الخائف من بكى وعصر عينيه، إنما الخائف من ترك ما اشتهى من الحرام إذا قدر عليه، فمن أيقن بمعية الله حيثما كان وأينما كان فقد وصل لأعلى مراتب الإيمان.
وأسأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا والغضَبِ:
قال عليه الصلاة والسلام: (فَما تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟ قالَ قُلْنا: الَّذي لا يَصْرَعُهُ الرِّجالُ، قالَ: ليْسَ بذلكَ، ولَكِنَّهُ الَّذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ.)[صحيح مسلم]. وهذا تصحيح نبوي لمفهوم القوة!
فالعبد المؤمن يتساوى حاله في الغضب والرضا، فكلمة الحق هي ذاتها لا تتبدل ولا تتغير ،ومهما بلغ من ظلم العبد لأخيه فإن المؤمن الحق ليس بمنتقماً ولا مستشفياً بمن ظلمه.
ولذلك لما جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال يا رسول الله ما يباعدني عن غضب الله؟ قال: لا تغضب.
وقال مورق العجلي: ما قلت في الغضب شيئًا إلا ندمت عليه في الرضا. يغيب العقل عند الغضب ويعود إليه بزواله فيندم ويأسف لحاله وفعله.
وأسألُكَ القصدَ في الفقرِ والغِنَى:
القصد هو التوسط في الأمر، إن كان مال العبد كثيرًا أو كان قليلًا فهو مأمور بسؤال الله التوسط، فلا طغيان بالمال وبسط اليد وكأن المال بحراً لا ينفد ،
ولا تقتير وبخل على نفسه ومن يعول، وكان هذا هو حال النبي عليه الصلاة والسلام مصداقًا لقول الله عز وجل:
(وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) [سورة الإسراء –٢٩].
والمؤمن الحق هو من استكثر من المال لآخرته، فينفق العبد في سبيل الله ولا يضيعها في دنياه لتبقى له، كما جاء من بعض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبا ذَرٍ:
(قالَ: إنَّ الأكْثَرِينَ هُمُ الأقَلُّونَ يَومَ القِيامَةِ، إلَّا مَن قالَ هَكَذا وهَكَذا وهَكَذا )
[صحيح مسلم] يعني صرفها هُنا وهُنا في أوجه الخير.
وأسألُكَ نعيمًا لَا ينفَدُ، وأسالُكَ قرَّةَ عينٍ لا تنقَطِعُ:
كلُّ ما في الدنيا ينفد، وكل لذّات الدنيا مكدرة، وكل نعيم فيها منغص، والنعيم الذي لا ينفد هو ما عند الله عز وجل، يقول تعالى: (مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ ۗ) [النحل – ٩٦].
وإن واحدًا من أعظم نعيم الجنة دوامه وبقاءه، وأن العبد يعلم حين دخول الجنة أنها دار خلود فلا حياة بعدها،
وفي الحديث أنه ينادي منادٍ: ( يا أهْلَ الجَنَّةِ، خُلُودٌ فلا مَوْتَ )[صحيح البخاري] وجاء في حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم :
(إنَّ لكم أن تَصِحُّوا فلا تسقَموا أبدًا ، و إنَّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا ، و إنَّ لكم أن تشِبُّوا فلا تهرَموا أبدًا ، و أنَّ لكم أن تنعَموا فلا تبْأسوا أبدًا) [صحيح الجامع].
وكان من دعاء ابن مسعود رضي الله عنه:«اللَّهُمَّ إنِّي أسأَلُكَ نعيمًا لا يَبيدُ، وقُرَّةَ عَينٍ لا تنفَدُ، ومُرافَقةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ محمَّدٍ في أعْلى الجنَّةِ، جنَّةِ الخُلدِ.»[تخريج المسند لشعيب]
وقرة عين التي لا تنفد : قال السلف-رحمهم الله-: ما ترك الموت للمؤمن قرّة عين في مال ولا أهل ولا ولد ،
فالعين لا تقرّ إلا في الجنة، فالمال قد يزول، والولد والأهل يفقد . فمن قرّت عينه بمناجاة ربه سرًا في ظلام الليل أقرّ الله عينه به.
