بتاريخ ١٣/ ٣/ ١٤٤٦ هـ
لسماع المحاضرة صوتًا
( كرمًا المحاضرة الصوتية للنساء فقط )
حديثنا الليلة عن سيرة أحد المبشرين بالجنة، وهو صحابي جليل أثنى عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- ثناءً لا يشابهه ثناء،
وبعثه النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى نجران حين طُلب منه أن يُرسل إليهم أمينٌ يعلمهم الإسلام والقرآن،
وهو الملقب بقائد الجيوش، وفاتح الديار الشامية، وأمير الأمراء، وأمين الأمة المحمدية،
يلقب بأبو عبيدة بن الجراح، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة،
فقد روي عن سعيد بن زيد -المكنى بأبي الأعور- عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:
(عَشَرَةٌ فِي الجَنَّةِ: أَبُو بَكْرٍ فِي الجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. قَالَ: فَعَدَّ هَؤُلاءِ التِّسْعَةَ وَسَكَتَ عَنِ العَاشِرِ، فَقَالَ القَوْمُ: نَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَبَا الأَعْوَرِ مَنِ العَاشِرُ؟ قَالَ: نَشَدْتُمُونِي بِاللَّهِ، أَبُو الأَعْوَرِ فِي الجَنَّةِ) [أخرجه الترمذي في سننه، وقال الألباني: صحيح]
وهنا سنسرد سيرة أبو عبيدة بن الجراح –رضي الله عنه– ونتعمق فيها:
اسمه ونسبه:
هو عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أُهَيْب بن ضبَّة بن الحارث بن فهر بن مالك القرشي،
يلتقي نسبه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في فهر بن مالك. يُكنّى بأمين الأمة، وأمير الأمراء، وفاتح الديار الشامية.
صفته وهيأته:
طويل القامة، نحيف الجسم، معروق الوجه، خفيف اللحية،
أثرم (أي: انكسرت ثناياه من أصولها)، أحنى، وقيل أجبى (أي: يميل كاهله على صدره).
متى أسلم أبو عبيدة بن الجراح؟
من أوائل الذين أسلموا، فقد أسلم بعد يوم من إسلام أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما-، وهذا من مناقب أبي بكر -رضي الله عنه-،
حيث انطلق بيد عثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة، وأبو عبيدة بن الجراح، إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-،
فكلمهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعرض عليهم الإسلام وأنبأهم بشرائعه، فأسلموا في ساعة واحدة.
وقفة:
في هذه اللحظات الأولى، يكون هؤلائ هم أهل السبق الأوائل تخيل ( الذين يصلحون إذا فسد الناس)، هؤلاء العشرة المبشرين بالجنة،
أسلموا في ريعان شبابهم، حين لم يكن على وجه الأرض مسلماً واحداً ! أسلموا وبايعوا أنفسهم لله عز وجل، لمجرد أنهم عرفوا الحق والنور فأنار قلوبهم ،
ولنرى أنفسنا مقابل فعلهم ، وقرارتنا المؤجلة في حياتنا ، ترددنا و عودتنا ، و أرجلنا الثقيلة في اتخاذ قرارتنا كل ذلك حرصاً على دينانا.
مبايعة أبو عبيدة بن الجراح للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم-:
بايع أبو عبيدة -رضي الله عنه- النبي -عليه الصلاة والسلام-، وتضمنت هذه البيعة أن ينفق حياته كلها في سبيل الله،
وأوفى أبو عبيدة بعهده، وأبرَّ به، ولذلك هاجر إلى الحبشة عندما أوذي في مكة، وهاجر مرة أخرى من مكة إلى المدينة،
وقد شهد أولى المشاهد مع النبي -عليه الصلاة والسلام- في غزوة بدر، وثبت مع الصحابة الذين ثبتوا في سائر الغزوات، وبعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- أكمل الرسالة التي بايعه عليها.
