بتاريخ ٧/ ٧/ ١٤٤١ هـ
لسماع المحاضرة صوتًا
( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )
اللهم أنت الهادي
هل مرَّ بك في مواقف الحياة أنك لا تستطيع اتخاذ القرار بين شيئين؟ أو تشعر بأنك توصّلت إلى معرفة الطريق الصحيح الذي يرضي الله -عز وجل-
لكن لا تجد في نفسك استطاعة أن تسلكه، أو لا تجد في نفسك الرغبة لذلك، رغم أنك متيقن يقينًا جازمًا بأن هذا هو الأمر الصحيح الذي يجب أن يُفعل!
وهل مرَّ بك شعور بأنك تتوق إلى فعل أمرٍ لكنك لا تستطيع فعله؟
حديثنا عن اسم الله (الهادي)، الذي يهدي الإنسان ليس إلى معرفة الطريق فحسب، وإنما إلى معرفة الطريق والاستمرار في السير عليه،
إذًا نحن لا غنى لنا عن هاتين الهدايتين: هداية معرفة الطريق الحق، ثم أن يعطينا الله -عز وجل- القوة والهداية الكافية كي نستمر على هذا الطريق.
ورد اسم الله الهادي في موضعين في كتاب الله -عز وجل-:
1-“وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” (الحج:54).
2-“وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا” (الفرقان: 31)، فجمع الله بين الهداية والنصرة في هذا الموضع.
ما الذي يخطر ببالك حين تسأل الله الهداية؟ ما هي معاني الهداية التي تجول في خاطرك؟
أنواع الهداية:
للهداية أربعة أنواع:
1-الهداية العامة: عامة لكل الخلق، يهدي بها الله الكافر والمؤمن والإنسان والحيوان، فمن أمثلة هداية الله للحيوان هجرة الأسماك والطيور من مكان إلى مكان بطريقة دقيقة جدًا لا يتخلف عنها واحد.
إذًا هذا الكون يتحرك بأمر الله -عز وجل- وبهدايته العامة لجميع الخلق، الإنس والحيوان، البرُّ والفاجر.
2-هداية الدلالة: الله -عز وجل- ما خلق الخلق ثم تركهم هملًا، وإنما خلقهم ثم هداهم إلى ما يجعل به استمرار حياتهم.
ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل وأنزل الكتب؛ لأن هناك عالم غيبي لا يمكن للإنسان معرفته دون الرسالات.
3-هداية التوفيق: وهي أن يوفقك الله لفعل الخير الذي عرفته وقامت عليك الحجة بتعلمه. فعندما يهديك الله هداية التوفيق فإنه ينقلك من الظلمات إلى النور.
هداية الدلالة يقوم بها كل داعية، لكن هداية التوفيق لا يملكها إلا الله -عز وجل-، قال الله -تعالى-: “إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ” (القصص: 56).
فلو استطاع الإنسان أن يغرس الهداية في قلب من يحب غرسًا لفعل! ولكن هذه الهداية لا تأتي إلا من عند الله -عز وجل-.
وقد أرشدنا -عليه الصلاة والسلام- إلى أن نكثر من سؤال الله -عز وجل- الهداية؛ فمن الأدعية الواردة قوله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، …” [أخرجه أبو داود في سننه، وقال الألباني: صحيح].
ومن جوامع الدعاء التي علمنا إياها النبي -عليه الصلاة والسلام قال: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى»[أخرجه مسلم، صحيح].
4-هداية النعمة: وهي الهداية إلى الجنة. الهداية في الآخرة نوعان: هداية إلى الجنة وهداية إلى النار.
قال الله -عز وجل-: “احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْجَحِيمِ” (الصافات: 22،23).
وفي المقابل فإن الله -تعالى- يخبرنا عن أهل الجنة أنهم يقولون بعد دخولها: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ” (الأعراف: 43)،
هذا هو شعور المنة والاغتباط بنعمة الله، فلولا هدايته لنا وأنه رزقنا القوة والإرادة وهدانا هداية التوفيق ثم هدانا إلى الجنة؛ لما كنا من أهلها.
أسباب الهداية:
لابد من بذل السبب حتى تُنال الهداية، فإن الله -عز وجل- يقول في الحديث القدسي: “يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ …” [أخرجه مسلم، صحيح]،
فينبغي لنا أن نتلمس طريق الهداية حتى نكون أحرى بهداية الله -عز وجل- أن تتنزل على قلوبنا.
1-قد تستغرب السبب الأول وهو: أن تتعلم في مدرسة الخلق.
فإن الله -تعالى- لم يخلق الخلق ولم يعظمه في كتابه عبثًا، بل ليتدبر فيه الإنسان؛ فالتدبر ضروريٌ لحياة القلب.