وأسألُكَ الرِّضَى بعدَ القضاءِ:
القضاء نازل، وسؤال الله رضاه بعد قضاءه هو مقام عظيم، يقول الله عز وجل: (رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا۟ عَنْهُ) [التوبة – ١٠٠]
الابتلاء ليس بسهل، وانتزاع الله من العبد ما يحب أمر عظيم، وجاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(إذا مات ولدٌ لعبدٍ قال اللهُ عزَّ وجلَّ لملائكتِه قبضتم ولدَ عبدي فيقولون نعم فيقولُ قبضتم ثمرةَ فؤادِه فيقولون نعم فيقولُ ماذا قال عبدي
فيقولون حمَدك واسترجع فيقولُ ابنُوا لعبدي بيتًا في الجنَّةِ وسمُّوه بيتَ الحمدِ )[الترغيب والترهيب].
وقال بعض السلف-رحمهم الله-: لن يرد يوم القيامة أحد أعظم درجة من الراضين بقضاء الله.
وأسألُكَ برْدَ العيشِ بعدَ الموْتِ، وأسألُكَ لذَّةَ النظرِ إلى وجهِكَ، والشوْقَ إلى لقائِكَ في غيرِ ضراءَ مُضِرَّةٍ، ولا فتنةٍ مُضِلَّةٍ:
يخيل للعبد أن الموت حرارة وظلامًا، لذا كان دعاء النبي عليه الصلاة والسلام برد العيش بعد الموت ليبدأ بها أولى لحظات حياته الأخروية.
ثم يسأل عليه الصلاة والسلام خالقه النظر لوجه الكريم، وقد قال عليه الصلاة و السلام في هذه اللحظة المبهرة:
(إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، قالَ: يقولُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: تُرِيدُونَ شيئًا أزِيدُكُمْ؟ فيَقولونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنا؟ ألَمْ تُدْخِلْنا الجَنَّةَ،
وتُنَجِّنا مِنَ النَّارِ؟ قالَ: فَيَكْشِفُ الحِجابَ، فَما أُعْطُوا شيئًا أحَبَّ إليهِم مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ.)[صحيح مسلم].
فالدنيا لا تطيب بغير ذكره، ولا تطيب الآخرة دون عفوه، ولا تطيب الجنة بغير رؤية وجهه جل جلاله.
اللهم زيِّنَّا بزينَةِ الإيمانِ:
زينة الإيمان ليست حديث يقال، بل قول وعمل واعتقاد، فزينة القلب أن يعتقد أن الله هو الذي ينفع ويضر،
وأن يحبه ويخشاه ويتوكل عليه ويخافه ويشتاق إليه، وزينة اللسان أن لا يسمع منه إلا خيراً فزينته قراءة القرآن، والأذكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وزينة الجوارح هي أن تفعل ما يرضي الله من صلاة وصيام وصدقات.
يقول الله عز وجل: (يَـٰبَنِىٓ ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَٰرِى سَوْءَٰتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ ءَايَـٰتِ ٱللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [ الأعراف – ٢٦]
إذاً فالله مثل ما نتعبده بهذا اللباس الذي نلبسه ،وأيضًا يذكر ” وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ” الذي هو زينة الإيمان،
قال الحسن: في قوله صلى الله عليه وسلم “إن الله جميل يحب الجمال” قال: يحب أن يتجمل له بالطاعة.
لكن زينة الإيمان تحتاج إلى جهد ومجاهدة ومصابرة ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ اللهَ تعالى لَا ينظرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأمْوالِكُمْ ، ولكنْ إِنَّما ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم)[صحيح الجامع].
واجعلنا هُداةً مهتدينَ:
فهذا النور الذي هداك الله إليه حقاً عليك أن تجعله متعديًا وتهدي غيرك إليه.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه عندما بعثه لفتح خيبر (انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ،
وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ) [صحيح البخاري].
حمر النعم المال الذي يتنافس ويتسابق إليه الخلق جميعاً هو ليس عند الله بشيء أمام أن تكون سبباً في هداية أحدهم أو توبته،
أو دلالته على عمل صالح فذاك فيه من الخير العظيم لا يعدله كنز من كنوز الدنيا.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا)[صحيح مسلم] ،
أن يكون العبد سببًا في هداية آخر لأمر ما، ثم يعلم هو بدوره أهله وقومه، فإن للأول أجورهم جميعًا لا ينقص ذلك منهم شيئًا،
ولذا كان أفضل الصدقة أن تعلم جاهلًا أو توقظ غافلًا.
دعى عمار بهذا الحديث العظيم في صلاته وجعله في آخر صلاته بعد التشهد وقبل السلام لكونه موطناً من مواطن الإجابة ،
كما هو موطن قرب العبد من خالقه في السجود، فحرياً بالعبد الدعاء بها.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.