حياته قبل الإسلام:
كان أبو عبيدة -رضي الله عنه- من القلائل الذين لم تذكر المصادر التاريخية شيئاً عن حياتهم قبل الإسلام،
وهناك كلمة جميلة قيلت في ذلك: ”ربما يشير هذا إلى أن حياة هذا الصحابي بدأت مع إسلامه، فكأن أبو عبيدة لم يكن شيئاً إلا عندما أسلم“.
أحب الناس إلى رسول الله -صلي الله عليه وسلم- أبو عبيدة بن الجراح:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: ( قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَيُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ؟
قَالَتْ: «أَبُو بَكْرٍ»، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَتْ: «عُمَرُ»، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَتْ: «ثُمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ») [أخرجه الترمذي في سننه، وقال الألباني : صحيح]
مواقف أبو عبيدة بن الجراح:
الموقف الأول: في غزة بدر
كان أبو عبيدة -رضي الله عنه- في غزوة بدر يتنحى عن مواجهة أبيه الذي لم يسلم، ويصد عنه، لا يريد أن يقتله،
إلا أن أباه يريد أن يقتله في سبيل اللات والعزى! فلما أكثر عليه أبوه يريد قتاله، لم يكن له بُد من ذلك! فما كان منه إلا أن رفع السيف وبارز أباه وقتله!
شعور مؤلم أن تبارز أغلى الناس، وأحبهم إليك، لقد حاول مراراً أن لا يقاتله لكن والده أصر على المواجهة،
فلما قتل أباه نزلت فيه هذه الآية، قال تعالى :﴿لا تَجِدُ قَومًا يُؤمِنونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ يُوادّونَ مَن حادَّ اللَّهَ وَرَسولَهُ وَلَو كانوا آباءَهُم أَو أَبناءَهُم أَو إِخوانَهُم
أَو عَشيرَتَهُم أُولئِكَ كَتَبَ في قُلوبِهِمُ الإيمانَ وَأَيَّدَهُم بِروحٍ مِنهُ وَيُدخِلُهُم جَنّاتٍ تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها رَضِيَ اللَّهُ عَنهُم وَرَضوا عَنهُ أُولئِكَ حِزبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزبَ اللَّهِ هُمُ المُفلِحونَ﴾ [المجادلة: ٢٢]
انظر إلى هذا التشريف، ومراعاة مشاعر هذا الصحابي الجليل، فالأمر جلل و مؤلم على أبي عبيدة أن يقتل أباه!
الموقف الثاني : في غزوة أحد
في غزوة أحد، وهي من المعارك المؤلمة على المسلمين، كثر فيها القتلى والجرحى، ورُمي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فشجّت جبهته،
ودخلت في وجنته حلقتان من حلق المغفر، تخيلوا الرسول -عليه الصلاة والسلام- شُجّ رأسه فسال الدم على وجهه، ودخل الحديد في خديه بين فكيه،
فأقبل عليه أبو بكر -رضي الله عنه-، فإذا هو بأبي عبيدة بن الجرّاح قد سبقه مسرعاً، ونظر لأبي بكر وقال: أسألك بالله يا أبا بكر إلا تركتني،
فحاول أبو عبيدة بن الجراح أن ينزع الحلق المغفر بيده عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يستطع أن ينزعه بيده،
فالتقم بأسنانه هذا الحديد وجعل يدفع بنفسه وبرأسه لإزالة هذه الحلقة من وجنتي النبي عليه الصلاة والسلام، فنزعها، وسقط على ظهره وسقطت ثنيته ، فلنتخيل المشهد!
وكمية الدم التي سالت من سقوط السن! ومع ذلك لم يتوقف أبو عبيدة -رضي الله عنه- بل التفت للحلقة الثانية رغم أنه يعرف ألمها،
وعض بأسنانه لاستخراج الحلقة الثانية، حتى سقط مرة أخرى على ظهره وسقطت ثنيته الثانية! فكان أبو عبيدة في الناس أثرماً أهتماً،
وكان من أحسن الناس هتمًا، بل لم يُرَ أحد أجمل من ثغر أبي عبيدة! ببركة ما فعل للنبي -عليه الصلاة والسلام-.