فعندما تنظر إلى السماء بأنها شيء أزرق متسع فقط فأنت تنظر إليها ببصرك المجرد، أما عندما تتفكر في أبوابها وأطيطها وملائكتها، وأنها سبعًا طباقًا،
وأن الله يحيط بهذا كله علمًا. ثم تلتفت إلى الأرض التي تمشي عليها، أتظن أن هذه الأرضَ التي نحن جلوسٌ عليها لا تشهد يوم القيامة؟
لو كنت تقرأ الكونَ بهذه الطريقةِ وعيناك مفتوحتان لتأمّل هذه المعاني فلا يمكن أن تذنبَ وتعصي بقلب بارد. استنهض الهمة برؤية هذا الكون، وافتح منافذ قلبك،
واستقبل ما عند الله -عز وجل- من هدايات، وهذه الهدايات هي ما تراه في هذا الكون، من أشياء تسبح بحمد الله -عز وجل-.
2-السبب الثاني من أسباب الهداية: الاستماع للقرآن والعيش معه.
القرآن هو منهج حياة، فلن تستطيع السير في الدنيا دون أن يكون لك حالٌ وعلاقةٌ مع القرآن، وهذه العلاقة لابد أن تكون حفظًا، تدبرًا، وتفسيرًا.
يقول الله -عز وجل-: “إِنّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلّتِي هِيَ أَقْوَمُ” (الإسراء: 9)، فإذا كنت تبحث عن الهدى، فإن الهدى في هذا القرآن؛ يهديك لأحسن الطرق في معاملاتك الاجتماعية، في معاملاتك المادية، في حياتك، وفي نفسك.
3-السبب الثالث من أسباب الهداية: التأمل في أفعال الله.
فإنه من مقومات الهداية أن تُعمل عقلك وتفكيرك في الذي يحدث حولك في الكون، وتأمل الحكمة وراء ما يحدث. يحدث أحيانًا أن تغيب الحكمة عنك وتشعر أن كل ما يحدث حولك يسير بالعكس،
لكن عندما تتلمّس حكمة الله -عز وجل- تجدها قريبة، وترى الأمور بمقاييس مختلفة، فيمتلئ قلبُك يقينًا وتسليمًا لأمر الله.
4-السبب الرابع هو: أن تصاحب الصالحين.
ففي سوره الكهف التي موضوعها النجاة من الفتن، جاء الأمر فيها بصحبة الصالحين،
قال الله -عز وجل-: “وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا” (الكهف: 28)،
لاحظ قوله: “واصبر نفسك”؛ لأن هؤلاء لن يدعوك إلى جلسة لهو ورقص، بل هم يدعون ربهم بالغداة والعشي، فحاول أن تكون معهم، واصبر على هذه المجالس،\
لأنك لابد أن تُجالس وتتأثّر، فإما صحبة خير، وإما صحبة شر. فتّش في الناس الذين حولك، ستجد أن منهم صحبة كلما التقيت بهم روَوا قلبك بالخير، ومنهم صحبة تعلم أن لقياهم يفتح أبوابًا من الشر.
5-السبب الأخير هو: قُربك من المَلَك.
في الحديث: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً”()، فكل واحدٍ منا عليه أثرُ هذه اللمة، إما لمةُ الملك التي هي إيعادٌ بالخير وتصديقٌ بالحق،
وإما لمةُ الشيطان والتي هي إيعادٌ بالشر وتكذيبٌ بالحق. قد تتكرر على الإنسان مواقف يشعر بداخله حينها أن هناك داعٍ للخير وداعٍ للشر،
هذا الجدلُ الذي يجري في حديثِ النفس هو حديثُ الملك وحديثُ الشيطان، كلما كانت قراراتك أقرب إلى صوت الملك كان داعي الخير في نفسك أقوى،
وكلما استجبت للشيطان صار داعي الشر في نفسك أقوى وأشد تأثيرًا في حياتك. فمن رحمة الله بك أنه لن يخلّي بينك وبين شيطانك، بل يجعل معك جنديًا وهو واعظ الله في قلب كل مؤمن!
موانع الهداية:
من الذي يُحرم من هذه الهداية؟
1-يقول الله -تعالى-: “وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (آل عمران: 86)، والظلم أنواعٌ، منها: ظلم العبد لنفسه، بفعل السيئات.
2-كما يُحرم من الهداية كلّ كاذب كفار، يقول -تعالى-: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ” (الزمر: 3).
3-الإسراف، فهو يحرمُ العبدَ الهدايةَ في الدنيا.
4-الفسق، يقول الله -عز وجل-: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ” (المنافقون:6).
5الشبهات والشهوات. فإياك أن تسرف في المعصية، فإذا غلبتك يومًا وفعلت ذنبًا فارجع مباشرة إلى ربك ولا تسرف في المعصية، ولا تستلذّ بها.
كيف تكون عبدًا هاديًا مهديًا؟
حين نسأل الله باسمه الهادي، فإننا نستحضر هذا المُراد، أن يدخلنا برحمته في عباده الهادين المهديين. قد يجدك الله -عز وجل- محتارًا تائهًا،
فيلهمك رشدَك وصوابَك، ويحرفك عن طريق الضلال إلى طريق الرشاد، بل ويهدي إليك الأمور التي توصلك إلى الطريق.