تعليق:
هؤلاء الناس بايعوا على أن لا يؤثروا أحد على الله ورسوله، وبالفعل لم يؤثروا أحدًا، شدة الألم في سقوط أسنان أبي عبيدة لا توصف!
ومع ذلك تحملها من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الحب الفعلي الذي لا يكذب، وهذا الحب الذي تظهره المواقف.
الموقف الثالث: حصار المسلمين في الشام
قال أَسْلَم مولى عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-: بلغ عمر أن أبا عبيدة حوصر بالشام، ونال منه العدو وسيغلبه،
فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه ما نزل بعبد مؤمن شدة إلا جعل الله بعدها فرجًا وأنه لا يغلب عسر يسرين،
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [٢٠٠ آل عمران]
فلننظر إلى جواب أبي عبيدة الذي يدل على رجاحة عقله، كتب إلى عمر بن الخطاب: أما بعد،
فإن الله تعالى يقول: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ
ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُور﴾ [٢٠ الحديد]
شرح مغزى الرسالة :
رسالة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيها تثبيت لأبي عبيدة، وأن اصبروا وصابروا و والله بإذنه سيجعل لكم فرجاً، فماذا رد عليه أبو عبيدة؟
رد لم يكن له علاقة بالنصر ولا بالصبر و لا القتال، بل تكلم عن الدنيا! فما أن قرأها عمر حتى أمسك الكتاب وصعد المنبر،
ونادى بالناس، وقرأ رسالة أبو عبيدة، وقرأ الآية الكريمة على المنبر، ثم قال: يا أهل المدينة إنما يعرض بكم أبو عبيدة، ارغبوا في الجهاد.
ففهم عمر -رضي الله عنه- العبقري الملهَم مغزى الرسالة، وعرف أن أبا عبيدة يعرض بهم لماذا لا تنصروننا في المعركة؟
صفاته وأخلاقه:
1- كان حسن الخلق ، متبعاَ لأمر سول الله صلى الله عليه وسلم ، لين الشيمة ،أي أنه هين لين مع غيره من الناس وهي صفة يحبها الله و رسوله .
2- أميناً:
جاء عَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قال: (جَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ابْعَثْ لَنَا رَجُلا أَمِينًا فَقَالَ: لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ،
فَاسْتَشْرَفَ لَهُ النَّاسُ فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ) [أخرجه البخاري ، صحيح]
وفي صحيح البخاري ومسلم – عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ) [أخرجه البخاري ، صحيح]
لما جاء العلماء لشرح هذا الحديث قالوا: كل الصحابة رضوان الله عليهم يتصفون بالأمانة،
إلا أن أبا عبيدة -رضي الله عنه- فيه قدر زائد؛ لذا وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بهذه الصفة “أمين هذه الأمة”.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-؛ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو بَكْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ، نِعْمَ الرَّجُلُ أَبُو عُبَيْدَةَ، نِعْمَ الرَّجُلُ أُسَيْدُ بْنُ حُضير،
نِعْمَ الرَّجُلُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) [أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وقال الألباني: صحيح]
انظر إلى هؤلاء الذين أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما أبو عبيدة، فمرة بأنه من أهل الجنة، ومرة بأنه أمين هذه الأمة، وأخرى بأنه نعم الرجل؛ أي أنعم وأكرم.
3- أبو عبيدة بن الجراح لم يكن إنساناً عادياَ بل كان من أزهد الناس:
– يوما ما أرسل عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة -رضي الله عنهما- أربعة آلاف درهم، وأربع مئة دينار،
ثم قال للرسول: سلم له المبلغ وانظر ما يصنع. وهذه من أفعال عمر بن الخطاب الخاصة، يمتحن فيها الصحابة، ويتأكد أنهم على الأمر ما غيروا ولا بدلوا، فقسمها أبو عبيدة ولم يبق منها شيء.