وحين تتأمل في أفعال الله -سبحانه- ستجد أمورًا عدّة كنت تظنها صدفة، لكنها ليست كذلك! إما آية تسمعها، أو مقطعًا يصلك في وقته، وهذي من هدايات الله -عز وجل- لك.
إذا أردت أن تكون عبدًا هاديًا مهديًا:
أولًا: أن تجاهد. قال الله -عز وجل-: “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا” (العنكبوت: 69)، فالطريق لابد أن تبدأ خطوته الأولى منك،
لا بد أن تجاهد نفسك وتحارب شيطانك، فيرى الله جهادك، فيهديك، لكن الخطوة الأولى لابد أن تكون منك.
ثانيًا: أن تتقي الله. يقول الله -عز وجل-: “هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ” (البقرة: 2)، ثم يصفهم ربنا -عز وجل- ويمتدحهم: “أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (البقرة: 5)
والتقوى: أن يكون بينك وبين محارم الله حاجز ووقاية، فلا تكن في اجتناب المحرمات وفي عمل الطاعات على شفى جُرف، لا تكن ممن يتعبد الله -تعالى- على الخط الأخير،
ولا تجعل بينك وبين النار شبرًا واحدًا، فإنك والله لن تطيق أن تجرب حرّها. ابحث عن الأفضل في جنب الله والأكمل، وافعله، لا تأخذ دائمًا بالأقل.
ثالثًا: الاعتصام بالله. قال الله -تعالى-: ” وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ” (آل عمران: 101)،
وما هو الاعتصام؟ الاعتصام هو أن تتمسك بحبل الله، وتلوذ وتفرّ إليه. فحين تهبّ عليك ريح شديدة من الفتن تدفعك حتى تأتي ما تركت من الذنوب،
هنا نقول: لا ترخي يديك! ففي تلك اللحظة التي تظن فيها أنك وصلت إلى أضعف نقطة يتنزل تأييد الله ونصره.
رابعًا: التخلّي عن موانع الهداية. من كفر، وظلم، وفسق، وكذب، وغيرها مما سبق ذكرها.
خامسًا: أن تدعو إلى الله. الدعوة إلى الله هي أعلى مقامات العبودية، وعلاقة الدعوة إلى الله باسم الله الهادي: لأن الجزاء من جنس العمل، فكما أنك تهدي الناس إلى طريق الله، يكون شكر الله لك بأن يهديك ويثبت قلبك.
مراتب الهداية: يقول ابن القيم: الهداية عشر مراتب:
المرتبة الأولى: العلم والبيان.
المرتبة الثانية: القدرة.
المرتبة الثالثة: الإرادة. لأنه من الممكن أن تكون عندك القدرة وأنت في شبابك وبصحتك، لكن ليست لديك إرادة.
المرتبة الرابعة: هداية الفعل.
والخامسة: الثبات. قد تكون فعلتها في مواسم الخير، لكن حتى تستمر عليها فإنك تحتاج إلى الثبات.
والسادسة: أن يصرف الله عنك الموانع. فلا يكون في طريقك تلك الابتلاءات والموانع التي تصرفك عن الهداية.
السابعة: الهداية الخاصة. يلهمك الله في هذه المرتبة -مثلًا- طريقة في حفظ القرآن، أصبح بعدها حفظك له متقنًا يجري كالماء،
فيهديك الله هداية خاصة تجد معها نفسك استطاعت أن تفعل الطاعات مع نوع من الخصوصية.
المرتبة الثامنة: أن تشهد مقصود الطريق. فترى آثار أفعالك، فلو كنت إنسانًا عصبيًّا، ثم تجد نفسك تغيرت مع المحافظة على صلاة الضحى،
شعرت بأن نفسك أكثر سكينة وهدوء، وهذا الشهود تمهيدًا للهداية الأخيرة وهي هدايته إلى الجنة.
وأما التاسعة: فهي أن يُشهدك فقرك وضرورتك إليه. فلا تعجب بنفسك بعد أن نلت الهداية الخاصة وشهدت آثارها، فتحس دائمًا بالحنين إلى الله -عز وجل- والحاجة إليه.
وأما العاشرة: فهي قول الله -عز وجل-: “وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ” (البلد: 10). أي أن الله يريك الطريقين، فيريك نعيم أهل الجنة ويريك عذاب أهل النار في الدنيا،
فترى من كآبتهم، وضيق نفوسهم من الحياة ومن أقدار الله فيهم ما يجعلك تثبت في طريقك.
القاعدة تقول: الجزاء من جنس العمل. فإذا هداك الله في الدنيا وسلكت صراطه المستقيم، فإنه يهديك إلى صراطه المستقيم في الآخرة، فيجعلك تجوزه بحسب سيرك في الدنيا.
وعلى قدر الشهوات والشبهات التي تخطّفك في الدنيا؛ تتخطّفك الكلاليب في صراط الآخرة، ففي كل مرة تسقط فيها بكلاليب الشهوات أو الشبهات تذكر كلاليب الصراط؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن هداهم إلى الصراط المستقيم، وأن يغفر لنا ويرحمنا، وأن يهدينا سواء السبيل.
* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.