– وقدم عمر رضي الله عنه يوماً إلى الشام، فتلقاه الناس وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: من؟
قال: أبو عبيدة. قالوا: الآن يأتيك. فلما أتاه نزل فاعتنقه، ثم دخل عليه بيته فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه ورحله،
فقال له عمر: “ألا اتخذت ما اتخذ أصحابك”، بمعنى أنت في الشام، بلد غنى وخيرات، فهلا أخذت ما اتخذه أصحابك من البيت والأثاث الجديد.
فأجابه أبو عبيدة: “يا أمير المؤمنين هذا يبلغني المقيل” بمعنى هذا يكفيني، فلماذا الزيادة؟!
4- رجاحة العقل
كان لأبي عبيدة علاقة خاصة مع عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، وكان عمر يحب الرجال الملهمة، ويحب الرجال ذوي العقل الراجح،
وله نظره في معرفة الرجال، ولذلك نشأت علاقة خاصة بينه وبين أبو عبيدة رضي الله عنهما، وهذه العلاقة علاقة أخوة وصحبة ومحبة في الله.
وروي عن عمر بن الخَطَّابِ -رضي الله عنه- أنهُ قَالَ لأَصْحَابِهِ: «تَمَنَّوْا»، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ مَمْلُوءَةٌ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَتَصَدَّقُ،
وَقَالَ رَجُلُ: أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ زَبَرْجَدًا وَجَوْهَرًا فَأُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَتَصَدَّقُ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: «تَمَنَّوْا» فَقَالُوا: مَا نَدْرِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
فَقَالَ عُمَرُ: «أَتَمَنَّى لَوْ أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ رِجَالاً مِثْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ» [أخرجه الحاكم في المستدرك، وقال الذهبي: على شرط البخاري وسلم]
قيادته لجيش المسلمين في معركة اليرموك:
كانت معركة اليرموك من المعارك الكبيرة، واجه فيها المسلمون مئات الآلاف من الروم،
وقد وصلت رسالة لجيش المسلمين فيها نعي أبا بكر الصديق -رضي الله عنه-، وأن عمراً -رضي الله عنه- تولى الخلافة، وأمر بتسليم الأمارة إلى أبي عبيدة بن الجراح.
هذا القرار قد يسبب ربكة للجيش وزعزعة لصفوفه، ولكن الأمور جرت بكل سلاسة و انسيابية وسلامة صدر،
فعندما علم خالد بن الوليد رضي الله عنه بقرار أمير المؤمنين بعزله، قال للجيش: ”يا أيها الناس، بُعث عليكم أمين هذه الأمة“،
فلما جاء أبو عبيدة وخطب أمام الجيش، قال: ”سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (خالدٌ سيف من سيوف الله عز وجل ونِعم فتى العشيرة)“ [أخرجه أحمد في مسنده ، وقال الألباني: صحيح لغيره]
الكل يعمل من “أجل مصلحة الغاية الكبرى، نصرة هذا الدين“.
وفاته:
في السنة الثامنة عشر من الهجرة أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشًا إلى الأردن بقيادة أبي عبيدة بن الجراح،
ونزل الجيش في عمواس بالأردن، وكانوا قرابة سته وثلاثين ألف رجلا، وإذا بمرض الطاعون ينتشر بينهم أثناء وجود الجيش،
فوصلت الأخبار إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأرسل مباشرة إلى أبي عبيدة: “أنه قد عرضت لي حاجةٌ ولا غنى بي عنك فيها، فعجل إلي”.
أي: إذا وصلتك رسالتي فارجع إلي في المدينة بسرعة أنا أحتاجك، فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب عرف أن أمير المؤمنين يريد إنقاذه من الطاعون!
فكتب إلى عمر -رضي الله عنه-: ”إني قد عرفت حاجتك فحلّلني من عزيمتك، فإني في جند من أجناد المسلمين، لا أرغب بنفسي عنهم“.
فلما قرأ عمر الكتاب بكى! فقال له من معه مات أبو عبيدة؟ قال: ”لا وكأن قد“، وكأن بمعنى سيموت، فكتب إليه عمر بن الخطاب مرة أخرى أن يخرج من عمواس
إلى منطقة الجابية حتى لا يهلك الجيش كله، فقال أبو عبيدة: “أما هذه فنعم”، فخرجوا من عمواس وذهبوا إلى حيث أمرهم أمير المؤمنين،
إلا أنه مرض بالطاعون- فأوصى بإمارة الجيش إلى معاذ بن جبل، ثم توفى عن عمرٍ يناهز 58 سنة،
وكانت وفاته شهادتين في سبيل الله، خارج للمعركة وأصيب بمرض الطاعون عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) [أخرجه البخاري، صحيح]
ثناء الصحابي معاذ بن جبل عليه:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: لَمَّا طُعِنَ أَبُو عُبَيْدَةَ، قَالَ: يَا مُعَاذُ صَلِّ بِالنَّاسِ، فَصَلَّى مُعَاذٌ بِالنَّاسِ، ثُمَّ مَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ،
فَقَامَ مُعَاذٌ فِي النَّاسِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكُمْ تَوْبَةً نَصُوحًا، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ لَا يَلْقَى اللَّهَ تَائِبًا مِنْ ذَنْبِهِ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ»
ثُمَّ قَالَ: «إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُجِعْتُمْ بِرَجُلٍ وَاللَّهِ مَا أَزْعُمُ أَنِّي رَأَيْتُ مِنْ عَبَّادِ اللَّهِ عَبْدًا قَطُّ أَقَلَّ غَمْزًا وَلَا أَبَرَّ صَدْرًا، وَلَا أَبْعَدَ غَائِلَةً، وَلَا أَشَدَّ حُبًّا لِلْعَاقِبَةِ،
وَلَا أَنْصَحَ لِلْعَامَّةِ مِنْهُ، فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَصْحِرُوا لِلصَّلاةِ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ لَا يَلِي عَلَيْكُمْ مِثْلَهُ أَبَدًا» [أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، سكت عنه الذهبي]
ثم اجتمعوا حتى أتي به إلى قبره، ودخل القبر معاذ بن جبل وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس -رضي الله عنهم-،
فلما وضعوه في لحده وخرجوا، حثوا عليه التراب، فقال معاذ بن جبل: ”يا أبا عبيدة لأثنين عليك ولا أقول باطلا أخاف أن يلحقني بها من الله مقت
كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيراً ومن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً
ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً وكنت والله من المخبتين المتواضعين الذين يرحمون اليتيم والمسكين ويبغضون الخائنين المتكبرين“
فهذا الثناء من معاذ رضي الله عنه على أبي عبيدة الجراح، هو ثناء من أخ عاش مع أخيه كل المشاهد، وعاش معه جل حياته،
فعرفنا من وصف السلف بأن الصحابة كانوا مصاحف تمشي على الأرض!
إذاً هذه السير لهؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم ليس سيراً للاستمتاع فحسب، ولا لمجرد المعرفة، ولا للتوثيق التاريخي،
بل لنهتدي بهديهم، ولنتعلم من سيَرهم، ولنسأل الله عز وجل أن نقتفي آثارهم، ليحشرنا الله عز وجل في زمرتهم.
* تنويه: مادة المحاضرة جمعت من مصادر عدة وجميع المحاضرات في المدونة ليست كتابة حرفية لما ورد في المحاضرة؛ إنما تمت إعادة صياغتها لتُناسب القرّاء وبما لا يُخلُّ بروح المحاضرة ومعانيها.